ملاحظات على مقال الكاتب البريطاني صاموئيل كاهر عن كورونا والنيوليبرالية والعولمة

465

كاظم حبيب
ملاحظات على مقال الكاتب البريطاني صاموئيل كاهر عن كورونا والنيوليبرالية والعولمة

نشر الصحفي والمحلل السياسي البريطاني لجريدة مورننغ ستار البريطانية مقالاً يستعرض فيه ويناقش مقالاً للكاتب والمحلل البريطاني في صحيفة مورننغ ستار ونائب رئيس تحرير The Middle East Eye، جو جيل بعنوان “كورونا….هل ستسرع من عملية الانتقال من النيوليبرالية؟ ترجمة الكاتب عادل حبه، لاسيما وأنها تعبر عن رأي الحزب الشيوعي البريطاني. وردت في هذا المقال جملة من الأفكار المهمة التي تحتاج إلى مناقشة جادة وموسعة، حيث اختلط فيها رأي الكاتبين بحيث لا يمكن التمييز بين رأييهما. سأقتصر من جانبي على مناقشة مسألة واحدة وردت في هذا المقال تمس موضوع اللبرالية والعولمة، وقبل ذاك سأسجل ملاحظة تصحيحية لما ورد بشأن عالم الاقتصاد السوفييتي نيقولاي كوندراتييف Nikolai Dmitrijewitsch Kondratjew (1892-1938م)، وعن نظريته المهمة التي أُطلق عليها نظرية “الدورة الاقتصادية ذات الموجة الطويلة” كواحدة من أهم أزمات النظام الرأسمالي العالمي.
أشار الكاتب (وربما المترجم) إلى أن العالم الاقتصادي الجليل نيقولاي كوندراتييف قد توفي في عام 1938. ومن صيغة الطرح يُفهم على أن هذا العالم قد مات ميتة طبيعية. لكن الحقيقة غير ذلك. إذ أن هذا العالم الماركسي الناقد للرأسمالية والمحلل لأزماتها الاقتصادية على الصعيد العالمي قد اعتقل وسجن عدة مرات ابتداءً من عام 1930 وكان آخرها عام 1936، حيث اعتقل من قبل جهاز الأمن السوفييتي (KGB) في فترة حكم الدكتاتور جوزيف ستالين ضمن الحملة الجنونية والظالمة التي قادها ستالين لتطهير الحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفييتية من رفاقه الشيوعيين المعارضين لسياساته واستبداده، ومنهم كوندراتييف. وقد أطلق على من اعتقل وحكم عليه بمختلف الأحكام حينذاك، لاسيما أحكام الإعدام والمؤبد، بأنهم “خونة الدولة السوفييتية وعملاء للأجنبي!”. بدأت هذه الحملة مبكراً وتفاقمت في عام 1934 واستمرت لسنوات أخرى، كما مورست في فترة الحرب العالمية الثانية بتهم التعاون مع النظام النازي الهتلري الألماني، وكان من بين ضحاياه مجموعة من الشيوعيين الألمان.
بعد أن تم اعتقال نيقولاي كوندراتييف والحكم عليه ونفيه، تم جلبه مرة أخرى وأُعيدت محاكمته أمام محكمة عسكرية خاصة عُقدت في موسكو في عام 1938. أصدرت المحكمة العسكرية الخاصة قراراً مسبق الصنع، قضى بإعدام كوندراتييف رمياً بالرصاص. وقد تم تنفيذ حكم الإعدام به رمياً بالرصاص بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر من عام 1938 في مدينة كوموناركا القريبة من موسكو والتابعة لها إداريا، أي أعدم في نفس اليوم الذي صدر الحكم عليه. وعليه فعالم الاقتصاد السوفييتي الجليل كوندراتييف لم يمت ميتة طبيعة كما جاء في المقال المذكور، بل أعدم دون وجه حق، لأنه كان منشغلاً في تحليل الأزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي وعلاقتها بالثورة العالمية ضد الرأسمالية، والتي اختلف فيها، كما بدا، عن رؤية ستالين والجهاز الحزبي حينذاك. وقد اكتشف كوندراتييف، إلى جانب الدورات الاقتصادية التي تمر بها الرأسمالية بمراحلها الأربعة والأزمة العامة للرأسمالية، الأزمة أو “الدورة الاقتصادية ذات الموجة الطويلة” التي قدر أنها تحصل في مسيرة النظام الرأسمالي العالمي في فترات تتراوح بين 40 إلى 60 سنة، وهي أزمة بنيوية عامة وشاملة للنظام الرأسمالي العالمي. في عام 1987 أعادت الدولة السوفييتية الاعتبار للعالم السوفييتي كوندراتييف. وكان الفيلسوف الألماني هوبساوم على حق حين علّق على نظرية كوندراتييف قائلاً: “على الرغم من أن استخدام هذه الطريقة ليس شائعاً في الاقتصاد، إلا أنه من الممكن التوصل إلى تنبؤآت جيدة على قاعدة كوندراتييف، مما أقتنع بها العديد من المؤرخين وحتى بعض الاقتصاديين. فهناك ثمة شيء فيها، حتى لو لم نتمكن من تحديدها”. (راجع: المقال موضوع المناقشة).
العلاقة بين النيوليبرالية والعولمة
أما المسألة الأساسية والمهمة التي تستوجب المناقشة مع الكاتبين العضوين في الحزب الشيوعي البريطاني فهي الفكرة التي وردت في المقال المترجم، (والعهدة على الترجمة)، إذ لم أعثر على المقال باللغة الإنجليزية، حيث جاء فيه ما يلي:
“يمكن أن يستطيع هذا النموذج (المقصود هنا نموذج كوندراتييف، ك. حبيب) أن يكون له مزية في فهم الطريقة التي يتجلى التاريخ به، ليس بخط مستقيم، بل بمراحل تتميز بالمنعطفات والانقطاع. وعلى هذا الأساس، أزعم أنه بإمكاننا النظر إلى عام 2020 كنقطة نهاية محتملة لعصر النيوليبرالية أو العولمة الذي بدأ منذ عام 1975 واستمر حتى عام 2008”. (راجع: عادل حبه، “كورونا….هل ستسرع من عملية الانتقال من النيوليبرالية؟” للكاتب البريطاني صاموئيل كاهر، موقع الحوار المتمدن، العدد 6675، في 13/09/2020).
أشير هنا إلى مسألتين تضمنتهما هذه الفقرة القصيرة هما: 1) اعتبار النيوليبرالية هي العولمة؛ و2) احتمال أن يكون العام 2020 نقطة البداية لنهاية النيوليبرالية والعولمة. وهنا أرى بأن الكاتب (أو المترجم) قد خلط بين مسألتين هما النيوليبرالية كسياسة اقتصادية واجتماعية… تمارسها النظم الرأسمالية على الصعيدين الوطني والدولي، وقبل ذاك كانت اللبرالية، وبين سياسات العولمة التي تمارسها الدول الرأسمالية، سواء أكان في ظل النهج اللبرالي أو النيوليبرالي، وبين العولمة كعملية موضوعية ترتبط بعوامل أخرى سنشير إليها لاحقاً من جانب، ثم الربط بين احتمال أن يكون عام 2020 نهاية النيوليبرالية والعولمة، وهنا تبدو لدى الكاتبين وكأن العولمة هي نتاج للسياسات النيوليبرالية وليست عملية موضوعية من جانب آخر.
في مقال السيد كاهر برز خلط غير مقبول بين ظاهرة العولمة كعملية موضوعية في مجرى تطور النظام الرأسمالي العالمي ارتباطاً بمستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية من جهة، وبين سياسات العولمة التي مارستها ومازالت تمارسها النظم الرأسمالية التي يزداد فيها الجشع الاستغلالي الذي يمارسه كبار الرأسماليين واحتكاراتهم العابرة للقارات أو الكونية في ظل النهج النيوليبرالي لشعوبهم وشعوب البلدان النامية من جهة أخرى. فالعولمة كتسمية مصطلح جديد، لكنها كعملية ليست حديثة بل برزت إرهاصات العولمة الرأسمالية ذات الطابع الكوني منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، سنأتي عليها لاحقاً. سأحاول هنا توضيح وجهة نظري حول المسألتين المذكورتين، وأعني هنا ما المقصود بسياسات العولمة الرأسمالية أولاً، وما المقصود بالعولمة الرأسمالية كعملية موضوعية في مجري تطور الرأسمالية على الصعيد العالمي.

أولاً: سياسات العولمة الرأسمالية
تنطلق سياسات العولمة الجارية، التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، رغم الصراعات المتفاقمة فيما بينها منذ تسلم دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض، من نهج وسياسات النيوليبرالية التي تمارسها بصرامة قوى المحافظين الجدد لا في الولايات المتحدة حسب، بل وفي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وفي غالبية الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية على وفق أسس أيديولوجية برجوازية رجعية وصارخة في تصلبها أو تخشبها. أي تنطلق من مضمون العولمة الرأسمالية الناشئة من مضمون قوانينها الاقتصادية الموضوعية الخاصة والعامة، وهي تبني عليها بهدف الهيمنة على العالم كله سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً، رغم عجز الولايات المتحدة الأمريكية عن تحقيق حلمها الكبير، حلم أن تكون إمبراطورية القرن الحادي والعشرين. ومن هنا تنشأ مخاوف الشعوب بشأنها, وهي مخاوف عادلة بحكم تلك السياسات. إذ أنها قادرة، بسبب الإمكانيات الاقتصادية والقدرات العسكرية الفعلية وتحول موازين القوى الدولية لصالحها بعد انتهاء الحرب الباردة التي شهدتها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى بداية العقد الأخير من القرن العشرين , على فرضها على الآخرين، وبذلك تثير كثيراً من الإشكاليات والتعقيدات والكوارث والحروب الإقليمية لبلدان العالم الثالث. فسياسات العولمة الرأسمالية الأمريكية، حيث تشاطرها أو تعترض على بعضها المراكز الرأسمالية الأخرى والجديدة منها، تدعو بصرامة إلى:
** ممارسة التدخل الفظ لفرض “الحرية التامة!”، وهي من جانب واحد , أمام انتقال رؤوس الأموال والتبادل التجاري وإلغاء القيود الجمركية وتحقيق الإصلاح والتكييف الاقتصادي لاقتصاديات البلدان المختلفة وربطها ببنية واقتصاديات الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية، على وفق نموذج صندوق النقد الدولي والبنك لدولي المشوه. كذلك فرض ذلك النهج على بقية بلدان العالم دون الأخذ بالاعتبار ظروف تلك الدول ومشكلاتها وحاجاتها، بما في ذلك طريقة عملها وعضويتها في منظمة التجارة الدولية الحرة. ولكنها تقف في الوقت نفسه ضد انتقال وهجرة الأيدي العاملة إلى بلدانها (عدا هجرة الأدمغة التي تشجعها) وتقيم الحواجز إزاء العالم النامي لهذا الغرض، إضافة إلى إعاقتها تصدير سلع بلدان العالم الثالث إلى أسواقها بمختلف السبل والقيود. وهي بهذا تخل بقواعد اللعبة التي تدعو إليها “حرية انتقال عوامل الإنتاج” لصالحها وضد مصالح شعوب البلدان النامية على نحو خاص وبالضد من الدعاية التي تروجها حول حرية التجارة والتبادل التجاري الحر غير المقيد. ومن هنا نشأت هذه الحركة الشعبية الواسعة المناهضة للعولمة ATTAC والاحتجاج المتواصل ضد سياسات منظمة التجارة الدولية الخاضعة لسياسة ومصالح الولايات المتحدة وبقية الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد على سياسات اللبرالية الجديدة، قبل مؤتمر سياتل واستمراراً بمؤتمر الدوحة في قطر في شهر تشرن الثاني/نوفمبر من العام 2001 والمؤتمرات الوزارية الأخرى التي تلته، بما في ذلك مؤتمر هامبورغ، والتي تغمط إلى أبعد الحدود، مصالح وحقوق الدول النامية عموماً. كما أنها من الناحية العملية تفرض الضرائب التي تراها مناسبة على السلع المصدرة إليها لحماية منتجات منشآتها الصناعية من المنافسة الدولية. وتشير المعارك الضريبية الأخيرة بين الصين والولايات المتحدة أولاً، وبين الولايات المتحدة واليابان ثانياً، ومن ثم بينها دول الاتحاد الأوروبي، إلى الدور الذي تمارسه الإدارة الأمريكية الراهنة. إن سياسات العولمة الرأسمالية لا تلغي المصالح الرأسمالية ولا تلغي الطابع الإمبريالي للدول الرأسمالية الأكثر تطوراً في العالم، بل تؤكده وتشدد من طبيعته في الهيمنة والاستغلال، لكنها تطرح أساليب وأدوات جديدة وإضافية.
** وهي تسعى إلى تغيير وظيفة ودور الدولة وليس إلى إلغاء الدولة أو تفكيكها كلية، أي جعلها مجرد جهاز إداري مهمته تنظيم وجبي الضرائب وتأمين توزيعها لصالح تنمية مشاريع القطاع الخاص وتأمين مستلزمات نشاط هذا القطاع وضمان أرباحه. كما تبقي لها دورها العسكري والأمني واحتكار ممارسة القوة والعنف أو القمع لضمان “الأمن والاستقرار” ومستلزمات استمرار تطور الرأسمالية وبقاء الحياة العامة هادئة دون تهديد للنظام الرأسمالي، أي دون أن تعصف بها التناقضات والصراعات الاجتماعية والسياسية، رغم أنها تشدد من استغلال الطبقة العاملة وبقية الكادحين وتقلص من المكاسب التي تحققت لها على مختلف المستويات طيلة القرون المنصرمة من النضال بين العمل ورأس المال، أي بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال. وسياسات العولمة هذه تعتبر تجاوزاً فظاً حتى على أسس الديمقراطية التي تستوجبها عملية العولمة ذاتها. ومن هنا يلاحظ المتتبع بأن الديمقراطية في البلدان الرأسمالية المتقدمة تعاني من أزمة حقيقية تتجلى على صعيد العلاقات الدولية وتفاقم محاولات فرض قرارات الولايات المتحدة الأمريكية بالتهديد والقوة واستخدام العنف لحل الخلافات والمشكلات القائمة أيضاً، بدلاً من حلها بالطرق السلمية الديمقراطية، إضافة إلى ممارسة المقاطعة الاقتصادية والحصار الاقتصادي وفرض الضرائب من جانب واحد، وكذلك ممارسة ما يسمى بـ”الضربات والحروب الاستباقية”.
** تساهم هذه الاتجاهات في السياسة الاقتصادية في تشديد التناقض بين الطابع الاجتماعي المتعاظم للإنتاج وبين الطابع الخاص لعلاقات الإنتاج والهيمنة الخاصة المتعاظمة على القسم الأعظم من الثروة الاجتماعية والدخل القومي لا في داخل الدول الرأسمالية المتقدمة فحسب، بل وعلى الصعيد العالمي، حيث تبدو بوضوح عمليات الاستلاب المستمرة للثروة من أجزاء متزايدة من السكان وحرمانها من أبسط مقومات استمرارها في العمل والعيش الكريم، في مقابل المزيد من الثروة والاغتناء لمجموعات صغيرة جدا من كبار الاحتكاريين المهيمنين على الاحتكارات المتعددة الجنسية، وتساهم في جانب آخر منها في زيادة حجم البطالة على الصعيدين المحلي والعالمي، ولكن بشكل خاص في الدول النامية.
** تقترن سياسات العولمة الرأسمالية بسعي مجموعة من الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية للسيطرة على العملية الاقتصادية الدولية برمتها، أي على مجمل مراحل عملية إعادة الإنتاج الموسعة على النطاق الدولي باستخدام أساليب وأدوات كثيرة تسمح بها القوانين السائدة. والصحافة مليئة بأخبار عمليات إفلاس وابتلاع واندماج الكثير من الشركات الرأسمالية ببعضها تحت ضغط المنافسة أو من أجل ‎إقامة أكبر الاحتكارات العالمية القادرة على الهيمنة الفعلية على العملية الاقتصادية الدولية. وبدت هذه الظاهرة أكثر وضوحاً في أعقاب أزمة 2008 ولكنها تفاقمت في الوقت الحاضر حيث تلعب أزمة انتشار وباء كورونا على الصعيد العالمي، ووجهت ضربات قاسية وشديدة للنظام الرأسمالي على صعيد كل الدول وعلى الصعيد الدولي، وهي التي تسمح بالحديث عن نقط النهاية لسياسات ونهج النيوليبرالية ولسياسات العولمة الرأسمالية ولي للعولمة كعملية موضوعية مستمرة. (راجع: كاظم حبيب، النظام الرأسمالي ما بعد كورونا.. هل من جديد؟ / كاظم حبيب، جريدة وموقع طريق الشعب 24 نيسان/أبريل 2020). (راجع أيضاً: كاظم حبيب، الرأسمالية العالمية قبل وبعد كورونا!، موقع حزب الشعب الفلسطيني، 28/04/2010).
** ويلعب الرأسمال المضارب والأسواق المالية الدولية دورا متميزا ومتناميا في سياسات العولمة ويلقي بظلاله السلبية على اقتصاديات وبورصات العالم الثالث ويتسبب لها بأزمات حادة تدفع إلى هروب رؤوس الأموال منها إلى بلدان الشمال المتقدمة. وقدمت لنا مجموعتا بلدان النمور الآسيوية الأولى والثانية نماذج صارخة على دور رأس المال المضارب في التأثير السلبي على العملية الاقتصادية برمتها في اقتصاديات تلك البلدان والانهيارات الشديدة التي رافقت بورصاتها والخسائر الفادحة التي تحملتها، في حين حققت مجموعة صغيرة من المضاربين الكبار وبعض الدول الرأسمالية المتقدمة أرباحاً طائلة ذات طبيعة طفيلية. وهو ما حصل أيضاً في الأزمة الجارفة التي عمت سوق العقار في الولايات المتحدة الأمريكية والآثار السلبية التي نجمت عنها على مختلف البنوك والأسواق المالية والبورصات الدولية في عام 2008 وما بعده. وبكلمة فأن أزمة العقارات الأمريكية والخسائر التي تحملتها خزائن الدول من أموال دافعي الضرائب لمساعدة البنوك الرأسمالية، هي حصيلة أخرى لسياسات النيوليبرالية، وهي مؤشر صارخ إلى وجود حالة من الانهيار في الاقتصاد الأمريكي حالياً وبتأثير وباء كورونا وسياسات ترامب غير العقلانية والمهووسة حتى ارتفعت نسبة البطالة إلى مستويات عالية جداً. فقد “خسر الاقتصاد الأميركي 20,5 مليون وظيفة خلال شهر نيسان/ابريل، وهو رقم غير مسبوق لفترة قصيرة كهذه، وارتفعت نسبة البطالة إلى 14,7 بالمئة مسجلة أعلى مستوياتها منذ الثلاثينيات، وفق ما أظهرت أرقام وزارة العمل الجمعة”. (راجع: يورو نيوز، “الولايات المتحدة الأمريكية: ارتفاع البطالة في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى منذ الثلاثينيات وترامب يقول الأرقام “غير مفاجئة”، 08/05/2020). وقد زحف هذا الوضع على بقية بلدان العالم ويدفع بمزيد من الأيدي العاملة إلى قارعة الطريق وينشر البؤس والفاقة في الكثير من الفئات الاجتماعية الكادحة ويقود إلى عواقب وخيمة كبيرة أخرى.
** وإذ تسمح العولمة الموضوعية بنشوء نظرة ذات طبيعة شاملة وعامة للطبيعة ومواردها الأولية والبيئة والإنسان وحقوق الإنسان، وكذلك للإمكانيات المتاحة والحاجات المطلوبة، بسبب طابعها الشمولي والدولي والطابع الاجتماعي المتعاظم للقوى المنتجة، حيث تنشأ إمكانية ممارسة برمجة واستخدام عقلانيين للموارد والطاقات والإمكانيات المتوفرة والحاجات الضرورية للمجتمع البشري، فأن هذه الإمكانية المتاحة عمليا يصعب استثمارها بشكل عقلاني لصالح المجتمع البشري كله بسبب الطبيعة الاستغلالية لسياسات النيوليبرالية والركض وراء زيادة معدلات النمو أساساً مما يزيد من تلوث البيئة، إضافة إلى العفوية والفوضى النسبية التي تفرضها طبيعة القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية واستمرار عمل تلك القوانين التي تبقي على أو تنمي التمايز الشديد في مستويات التطور بين الدول والتباين في مستويات الدخول والمعيشة في ما بين الطبقات والفئات الاجتماعية وفي ما بين الدول، وكذلك المنافسة غير العقلانية المحتدمة في ما بينها، والاستغلال الشديد الذي تريد تلك الشركات فرضه على شعوب العالم عموما. فالعولمة التي يمكن أن تكون في مضمونها وبسبب التطور الرفيع والمستمر للقوى المنتجة على النطاق الدولي ذات مضامين إيجابية كبيرة لكل الشعوب، تتحول عبر السياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة وفي بعض ابرز وأهم جوانبها إلى عواقب سلبية للمجتمع البشري.
** تشير تجارب الشعوب إلى أن الدول الرأسمالية المتقدمة بدأت تستخدم حقوق الإنسان كأداة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى عندما تجد في ذلك ما يخدم مصالحها وتكف عن المطالبة بها عندما تتعارض الديمقراطية وحقوق الإنسان مع مصالح أصحاب رؤوس الأموال الكبار. وخير دليل على ذلك ما يجري في منطقة الشرق الأوسط وفي الدول العربية على وجه الخصوص. فعلاقات الولايات المتحدة مع دول المنطقة تشير إلى وجود اغتصاب لحقوق الإنسان ومصادرة ولكن الإدارة الأمريكية لا تسكت عنها فحسب بل تساهم في دعم الحروب غير العادلة المتأججة في المنطقة والتي دفعت إليها الولايات المتحدة بشكل خاص تحت شعار خلق شروط “الفوضى الخلاقة” في المنطقة، كما طرحتها كونداليزا رايز، لأن لها مصالح مع حكومات تلك الدول، كما هو الحال مع المملكة العربية السعودية وتركيا ولإسرائيل على سبيل المثال لا الحصر.
** وبسبب التناقضات التي تثيرها سياسات العولمة الرأسمالية فأن هذه الدول ما تزال تشعر بضرورة مواصلة التسلح وتعزيز حلف الأطلسي وتكوين قوات التدخل السريع وإقامة منظومة دفاعية مضادة للصواريخ تجاوزاً على الاتفاقية الخاصة بنزع أسلحة الإبادة والتدمير الشاملين، بما يثير شكوك بقية بلدان العالم إزاء النوايا الفعلية لتلك السياسات وتدفع بالعالم إلى سباق تسلح لا في بلدان العالم الثالث التي تستنزف كثيراً من مواردها المالية وتنشط ذهنية ورغبة حل نزاعاتها عن طريق استخدام القوة والحرب فحسب، بل وبين الدول الكبرى على نحو خاص وكما هو جارٍ حالياً بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية.
** جدير بالإشارة إلى أن العولمة، التي تشمل جميع جوانب الحياة اليومية للسكان في سائر أرجاء المعمورة حيث تحول العالم إلى قرية أو مدينة صغيرة ذات بيوت متجاورة، تنشر الفساد المالي والإداري أو الوظيفي في سائر أرجاء العالم عبر الشركات العملاقة وتسمح لها بتشكيل نظام فاعل ومؤثر سلباً ومستنزفاً للثروات، خاصة في تلك البلدان الضعيفة التطور، حيث ينهب الفاسدون المزيد من قدراتها المالية على شكل رشاوى وعمولات لصالح حفنة صغيرة من كبار الموظفين والمقاولين والعقاريين وكبار التجار والمضاربين، مقابل خسارة الدولة ودافعو الضرائب مبالغ طائلة. فالفساد تحول اليوم وفي ظل سياسات العولمة الرأسمالية إلى فساد معولم تسهم فيه حكومات الدول والشركات والأفراد على نطاق واسع. ** وتمارس الشركات المتعددة الجنسية سياسة فرض فكر وثقافة وأخلاقيات الثقافة الغربية بكل جوانبها على أنها العولمة الجارية. وهي تثير صراعات حادة في هذا الصدد فتثير حفيظة البلدان والشعوب الأخرى. ويبدو هذا واضحا من أساليب الدعاية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية في نشر فكرها وثقافتها على إنها فكر وثقافة العولمة وترفض الأخذ بالخصائص الوطنية لثقافات تلك الدول. كما يمكن أن يلاحظ الإنسان ذلك في الدعاية المكثفة للمركزية الأوروبية، أو “للثقافة القائدة”, كما يجري التعبير عنه في ألمانيا أو حتى عند القوميين العرب اليمينيين مثلا, أو الثقافة النقية التي يفترض أن لا تُشوه باحتكاكها مع الثقافات الأخرى، رغم أن الثقافات الوطنية بحاجة إلى إغناء وتطعيم وتلاقح مع الثقافة الغربية الأكثر تقدماً والأكثر حضارية في المرحلة الراهنة من تطور العالم. ومن هنا أنطلق البعض للقول بوجود سياسات عولمة أمريكية وسياسات أخرى أوروبية تقاوم العولمة الأمريكية، رغم أن العالم كله لا يعرف ثقافة نقية واحدة. فثقافات الشعوب كانت ومازالت وستبقى في تماس وتفاعل وتلاقح متبادل ومستمر، كما لا توجد ثقافة قائدة بالمعنى الذي روج ويروج له العنصريون والنازيون القدامى والجدد, وبشكل خاص في أوروبا أو في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.

ثانياً العولمة كعملية موضوعية في مجرى تطور الرأسمالية
في عام 1848 نشر كل من كارل ماركس وفريدريك انجلز البيان الشيوعي. ورد في هذا البيان مقطع مهم جداً يشير مبكراً إلى الإرهاصات الأولى لنمو وتطور عملية التشابك في العلاقات الاقتصادية الدولية ونمو التبادل التجاري بين مختلف البلدان وكسر القيود الوطنية التي كانت تحد من نمو وتطور هذه العلاقات والا نتاج وتوسيع الأسواق. فقد جاء في هذا البيان ما يلي:
“إن حاجة البرجوازية الدائمة إلى توسيع أسواقها لترويج منتجاتها تدفع بها إلى كافة أنحاء المعمورة. فعليها أن تتمركز في كل مكان وأن تستقر في كل مكان وأن تنشئ صلات في كل مكان. ومن خلال استغلالها السوق العالمي قامت البرجوازية بإضفاء طابع عالمي على الإنتاج والاستهلاك في كل قطر. فإزاء خيبة الرجعيين وقنوطهم قامت البرجوازية بإلغاء الأساس الوطني الذي كانت الصناعة تنهض عليه، وتم تدمير كل الصناعات الوطنية القديمة أو أنه يجري تدميرها يومياً، فقامت مكانها صناعات جديدة يتوقف على إدخالها حياة كل الأُمم المتمدنة أو فنائها، فهذه صناعات لم تعد تستخدم المواد الخام المحلية فحسب، بل في جميع أنحاء الدنيا. وبدل الاحتياجات القديمة التي كانت توفرها منتجات قطر ما نجد احتياجات جديدة يتطلب توفيرها منتجات بلاد بعيدة ومناخات قصية. ومكان العزلة المحلية والوطنية السابقة والاكتفاء الذاتي تنشأ حاجة إلى علاقات متشعبة وصلات دولية شاملة. وما ينطبق على علاقات الإنتاج المادية ينطبق على علاقات الإنتاج الفكرية، إذ يصبح الإبداع الثقافي لمختلف الدول ملكاً مشتركاً ويصبح من المستحيل أكثر فأكثر شيوع الرؤية القطرية الضيقة، وعن شتى الآداب الفطرية والمحلية ينشأ أدب عالمي” وتبعاً لترقيتها السريعة لكافة أدوات الإنتاج، وتطويرها الفعال لوسائل الاتصال، تجذب البرجوازية الأُمم كلها، بمن فيها الأكثر همجية، إلى موكب الحضارة، ذلك أن الأسعار المتهاودة لمنتجاتها هي بمثابة مدفعيتها الثقيلة التي بدأت تدك بها كل أسوار الصين وتدحر بها كل الكره العنيد للأجانب، وترغم بها كل الأمم , مخافة اندثارها، على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وتدفع بها كل الأمم إلى إدخال حضارتها المزعومة إلى عقر دارها، أي أن تصبح تلك الأمم نفسها برجوازية. وباختصار تقوم البرجوازية بخلق العالم على صورتها.” (راجع : ماركس، انجلز، البيان الشيوعي، منشورات الجمل، ط 1، كولون-ألمانيا، 2000م، ص 42-43).
هذا التشخيص التحليلي الصائب لطبيعة النظام الرأسمالي العالمي أشر البدايات الأولى للعولمة، حيث كان الحديث يجري في حينها عن تطور وتنامي واتساع العلاقات الاقتصادية الدولية وتوسيع الأسواق والتبادل التجاري، التي أصبحت اليوم ومع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تشمل جميع مناحي الحياة الدولية.
من هنا أؤكد على أهمية وضرورة التمييز ابتداءً بين مسألتين: الأولى تمثل واقع التطور التاريخي للرأسمالية على الصعيد العالمي من حيث مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية، إذ أن هذا التطور خاضع لفعل قوانين اقتصادية موضوعية عامة وأخرى خاصة بالنظام الرأسمالي العالمي بغض النظر عن إرادتنا ورغباتنا الذاتية، وسواء قبلنا بذلك أم رفضناه، وسواء كرهنا الرأسمالية وناضلنا ضدها أم رضينا بها وارتضيناها لمجتمعاتنا. وليست هذه العملية الموضوعية بنت اليوم، بل هي نتاج تطور اجتماعي تاريخي للرأسمالية، فها نحن نعيش مرحلة متقدمة منها. أما المسألة الثانية فتجسد السياسات الرأسمالية العولمية التي تمارسها الدول الصناعية المتقدمة بمراكزها الثلاثة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تطرقنا لها في الفقرة السابقة.
تعتبر العولمة من الناحية الموضوعية مرحلة جديدة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية على الصعيد العالمي، إذ أن لها امتدادها في تاريخ الرأسمالية منذ نشوئها وتطورها والتحولات التي شهدتها في القرن التاسع عشر، وبشكل خاص في النصف الثاني منه وأوائل القرن العشرين. وهي نتاج الثورات الصناعية المتتالية والتحولات البنيوية العميقة التي كانت تجري في رحم الرأسمالية المالية، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية العقد السابع من القرن العشرين، والتي اتخذت مسارا أكثر وضوحا وتميزا مع انهيار نظام الحكم الاستعماري القديم والبدء بممارسة أشكال جديدة للهيمنة والاستغلال الرأسماليين على اقتصاديات وشعوب بلدان القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا الجنوبية الأقل تطوراً، الذي أطلق عليه صواباً بـ “الاستعمار الجديد”، تمييزاً له عن الأساليب القديمة التي مورست في الهيمنة الاستعمارية. ثم تسارعت هذه العملية في أعقاب انهيار بلدان “المنظومة الاشتراكية” وتفكك الاتحاد السوفييتي وحل مجلس التعاضد الاقتصادي واختفاء ما كان يطلق عليه بـ “السوق الاشتراكي”، إذ أن العوائق التي كانت تحد من حركة الرأسمال العالمي ونشاط الاحتكارات الرأسمالية المتعدية الجنسية قد غابت، ولم يعد هناك سوى نضال شعوب البلدان النامية!
إن العولمة الرأسمالية الراهنة تشير إلى كونها عملية مستمرة، وهي ما تزال في بداية مراحل تطورها وأمامها طريق ليس بالقصير، وتشمل جميع مراحل عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية (الإنتاج, التوزيع, التبادل والاستهلاك)، أي العملية الاقتصادية بمجمل مراحلها، كما أنها نتاج متقدم للمجتمعات البرجوازية الرأسمالية والمدنية المتقدمة، ولكن دورها وفعلها وتأثيرها ونتائجها، أو عواقبها، لا تقتصر على تلك المجتمعات المتقدمة فحسب, بل تمتد بفعلها وتأثيرها، سلبا أو إيجابا، إلى بقية بلدان وشعوب العالم، ومنها البلدان النامية، فنحن نعيش في عالم واحد رغم انقسامه إلى عالمين: عالم التقدم وعالم التخلف، علم الغنى وعالم الفقر، عالم الإنتاج وعالم الاستهلاك. ويمكن فيما يلي تشخيص عدد من أبرز الخصائص التي تميز هذه العملية والمحيط الذي تنشأ وتتطور فيه:
1. تأخذ العولمة مضمونها واتجاهات تطورها من طبيعة النظام الرأسمالي ومضمونه الاستغلال ومن القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة في الرأسمالية على الصعيدين الدولي والمحلي، ومنها قانون القيمة وقانون فائض القيمة وقانون التطور غير المتكافئ في ما بين اقتصادات الدول، وكذلك في ما بين الفروع والقطاعات الاقتصادية والمجتمعات، إضافة إلى قوانين اقتصادية أخرى منها مثلاً: قوانين التطور المطرد للقوى المنتجة وإنتاجية العمل وقانون العرض والطلب والعلاقة بينهما.. الخ. ويمكننا أن نتابع هذا التطور المتباين في واقع التقسيم الدولي للعمل بين الدول المتقدمة والدول النامية أو المتخلفة.
2. تتطور عملية العولمة الرأسمالية في عالم واحد ولكن بشكل غير متكافئ ولا متساويٍ، كما أن هذا العالم الواحد منقسم على نفسه إلى عالمين, عالم التقدم والتطور والثورة العلمية والتقنية، عالم الإنفوميديا، بما يصدره لنا من معلومات صحيحة ومزيفة أو مشوهة وما ينتشر فيه من غنى فاحش حتى التخمة من جهة، وعالم التخلف والفقر والحرمان والتشرد والمرض والجوع حتى الموت من جهة أخرى، عالم المراكز الرأسمالية الثلاثة المتقدمة (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) التي التحقت بها الصين الشعبية وروسيا الاتحادسة، أو ما يطلق عليها بمجموعة الدول 6 زائد 1، وعالم المحيطات (الأطراف) ذات المستويات المتباينة في التطور التي تدور في فلك تلك المراكز على مدارات مختلفة في بعدها أو قربها من تلك المراكز، وهي تعاني من أبشع استغلال وأكثره شدة. وبعض تلك الدول التي تدور في المحيطات تقف على حافة الانتقال إلى مواقع المراكز أو الاقتراب منها. والإشكالية هنا ليست في الغنى والفقر المالي أو في مستوى معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي السنوي حسب، بل وبالأساس في كون هذه المراكز الرأسمالية المتقدمة بشكل خاص هي المواقع المنتجة والمصنعة والمصدرة للسلع والعلوم والتقنيات الحديثة وبراءات الاختراع، في حين لا تزال دول المحيط عموماً هي المستقبلة والمستهلكة لها، التي تجد تعبيرها في تنامي التباين واتساع الفجوة في مستوى تطور الأبحاث والاقتصادات والمجتمعات والإنتاج وإنتاجية العمل ونوعية الإنتاج، وكذلك في مستوى حياة ومعيشة الأفراد ومداخيل وظروف عمل سكان البلدان المختلفة بشكل ملموس، إضافة إلى ضعف مستوى الوعي العام فيها.
3. وفي ظل هذا الواقع لا تقود العولمة إلى إضعاف التناقضات الاجتماعية على الصعيدين المحلي والعالمي، بل تساهم في تفاقمها واتخاذها أبعاداً جديدة واتجاهات جديدة تتجلى في صراعات ونزاعات من نوع جديد أيضاً وأكثر شراسة، يفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار، إذ أن الدول والشركات الرأسمالية الصناعية المتقدمة تحاول بشتى السبل الاستفادة القصوى من اتجاهات تطور العولمة الرأسمالية لصالحها وزيادة أرباح الشركات الاحتكارية العملاقة المتعددة الجنسية على حساب شعوب وبلدان العالم الثالث من ناحية، وعلى حساب الفئات الكادحة والفقيرة من شعوب الدول الرأسمالية المتقدمة من ناحية أخرى. وإذا كانت الحرب الباردة بين المعسكرين السابقين قد توقفت في العقد الأخير من القرن العشرين، فأنها عادت من جديد في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إضافة إلى احتدام التناقض والصراع بين بلدان الشمال الرأسمالية المتقدمة والبلدان النامية المتخلفة في الجنوب. وهي نتيجة منطقية للسياسات الاستغلالية التي تمارسها بلدان الشمال الصناعية المتقدمة، وخاصة الدول الصناعية الست الكبار ومؤسساتها المالية الدولية. والظاهرة البارزة التي يمكن تشخيصها خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين تشير إلى محاولات جادة من جانب القطب الذي ما يزال يرى نفسه أوحدا، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تسعى إلى فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وسياساتها في البيئة على العالم كله وتحقيق مصالحها واعتبار العالم كله منطقة نفوذ لها ولـ “مصالحها الحيوية!” وترفض المساومة على ذلك. ويحمل هذا الأمر في ثناياه مخاطر كبيرة على الأمن والسلام في العالم كله. يجد المتتبع تجلياته المباشرة في منطقة الشرق الأوسط. وقد زاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي نادى بشعار أمريكا أولاً (Amerika First) وأعاد خلط الأوراق بنهج سياسي نيوليبرالي خطر ومتناقض وهستيري، همه الأساس مصالحه المالية أولاً، ومصالح الولايات المتحدة ثانياً ولتنقلب الدنيا على أعقابها، كما في انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ أو انسحابه من اتفاقية منع انتشار السلاح النووي مع إيران!!!
4. والعولمة، كظاهرة موضوعية، تعني ثورة مستمرة في مستوى تطور القوى المنتجة في الجزء الأكثر تقدما من العالم الرأسمالي وبتعاظم الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة، ومنها العلوم والتقنيات الأكثر حداثة طبعاً، واستمرار امتلاك الرأسمالية القدرة على توفير التناغم النسبي المطلوب بينها وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية، إذ أنها تعمد إلى المزيد من الخصخصة ونقل المزيد من مهمات الدولة إلى القطاع الخاص، إنه العامل الذي يساهم في تعميق الفجوة بين الطبيعة الاجتماعية المتنامية للقوى المنتجة والطبيعة الخاصة لملكية وسائل الإنتاج. ورغم ذلك يسمح التوافق النسبي بينهما والمنافسة القائمة في ظل الرأسمالية، رغم تنامي الاحتكارات المتعددة الجنسية، إلى تثوير عملية التطور والتقدم في القوى المنتجة المادية والبشرية وتغيير بنية الإنتاج والخدمات وإنتاجية العمل والإدارة الاقتصادية، ويفتح لها المزيد من الدروب لاستخدامٍ أوسع للمنجزات الأكثر حداثة في جميع مجالات السياسة والحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية والإعلامية والبيئية، وكذلك في مجالات البحث العلمي في مختلف الفروع وفي الشؤون العسكرية والإنتاج الحربي، وفي المواصلات والاتصالات المعلوماتية الدولية، إضافة إلى غزو الفضاء الكوني والبحث فيه وتقريب آجال استثماره الفعلي من جانب تلك الدول ولأغراضها الخاصة ومشاريعها الدولية. وكذلك في البنيات الإنتاجية وأشكال التنظيم والإدارة العلمية الجديدة لمختلف مراحل عملية إعادة الإنتاج الاجتماعية وتنامي دور ومكانة ووظائف الشركات المتعددة الجنسية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافياً وبيئياً وعسكرياً. ولا شك في أن مثل هذا التطور يساهم في معالجة الأزمات الدورية التي تعاني منها الرأسمالية ليجد لها حلولاً، لكن لا يعني هذا أن لا تنشا لها أزمات جديدة. والعالم يعيش باستمرار المزيد من الأزمات وفي مجالات اقتصادية مختلفة تجد تعبيرها في واقع وظروف عمل وحياة الأفراد في المجتمعات ذاتها وتسحق في حركتها المزيد من الكادحين والفقراء والمعوزين وهو ما تعيشه تحت وطأته الولايات المتحدة والذي سينعكس دون أدنى ريب على مجمل الاقتصاد العالمي واقتصاديات جميع البلدان وبنسب متفاوتة.
5. وتقترن العولمة بثورة في المكونات الثلاثة لما يسمى بالتقارب التكنولوجي Convergence، أي بين الحوسبة الحديثة (الكومبيوتر) والاتصالات والوسائط المعلوماتية (الالكترونيات) الأكثر حداثة التي تشكل مجتمعة المسار الجديد في البنية الصناعية الحديثة التي تتطلب المزيد من التوظيفات الرأسمالية، التي تخصصت بها ومركزتها لديها المراكز الصناعية الثلاثة والجديد فعلا لعدة عقود قادمة.
6. ونأمل أن تظهر التغيرات العميقة لهذين الاتجاهين في العولمة على نمط تفكير وأساليب وأدوات عمل وحياة ونشاط الإنسان في مختلف المجالات، بما فيها الثقافة والبيئة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية المحلية والدولية، لاسيما بعد كوارث وباء كوونا عالمياً. وهي تمارس دورها منذ الآن في تغيير الكثير من قيم وأخلاقيات وتقاليد وعادات وسلوك الفرد والمجتمع لا على صعيد العالم الرأسمالي المتقدم فحسب، بل ستمتد لتشمل بلدان وشعوب العالم الأخرى تدريجاً. وستواجه كثرة من الأفكار القديمة الراسخة، وخاصة بين القوى الإسلامية السياسية والقومية، مثل إشكاليات الهوية والأصولية والعنصرية والطائفية والأحكام المسبقة إزاء الآخر والحنين للماضي في الحاضر، اهتزازا شديدا ورفضا واسعا باعتبارها جزءاً من ماض لا يمكن أن يعود ولن يعود، رغم كل الجهود الخائبة التي تبذلها كل القوى السلفية والأصولية الدينية والطائفية وغير الدينية والعنصرية. فانتفاضة السود في الولايات المتحدة الأمريكية ضد التمييز العنصري وضد ممارسة اسلوك الفاشي ضد السود، كما في مقتل جورج فلويد في عام 2020. (راجع: كاظم حبيب، لمخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أوروبا: ألمانيا نموذجاً، الحوار المتمدن، العدد 6541، بتاريخ 18/04/2020).
ومن الجدير بالإشارة إلى أن العالم سوف لن تكون له في القريب المنظور ثقافة عالمية واحدة، ولكن ستساهم التقنيات الحديثة في المزيد من التقارب والتفاعل والتلاقح بين الثقافات، وفي هذا انتصار للبشرية وليس في ذلك أي خطر على أي من الثقافات الوطنية، إذ ستبقى لكل ثقافة خصوصيتها الملموسة على أرض الواقع. ولكن مثل هذه الاتجاهات تهدد بالانغلاق الثقافي والأثني أو العنصري أو الديني على خلاف ما كانت عليه من تفتح نسبي في السابق. وهذا ما يخيف البعض من القوى المشدودة بحنين مشوه وسلفي إلى الماضي ويخشى من أي تبادل وتفاعل وتلاقح بين الثقافات، في حين كان العالم كله وما يزال يشهد عدم وجود ثقافة نقية خالصة دون تأثير من وعلى الثقافات الأخرى في مختلف أرجاء المعمورة، فهي عملية أخذ وعطاء وتفاعل إنساني وحضاري مستمر. إلا أن التفتح والتفاعل والتلاقح الثقافي لا يعني بأي حال إقصاء الثقافات الوطنية والقومية أو تهميشها أو تشويهها أو محاولة قبرها، إذ أنها تشكل جزءاً عضوياً من تراث هذا الشعب أو ذاك ومن تكوينه الإنساني الحضاري ومن ذاكرته الجمعية. ويحق لكل ثقافات الشعوب، صغيرها وكبيرها، أن تنتعش وتتطور وتغتني وتمارس دورها في حياة الشعب المعني، بل حتى أكثر من ثقافة واحدة في شعب متعدد القوميات، إذ لا يفترض أن تفرض ثقافة معينة، بحجة كونها لشعب أكبر وثقافة رئيسة وطليعية، نفسها على الثقافات الأخرى بحجة كونها لشعوب أقل حجماً وأقل تطوراً.
7. وسيساهم عصر العولمة، عصر ثورة الإنفوميديا، في فتح أبواب جديدة أمام شعوب وبلدان العالم الثالث لاستقبال رياح التغيير الحضارية الجديدة، ولكن مقدار الاستفادة منها سيكون متفاوتاً بالارتباط مع مدى قدرة تلك الدول في مستويات تطورها الراهنة على تقبل الجديد القادم ومدى انفتاحها عليه، ومدى سماح الدول الرأسمالية المتقدمة بذلك أيضاً، أو مدى استخدامها لهذه الثورة ومنجزاتها التي لا تزال ملك يديها في الهيمنة على شعوب العالم الثالث، إضافة إلى تشويه المعلومات التي تصل إلى هذا العالم والإساءة إلى قضايا شعوب البلدان النامية، ومنها شعوب منطقة الشرق الأوسط والشعوب العربية. ومن هنا يمكن أن تتقلص فجوة التطور بين بعض البلدان أو تتسع بالنسبة لعدد آخر منها وبين الدول الرأسمالية المتقدمة في مراكزها الثلاثة. إن الثورة العلمية العولمية المعاصرة يمكن أن تجد طريقها إلى جميع الدول في سائر أرجاء العالم، ويمكن أن تصل إلى كل الناس دون قيود أو حدود، لكنها تبقى مقيدة حتى في بعض أهم جوانبها بسياسات وسلوك الدول الرأسمالية المتقدمة. وإذا كانت قوة العولمة وحيويتها تكمن في جانبها الأول، موضوعيتها، رغم طبيعتها الرأسمالية الاستغلالية، فأن ضعفها وسلبيتها يكمنان في جانبها الثاني، السياسات العولمية.
8. في الوقت الذي تعني العولمة مزيداً من التقارب بين قوميات أو شعوب العالم، صغيرها وكبيرها، بسبب سرعة الاتصال وتقارب العالم وكأن الجميع يعيشون في بيوت متلاصقة في مدينة صغيرة واحدة، باتجاه التعاون والتفاعل والتأثير المتبادل، فأنها ستسمح في الوقت نفسه من الناحية الموضوعية بازدهار القوميات وتفتحها وتعجيل وتائر تطورها ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية الدولية. كما أنها تعني إمكانية انتشار قيم الحرية والديمقراطية والمساواة بين البشر وممارسة حقوق الإنسان وحقوق الجماعات القومية وفي مقدمتها حقها في تقرير مصيرها على نطاق واسع، واعتبار ذلك من القيم الأساسية ذات الطبيعة الدولية العامة والشاملة. إلا أن هذه الإمكانية غالباً ما تصطدم بسياسات الدول الكبرى ذات المصالح الإقليمية الضيقة وبمصالح النظم الاستبدادية والشوفينية أو العنصرية أو الدينية السلفية والطائفية المتزمتة التي ترفض الاستجابة لمطالب وحقوق الشعوب وحقوق القوميات مما يجعل من النضال في سبيل ذلك مهمة ضرورية وملحة، لكنها صعبة وغالباً ما تكون مرتبطة بتضحيات بشرية ومادية كبيرة. وهذا يعني بأن العولمة لا تعني حصول الشعوب على حقوقها أوتوماتيكياً، بل تحتاج إلى نضال شاق ومرير بسبب تشابك المصالح الإقليمية والدولية. إذ أن العولمة الجارية، كما أشير سابقاً ذات طبيعة وخصائص رأسمالية، وهي في الجوهر تخضع للقوانين الرأسمالية ذات الطبيعة الاستغلالية.
9. إن العولمة وبالرغم من بروز تطور كبير في دور ونشاط ومكانة الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية، إلا أنها تزيد في الوقت نفسه من عملية الصراع بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ والأسواق والتوظيفات الرأسمالية وتحقيق أقصى الأرباح، وبشكل خاص على منطقة الشرق الأوسط، الخليج منه على نحو أخص، وكذلك في الدول الأفريقية وأمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي. وسيكون الصراع الجديد بين عملاقين ينموان بسرعة فائقة من روسيا والصين الشعبية، وسيكون للصين في قادم العقود الثلاثة دورها المتميز والأكبر في العلاقات الاقتصادية الدولية وفي الصراع المحتمل والكبير مع الولايات المتحدة الأمريكية. وأعني بذلك أن القطبية الواحدة التي نشأت في نهاية العقد التاسع وبداية العقد الأخير من القرن العشرين قد انتهت تقريباً مع نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وقد برزت ارهاصات التعدد القطبي على سطح الأحداث حالياً في الصراع الجنوني الذي بدأه دونالد ترامب ضد الصين الشعبية بسبب الخشية من منافستها المتنامية لها في مختلف المجالات والقارات. ولم يعد استنتاج بريجنسكي بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإمبراطورية الأمريكية.
الخلاصة
1) اتفق من حيث الجوهر إلى أن نهج النيوليبرالية اثبت فشله وبرهن على مجموعة هائلة من الأضرار التي لحقت بالبشرية جمعاء من جراء هذا النهج، وأن من المحتمل أن يكون هذا العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين نقطة النهاية لهذا لنهج. ولكن ماذا بعد التخلي عن هذا النهج؟ وماذا سيحل بعده، هل سيجد مفكرو الرأسمالية نهجاً جديداً يخفف أو يشدد من الاستغلال الطبقي، وهل ستجد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والعدالة الاجتماعية مكاناً لها في العالم المعولم الجاري؟ الجواب بحاجة إلى بحث مستفيض وتحليل لاتجاهات التطور على الصعيد العالمي وعلى مستوى الوعي للجماعات البشرية وعلى الصعيد العالمي. ولم يكن الجواب عن هذا السؤال ضمن برنامج هذا المقال، رغم أهمية البحث فيه واستشراف المستقبل.
2) أختلف مع الكاتبين في أن النيوليبرالية لا تعني العولمة بأي حال، بل هي نهج وجد تعبيره في سياسات العولمة الرأسمالية، وبالتالي فنهاية النيوليبرالية لن تكون نهاية العولمة الموضوعية الناشئة عبر التطور الطبيعي والتاريخي للرأسمالية. ف يفترض ابتداءً، كما أرى أن نميز بين النيوليبرالية كشكل من أشكال ممارسة الرأسمالية سياساتها الاقتصادية والاجتماعية ..على الصعد المحلية والدولية، وهي الممارسة الأكثر استجابة للجشع الرأسمالي وأكثر عدوانية في مواجهة الطبقة العامة وجميع المنتجين، سواء أكان ذلك على المستوى الوطني أم على المستوى العالمي، لاسيما إزاء البلدان النامية. وهي السياسة التي تتراجع فيها حقوق الإنسان على جميع المستويات حيث يتفاقم استغلال الإنسان المنتج للخيرات المادية والروحية، وتتراجع الديمقراطية البرجوازية وتعيش القوى السياسة أزمة مصداقيتها أمام شعوبها والشعوب الأخرى، ويزداد التلوث البيئي واستغلال موارد الطبيعة ابشع استغلال، ويتفاقم دور الرأسمال الطفيلي والمضاربة الرأسمالية وتتفاقم الفجوة الدخلية بين السكان في الدول وعلى الصعيد العالمي حيث يزداد عدد أصحاب المليارات والملايين على حساب قوى ومعيشة وحياة مزيد من الفقراء المدقعين والعائشين تحت خط الفقر الدولي. وهي في المرحلة الراهنة تلتقي مع سياسة العولمة الرأسمالية التي تمارسها الدول الرأسمالية على الصعيدين المحلي والعالمي. من لمعروف إن نهج النيوليبرالية برهن على فشلة عالمياً وبالتالي يمكن أن يعمد مفكرو الرأسمالية إلى طرح بدائل لهذه السياسة لتنقذ الرأسمالية من احتمال الانهيار هنا وهناك. والسؤال ماهي الوجهة التي يمكن أن تتخذها عملية إنها دور نهج النيوليبرالية الذي دام قرابة خمسة عقود تميزت بمزيد من الحروب المحلية والإقليمية ومزيد من الخراب البيئي والتغير الحراري والدمار والعودة إلى الحرب الباردة بين الدول الأكثر تقدما وقوة من لناحيتين الاقتصادية والعسكرية والأمنية على الصعيد العالمي
3) وأختلف مع الكاتبين في التمييز بين العولمة كعملية موضوعية وبين سياسات العولمة في ظل النظام الرأسمالي العالمي.
4) إن العولمة ستكون فاعلة ومؤثرة بشكل أفضل وأشمل في حالة التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية على الصعيد العالمي، لأنها تتناغم تماماً مع طبيعة النظام الاشتراكي وقوانينه الموضوعة العامة والخاصة، وهو نظام يرفض استغلال الإنسان للإنسان أولاً، ويرفض تخريب وتدمير الطبيعة والبيئة من خلال تشيد استغلالها لأنه لا يسعى إلى تحقيق الربح على حساب الإنسان والطبيعة بل توفير التناغم بينهما لصالح الإنسان والطبيعة والعدالة الاجتماعية.
د. كاظم حبيب
المصح في 21/09/2020

المصدر