محمد مندلاوي
عبر مراحل التاريخ القديم والحديث برزت على كوكبنا الأزرق أنظمة حكم متباينة كثيرة، كالحكم الإمبراطوري، وهيلاسي لاسي الذي حكم أثيوبيا مثالاً، أو الحكم الملكي الشاهنشاهي الاستبدادي كمحمد رضا بهلوي في إيران، أو الحكم السلطني، كسلطنة عُمان المطلة على مضيق هرمز، الذي يقع بين الخليج الفارسي وبحر العرب، أو الحكم الأميري، المشيخي كمشايخ البترول والغاز في الخليج، أو الحكم الجمهوري الإسلامي، كما هي ولاية الفقيه في إيران، التي لم يوافق على انبثاقها ولا على انبثاق غيرها المذهب الشيعي في غياب الإمام الثاني عشر إلا وهو المهدي المنتظر؟، أو نظام حكم جمهوري ديكتاتوري عنصري، كما كان نظام حكم حزب البعث ورئيسه الدموي صدام حسين في العراق، وهناك نظام جديد استحدثه أحد جناحي حزب البعث العنصري في سوريا، إلا وهو النظام الجملكي الوراثي، أنه نظام خليط بين النظام جمهوري المستبد، والنظام الملكي المطلق الخ الخ الخ. إلا أن التاريخ الحديث أثبت لنا بما لا يقبل النقاش، أن نظام الحكم الفيدرالي (الاتحادي) في المرحلة الحالية التي تمر بها البشرية هو صيغة مثلى لنظام الحكم، أنه أفضل من كل تلك عناوين الحكم التي ذكرناها أعلاه، لكن، من يدري، أن الأيام والأعوام القادمة حبلى بالمفاجئات والأحداث، قد يبتكر عقل الإنسان نظاماً للحكم يكون أفضل من النظام الفيدرالي. عزيزي القارئ، لكي أكون صائباً فيما أقول، إذا تطبق البنود التي يتم التوافق عليها، على انبثاق الاتحاد، بطريقة صحيحة وسليمة ودون التلاعب بالكلمات، أو كل جهة سياسية تفسر مواد الدستور الاتحادي وفق ما تتطلب مصلحتها الآنية، مثال الأحزاب الشيعية، التي وقعت على قبول الدستور الاتحادي لنظام الحكم كعقد سياسي بينها وبين المكونات التي تتكون منها دولة الاتحاد، لكنها على أرض الواقع تسعى لتأسيس دولة ولاية الفقيه!! وإلا ماذا تعني إصدار القوانين الشاذة بمعزل عن الكورد وعرب الغربية؟ وما هي علاقة المرجع الديني السيد علي السيستاني بالدولة ومؤسساتها؟؟!!. حقيقة هذه هي سيكولوجية الإنسان العربي أو الأعجمي المستعرب بطبيعتها تكون تسلطية، فعند قيادته لدولة الاتحاد يتناسى بنود الدستور الاتحادي التي تكبل نزواته الشيطانية الشريرة لكي لا يتجاوز حدوده التي سمح له الدستور بممارستها، لأنه كما أسلفت ثقافته عنيفة وتسلطية فلذا يتجه نحو بسط الحكم المركزي على الإقليم أو الأقاليم في الدولة الاتحادية.
للعلم، أن صيغة الاتحادية (فيدرالية) كطريقة حضارية للحكم ممكن أن تنبثق عن طريق اتحاد عدد من الأقاليم، أو الدول، كحالة الولايات المتحدة الأمريكية التي تأسست عام 1787م التي سنأتي على ذكرها في سياق المقال بشيء من التفصيل. إن تطبيق النظام الفيدرالي (الاتحادي= Federalism) بصورته الحالية يكون نسبياً، لأنه يتباين من بلد لآخر. لكن للإقليم أو الولاية استقلال ذاتي داخل الكيان الاتحادي؟. على سبيل المثال وليس الحصر، النظام الفيدرالي في ألمانيا غير ما هو عليه النظام الفيدرالي في النمسا، بينما شعب هذا الأخير أيضاً من العرق الألماني (جَرمني)، ولغة الدولة النمساوية هي الأخرى ألمانية؟، إلا أن هناك تباينات جمة في الرؤى بينهما، وربما، أو من المرجح هناك اختلافات كثيرة في المواد الدستورية بين دستوريهما؟. وهكذا النظام الفيدرالي في سويسرا غير ما هو عليه في الإمارات العربية المتحدة. وفي الهند ذات الـ28 ولاية غير النظام الفيدرالي عند جارتها باكستان ذات أربعة أقاليم. والبرازيل بـ26 ولاية. وكندا دولة فيدرالية في أقصى الكرة الأرضية ولها عشرة أقاليم، وإحداها وهي “كيوبك” الناطقة بالفرنسية استفتت شعبها على الاستقلال عن كندا إلا أن الأكثرية فيه صوتت على البقاء مع دولة كندا؟. وهكذا بريطانيا العظمى التي هي الأخرى تعتبر دولة اتحادية “United Kingdom = المملكة المتحدة” لقد سمحت لـ”اسكتلدا= Scotland” بالاستفتاء على الاستقلال عنها، إلا أن الأغلبية صوتت على البقاء مع بريطانيا؟ ولم تستخدم الحكم الإنجليزي منابر الكنائس ضد اسكتلندا كما فعلت الشيعة في العراق التي حشرت المنابر الحسينية لمناصرة الباطل ضد الشعب الكوردي الجريح.
عزيزي القارئ الكريم، في العصر الحديث تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أم الفيدراليات، إنها الدولة الفيدرالية الأعظم في العالم، متكونة من خمسين ولاية، – في الحقيقة هي 50 دولة لكن عربياً يقولون ولاية، بينما في اللغة الإنجليزية تقال: United States of America والترجمة الحرفية لها: الدول الأمريكية المتحدة- وكل ولاية من ولاياتها يختلف دستورها عن الآخر؟ حيث أن هناك ولايات تطبق حكم الإعدام، لكن هناك غيرها تخلت عنه ولا تعدم المجرم بل تكتفي بسجنه مدى الحياة، أو كذا أعوام. هناك ولاية أمريكية لها الحق أن تعقد صفقات تجارية وعسكرية مع دول العالم، وهناك ولاية أمريكية لم يسمح لها. وفيما يتعلق بتجارة الرقيق، منعت الولايات الشمالية تجارة الرقيق بين عامي 1780 و 1804، لكنها بقيت العبودية وتجارة الرقيق جارية في الولايات الجنوبية؟. هذه هي طبيعة الاتحاد الصحيح كل ولاية لها شخصيتها الدستورية وقوانينها الخاصة بها بمعزل عن المركز، وكل حسب أهميته ومكانته في دولة الاتحاد. مثلاً، هناك عدة ولايات قبل انضمامها إلى الاتحاد الأمريكي كانت دول، كانت جمهوريات مستقلة مثل تكساس، وفيرمونت، وهاواي، لكنها رأت أن من مصلحتها الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بلا أدنى شك رأت أن موقعها وامتيازاتها ورفاهية شعبها داخل دولة الاتحاد يكون أفضل من أن تكون خارجها، ولها امتيازات عن الولايات الأخرى التي أقل شأناً منها، وتجد هذا حتى في الاتحاد السوفيتي السابق ذو النظام الاشتراكي الذي كان بـ15 جمهورية إلا أن هناك جمهوريات وأقاليم كانت تتمتع بحقوق أكثر بكثير من غيرها ولها شخصيتها القانونية وحق التمثيل الدبلوماسي، مثال أوكرانيا، وروسيا البيضاء، وكانت لهما علاقات مع الدول بالإضافة إلى وجودهما كعضوين في المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) وكانت لهما علاقات تجارية مع دول العالم بمعزل عن الاتحاد السوفيتي؟ وفي إحدى الأعوام طالبت استونيا بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتي لكن الدولة السوفيتية لم تهجم عليها بالدبابات والمرتزقة كما فعلت بغداد واحتلت خورماتو وكركوك ومدن كوردية أخرى؟. دعنا عزيزي القارئ أن نعود لأمريكا، التي لا وجود حتى للغة رسمية فيها، لكن اللغة الإنجليزية بحكم الظروف فرضت نفسها كاللغة تتحدث بها الأمة الأمريكية. وهناك ولايات لها لغات غير إنجليزية. حسب دستور ولاية هاواي لها لغتان رسميتان لغة هاواي واللغة الإنجليزية. أضف أن هناك ولايات تستخدم اللغة الإنجليزية والإسبانية وولايات أخرى تستخدم الإنجليزية والفرنسية الخ. لاحظ
التباين الآخر بين الولايات الأمريكية دون أن تثير ثائرة المركز، حيث توجد في كل ولاية من ولايات أمريكا مجلسين تسمى الأولى مجلس النواب، والآخر مجلس الشيوخ ومعاً تسمى المجلس التشريعي، لكن “من بين الولايات الخمسين شذ ولاية “نبراسكا” حيث لها مجلساً واحداً” ولم يستطع المركز أن يجبرها على قبول المجلسين؟. وفيما يتعلق الأمر بالولايات الـ13 الأصلية التي أعلنت الثورة على الاحتلال البريطاني أنك تجد إنها تمتاز عن الولايات الأخرى حتى في العلم الأمريكي نفسه الذي هو رمز سيادة أمريكا، حيث ترى ثلاثة عشر خطاً أفقياً سبعة خطوط حمراء وستة خطوط بيضاء وهذه الخطوط الـ13 تمثل الولايات الأصلية التي أسست الولايات المتحدة الأمريكية، بينما بقية الولايات التي انضمت للاتحاد تباعاً كل واحدة منها لها نجمة في الركن الأيسر على العلم الأمريكي بالإضافة إلى 13 نجمة تمثل الولايات المؤسسة للاتحاد،وهكذا رمز لهذه الولايات الـ13 في شعار ولايات المتحدة الأمريكية أيضاً. للعلم،هناك ثلاثة أنواع حكم في أمريكا 1- الحكومة الاتحادية، 2- الحكومة الإقليمية، أي: حكومة الولاية، 3- الحكومة المحلية. بمعنى، أن الإقليم الذي ينضم فيما بعد إلى دولة الاتحاد يكون أقل شئناً ومكانة من الإقليم الذي سبقه بالانضمام لدولة الاتحاد في عدة أمور إدارية وسياسية واقتصادية الخ يجب أن يعرف هذا الذين ينادون بتأسيس إقليم أو أقاليم في العراق الآن، في البدء كانوا ضد الإقليم الكوردستاني، وضد دولة الاتحاد، ونادوا بمقاطعة الاستفتاء على الدستور الاتحادي، ولا زالوا يدفعوا بالهمج الرعاع إلى الاستيطان في المدن والقرى الكوردية لتغيير ديموغرافيتها وفي مقدمتها كركوك السليبة، وحاولوا بعد عام 2003 القضاء على دولة الاتحاد الفتية بقوة السلاح، وجعلوا من مناطقهم حاضنة للإرهاب الخ، بناءاً على هذه الأعمال… كيف يجب أن يصبح إقليمهم المتخلف مثل إقليم كوردستان الناهض والمؤسس لدولة الاتحاد؟؟!! التي تشترك مع المركز وفق بنود الدستور بثلاثة أشياء مهمة تأسست عليهما الدولة الاتحادية وهي توزيع السلطة والمال والسيادة؟ بينما الذي قد يأتي فيما بعد سيشترك في بعض هذه الأشياء السيادية لأنه تأخر عن ركب دولة الاتحاد.
عزيزي القارئ الكريم، دعنا نلقي نظرة فاحصة وتفصيلية على نوع النظام الفيدرالي (الاتحادي) في الكيان العراقي الذي تأسس بناءاً على مطالبة من البرلمان الكوردستاني عام 1992. لكي ندرك أهمية إقليم كوردستان في الكيان الاتحادي يستحسن بنا أن نعود إلى وراء قليلاً. كما هو معروف لدى غالبية القراء الكرام، أن جنوب كوردستان لم يكن يوما ما جزءاً من الكيان العراقي، إلا أن بعد احتلال ولايتي بصرة وبغداد عام 1917 بحراب الجيش البريطاني، وطرد قوات الاحتلال التركي العثماني منهما، ومن ثم احتلال ولاية الموصل، التي كانت تسمى ولاية كوردستان أيضاً، لقد ظلت مستقلة عن الكيان العراقي الذي تأسس على يد وزير الدولة لشؤون المستعمرات للمملكة البريطانية السير “ونستون جرجل= Winston Churchill” عام 1920، حتى جاء عام 1926 حين قادت بريطانيا مؤامرة في “عصبة الأمم” ضد الشعب الكوردي العريق، وذلك لإلحاق جنوب كوردستان بالكيان الذي استحدثته والمسمى عراق، وفي النهاية صار لها ما أرادت. إلا أن الشعب الكوردي في إقليمه الجنوبي منذ اللحظة الأولى للإلحاق القسري رفضه رفضاً باتاً، وبهذا الرفض الوطني العام من قبل شعب الإقليم لقد فقد الضم القسري لجنوب كوردستان للكيان العراقي شرعيته، ولم يكن سوى احتلال غاصب لا غير، وعلى أثره رفع الشعب الكوردي في هذا الجزء من وطنه كوردستان سلاح الشرف والعزة والكرامة للذود عن العِرض والأرض وأعلن الثورة، وظل ثائراً حتى جاء عام 1991 العام الذي انتفض فيه الشعب الكوردي انتفاضة الرجل الواحد وحرر غالبية مدنه وقراه من براثن الاحتلال العربي البغيض، وبعد التحرير أسس حكومته الوطنية وبرلمانه الذي اتخذ قراره التاريخي بالاتحاد مع الكيان العراقي في نظام اتحادي، وفي عام 2003 سقط نظام حزب البعث المجرم ورئيسه الديكتاتور صدام حسين، وفي عام 2005 اجري استفتاءاً عاماً على الدستور الاتحادي و وافق عليه غالبية العظمى من الشعبين العراقي والكوردستاني، وهكذا وافقت عليه كافة الأحزاب الشيعية والكوردية، إلا أن قيادات الأحزاب والتنظيمات
الشيعية كعادتها لم تكن صادقة في أقوالها وأفعالها رغم أنها أحزاب إسلامية وأقسمت قياداتها على القرآن أن تكون أمينة على تطبيق كافة بنود الدستور، إلا أن المشرع الكوردي المشارك في صياغة مواد الدستور عرف جيداً أن قيادات الشيعة كقيادات السنة العرب لا تؤتمن وليست لها كلمة، فلذا وضع في ديباجة الدستور النص التالي: الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده… . وهكذا لم يقبل المشرع الكوردي أن يضع في الدستور لاحقة العراق لاسم إقليم كوردستان، وهذا يعني أن جنوب كوردستان ليس جزءاً من الكيان العراقي المستحدث عام 1920، بل متحد معه في شراكة عنوانه الاتحاد، وهذا يعني أن الاتحاد من خلال اسمه “ا ت ح ا د” لا يكون إلى ما لا نهاية؟، فلذا سيأتي يوم ينتهي مفعوله كحال أي اتحاد بين شيئين؟ ولا يبقى ضرورة وأهمية لبقائه واستمراره، فعليه كل منهم أو منهما يعود إلى شعبه لتأسيس دولته الوطنية أسوة بدول العالم، تماماً كما حدث في يوغسلافيا، واتحاد السوفيتي، وتشيكوسلوفاكيا الخ. لكن خلال فترة وجود الاتحاد كما بينا أعلاه يجب أن تكون لكوردستان اليد الطولى في دولة الاتحاد لأنها هي التي قامت بتأسيسها والآخرون انضموا لها فيما بعد، فعليه حتى إذا تأسست أقاليم أخرى في غرب وجنوب البلد يجب أن لا يكون عدد مقاعدها مجتمعة أكثر من مقاعد إقليم كوردستان في مجلس الاتحاد؟ لأن أهل غرب العراق وجنوبه كلاهما عرب، بينما الكورد هم غير العرب، والاتحاد المنبثق بين العرب والكورد هو اتحاد جغرافي وتاريخي وليس مذهبي (سني وشيعي) ؟؟ أضف لهذا، أن التساوي بين عدد مقاعد الكورد والعرب بشقيه السني والشيعي يوقف طغيان العرب على الكوردي، مثلاً، إذا كان عدد مقاعد مجلس الاتحاد 150 وقُسم على المكونات الثلاثة كل منهم على 50 مقعد فأي اتفاق بين مكونين يظلم حقوق المكون الثالث، إذاً بناءاً عليه يجب أن يكون 75 مقعد للعرب و75 مقعد للكورد وعندها لا تتسيد الواحدة على الأخرى؟. الشيء الآخر الإيجابي السائد في دولة الاتحاد أن إدارة الدولة يتم من خلال إشراك الأقاليم والولايات الخ، مثلاً؛ تجد أن رئيس ولايات المتحدة الأمريكية هو من إحدى هذه الأقاليم التي تتمتع كما بينا باستقلالها الذاتي، لكن أحد أبنائها يفوز في الانتخابات العامة ويصبح رئيساً لدولة أمريكا، بينما لا يستطيع أحد من إقليم آخر أن يرشح نفسه في غير إقليمه؟. عزيزي المتابع اللبيب، لا ننسى أن الحياة في كل جوانبها في تطور دائم، فلذا تتطور معها نوع نظام الحكم الفيدرالي لصالح الإقليم أو الأقاليم كي تحصل على حقوق أكثر مما كانت عليه عند تأسيس الاتحاد، لذا يجب على المحكمة الاتحادية أن تكبح جماح حكومة المركز التوسعية، وذلك بوقوفه مع الإقليم كما تفعل المحكمة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية.
” السياسة حرب باردة، والحرب سياسة ساخنة” (إرنست رينان)
16 09 2020