جاسم الحلفي
“لم افعل ما اندم عليه ولم امارس النشاط السياسي حبا بالجاه، وانما ناضلت من أجل حلم الكادحين في حياة حرة سعيدة تسودها العدالة الحقيقية، بعيدا عن الظلم وكل أنواع الاضطهاد”.
هذا هو لبّ مقدمة مذكرات الرفيق بهاء الدين نوري، القيادي السابق في الحزب الشيوعي العراقي، جوابا على سؤال عما اذا كان نادما على انتمائه الى الحزب الشيوعي غداة اختلافه مع الحزب ومغادرته إطاره التنظيمي.
أقول غادر الاطار التنظيمي للحزب لكنه بقي قريبا من قيمه ومثله. لهذا فاننا لا ننظر اليه والى معظم من غادروا مثله الاطار التنظيمي للحزب لسبب او لآخر، الا كناشطين معطائين، واصحاب فعل متواصل ضمن مشروع حضاري تقدمي انساني، حفر في وجدانهم والوجدان الشعبي، واسهم في تشكيل ضمير حي ونشر رسالة هامة، بعدها الطبقي هو جوهر الصراع بين الظالمين والمظلومين.
بهذا المعنى لم يغادر “أبو سلام” الحزب الشيوعي، كما لم يغادرنا كل المنتمين حقا لمنهج الكفاح من اجل انقاذ جماهير المحرومين والمضطهدين من الاستعباد والاستغلال. لذا كان بديهيا ان تأتي إجابة أبو سلام على السؤال صارمة لا ريب فيها، خاصة وهو معروف بتمسكه برأيه، واعتداده بنفسه، وعدم التنازل عن قناعاته.
بهاء الدين نوري الذي عرفناه قبل ان نلتقيه. هو من كان كتابه (أيام صعبة) من بين الكتب الشيوعية البسيطة في صياغاتها، السهلة في اسلوبها، وقد اعتبرت زادا للشبان اليافعين الجدد في الانتماء، حيث يوميات الكفاح ومآثر وطرائف تفادي المناضلين خبث ورصد أجهزة القمع السلطوية، التي تلاحق الشيوعيين وهم يروّجون لقيم الثورة على الذل والهوان.
بهاء الدين نوري الصلب والعنيد والجريء، ولج طريق الكتابة وصنع لنفسه اسما في هذا الميدان، حيث ولد ونشأ في “قرية على سفح الجبل”، قرية (التكية) التي لا مدرسة فيها آنذاك ولا معلم غير الملا نوري امام جامعها، الذي علم أبناء الفلاحين، ومنهم ابنه بهاء رسم الحروف. ثم اصبح من لم تطأ قدماه ارض مدرسة كاتبا ومؤلفا، اسوة بمن يزخر الحزب بأسمائهم من كبار المثقفين والكتاب. وتمكن من تسجيل صفحات الكفاح المضني للكادحين، مثل انتفاضة فلاحي العمارة المكدودين بوجه اقطاعييها الظالمين، في كتيبه الصغير “انتفاضة ال ازيرج” الذي رصد فيه وقفة الفلاحين البطولية. فلولاه لما جرى تدوين تلك المأثرة، وقد حفظ للأجيال يومياتها في صفحات المجد البطولية الفريدة.
بهاء الدين نوري، الشخصية الملهمة لنا في بدايات انحيازنا لليسار. كم كانت رغبتنا في التعرف عليه جارفة، لم يكن ليجاريها سوى تعلقنا بجيفارا وثوار التوباماروس. تلك الرغبة التي تبددت عندما عايشناه عن قرب، ووجدناه شخصا اعتياديا لا يحمل صفات استثنائية كما كنا نتخيل، وقد رصدنا أخطاءه، هواياته وغواياته، واخذنا عليه عدم استماعه للرأي الاخر، وعدم تقبله للنقد، وتشبثه برأيه حد التعصب، واستنكرنا عدم تقبله الخسارة في لعبة الشطرنج!
ثم تبددت ملاحظاتنا السلبية بشأنه عندما قادنا كقوة متحركة في مناطق شارباجير، حيث ادهشنا بمعرفته تضاريس جبل قرداغ، وهو يتقدم امامنا على صهوة جواد متبخترا بعكازه وكأنه صولجان القيادة، وكنا نحن نجوب القرى خلفه في الريف الشاسع، وهو ومن معه يستقبلون الترحاب والاحترام الكبيرين.
وفاضت دهشتنا ونحن نحط الركاب في قرية (التكية) التي ولد وترعرع فيها، وهي القرية المنسية على سفح جبل وعر وبعيد عن المدينة. وبرز السؤال امامنا صعبا عصيا على الفهم: كيف وصل الحزب الشيوعي الى هذه القرية المتلفعة بهذه التضاريس الصعبة، وأي قدرة كان يمتلكها الشيوعيين الاوائل وهم يصلون الى يافع مغمور في القرية المنسية، ويؤهلونه ليصبح قائدا لحزب انتشرت خلاياه في مدن العراق واريافه؟
هذا السؤال يصعب ان يجيب عليه من لا يعرف الرسالة الإنسانية للحزب الشيوعي، وروح التفاني ونكران الذات والتضحية عند اعضائه. وهو الاندهاش من قدرة الحزب على الوصول الى قلوب الكادحين، والذي تجدد في دواخلنا، ليعود فيتبدد مجددا بعد الموقف الذي اتخذه “أبو سلام” منفردا بالتفاوض وتوقيع عهد مع قادة الاتحاد الوطني، في ذروة تقتيل الشيوعيين في بشتاشان.
رحل أبو سلام يوم الثلاثاء ١/١٢/٢٠٢٠، وإنتهت فرص اللقاء معه، الفرص التي لم افرط بها منذ عرفته عن قرب في منطقة ناوزنك، والتي تكثفت في نهاية تسعينات القرن المنصرم. توقف النقاش معه حول المستجدات، كما كان يسميها، وبقى الاختلاف معه حول موقفه من بشتاشان حتى النهاية، مع انني لم انس لحظة انه شدني اكثر لليسار في أيام شبابي.
ويبقى احترام الاختلاف في الاجتهاد فضيلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة “طريق الشعب” ص2
الخميس 3/ 12/ 2020