قراءة في رواية ( الوليمة العارية ) ويرجع العراق وليمة عارية

119

الروائي ( علي بدر ) يتميز بمحاولات التجريبية في أسلوبية السرد والمتن الروائي , في توظيف اساليب سردية متنوعة ومتعددة , يسوقها حسب مناخ النص الروائي . ونجد في هذه الرواية ( الوليمة العارية ) وثقت بالتخيل التاريخي لفترة عصيبة من تاريخ العراق , هي عشية احداث الحرب العالمية الاولى عام 1914 وسقوط الدولة العثمانية وانتصار المحتل الانكليزي ودخوله الى بغداد . يتناول النص الروائي في اسلوب الساخر والانتقادي الى حد السخرية والتهكم في اتجاه الكوميدية التراجيدية . يتناول احداث عشية السقوط من زوايا وجوانب متعددة في جوهر المجتمع وتأثيراته المؤثرة . لذا فان الرؤية المتن الروائي يدخل في خانة السيسولوجية . بتناول الكولونية المستبدة في البطش في نهج عقلية المحتل العثماني . وتناول النخبة الاجتماعية والثقافية البارزة على الساحة في تلك الفترة المنصرمة . وهي تمثل : رجال الحكم , رجال السياسة . الجندرمة , الفئة الدينية ورجال الدين المعممين . الفئات الثقافية والفكرية بتنوع ثقافاتها , ومنهم من برزوا في الادب والفكر ومنهم . الشاعر جميل صدقي الزهاوي والشاعر معروف الرصافي وغيرهم من الذين برزوا في تلك المرحلة , والروائي استخدم الشخصيات الفعلية بأسمائها الحقيقية , والاسماء الوهمية من صنع الخيال الروائي . وكذلك فئات الافندية . وتدور احدث المتن الروائي بين بغداد ومعالمها واسطنبول ومعالمها المشهورة والمعروفة . وكذلك تطرقت الرواية الى شرائح آخرى من المجتمع مثل . اللصوص وقطاع الطرق والشحاذين والمتسولين. حتى عرجت بشكل موسع الى العاهرات ودور البغاء والراقصات وملاهي بغداد . ولكن ركز بشكل خاص على الصراعات والمشاحنات والمناوشات الساخنة , بين رجال الدين المعممين وفئات الافندية ومثقفيها . الفئة الاولى تعتمد على التيار الديني الداعي لنصرة الامبراطورية العثمانية والدفاع عنها , بحجة المحافظة على الاسلام والامة الاسلامية , بذريعة المسلم المحتل أفضل من المحتل الكافر والزنديق . وفريق الافندية بالضد من هذه التوجهات الدينية . لذا فان هذين الفريقين يشكلان نخبة المجتمع في صراعهما المحتدم , ومنهم انصار العلم والعمران واوربا . الجناح الاصلاحي . الذي يمثل تياره شخصية ( منيب أفندي ) , وهو عكس جناح الديني المحافظ . الذي يدعو الى نصرة السلطان العثماني والدعوة الى الجهاد الاسلامي ضد الكفرة والزاندقة اتباع الانكليز والافرنج . وتتصاعد دعوات التيار الديني في خطابه المناصر للعثمانيين , الذي يمثله شخصية ( الشيخ أمين ) بالدعوة الى الجهاد والتطوع والتجنيد لحروب العثمانيين خارج الحدود الى القوقاز . بحجة توسيع رقعة الاسلام والمسلمين ( الجهاد ….. الجهاد يا مسلمين . الجهاد ) ص144 . , وبحجة بأن الامة الاسلامية تمتحن هذه الايام , وخاصة بعدما زحف الانكليز على بغداد . وتتعالى هذه الدعوات في المراكز والتجمعات الدينية وفي الجوامع . ولكن رغم صخب وضجيج هذه الدعوات الجهادية , فأنها لم تحظى بصدى وقبول ورضاء من عامة الناس , لذلك يساقون الى الحرب بقوة العنف والعسف والتهديد بالقتل والاعدام لكل من يتخلف عن التجنيد الاجباري . في حين بغداد تعاني الاوبئة والامراض والفيضانات , والجوع والفقر . والحياة الشحيحة , حتى اصبح الفقراء يفتشون في المزابل من اجل العيش . وحارس القشلة المأمور العراقي ( محمود بك ) الضابط في الجندرمة , يملك صلاحيات واسعة في الحكم , واستخدامها في البطش والتنكيل والاذلال بالناس , وسوق المجندين تحت طائلة التهيديد بالقتل والاعدام , وكانت مهمته مطاردة وملاحقة الفارين , والتفتيش المنازل والطرقات عن الشباب لزجهم في التجنيد . وكان يظهر بمظهر الخادم المطيع من اجل ان يحظى بقبول من الباشا والسلطان العثماني . ويحاول عبثاً في وقف زحف الانكليز على بغداد . بدفع اكبر عدد من المجندين , لكن اكثرهم يحاول الهروب رغم وطئة الاعدامات لفارين , لقد اوغل في التنكيل والبطش , ولكن عندما دخل الانكليز الى بغداد , اصبح عارياً , وهو يرى بأن انهيار السلطة العثمانية اصبح حقيقة فعلية لا يمكن وقفها . وعشية دخول الانكليز الى بغداد , اجتاحتها فوضى عارمة في الحرائق والخراب , في النهب والسلب المحلات والمتاجر والمخازن . حتى البيوت لم تسلم من اللصوصية والسرقات , واشتعلت الحرائق في كل مكان , وهرب الباشا العثماني من بغداد, واسدل الستار على الاحتلال العثماني . ولكن ظل السؤال يدور في اذهان الناس في العهد الجديد . ماذا سيكون حكم الاحتلال البريطاني , هل يكون شبيهاً او نسخة من السلف الساقط ( وهل سيفعل الانكليز مثلما فعل العثمانيون ؟ ) ص 232 , وكذلك رجال الجندرمة استغلت الفوضى العارمة التي عصفت ببغداد . واصبحت هي تمارس النهب والسرقة على نطاق واسع , لتعويض على عدم دفع مرتباتهم الشهرية . وفي حالة تدل على عدم اللامبالية الناس بالمحتل الجديد , في جولة تفقدية قام بها الحاكم العسكري البريطاني في موكب عسكري كبير في شوارع بغداد . وصادف شاهد احد المواطنين يتغوط على حافة الشارع , فنهالوا عليه بالعصي , لكنه واجههم ببرود الاعصاب فقال بكل هدوء ( مستر ….. هي خريه . . أنت شبيك صاير عصبي ) ص283 .
× احداث المتن الروائي :
يهتم السرد الروائي في ابراز صورة الصراع الدائر بين التيار الديني والتيار العلماني أو بما يطلق عليه افندية اوربا . ما تشد العلاقة بينهما في المشاحنات والرفض والحقد وخاصة من التيار الديني المعمم , الذي يكشف عقليته المتعصبة والمتزمة الى حد الدعوة الى استخدام القتل والحرق وخاصة تجاه الشاعر الزهاوي الذي يبشر بافكار دارون والسوبرمانية واوربا العلم والتطور والعمران , ومناصرة المرأة وتحريرها من القيود والظلم ( منيب أفندي …….. امضيت الليل كله وانا أقرأ كتاب الزهاوي , الذي اعطيتني أياه بالامس . وانا اتسائل لماذا لا نحرق الزهاوي مع كتبه ؟ ) ص10 . ولاشك بأن الزهاوي حرك المياه الراكدة بالهيجان , بما يسوقه الى النظرية الدارونية , بأن أصل الانسان قرد , مما هاجت عليه عامة الناس بالويل والثبور والتهديد بقتله , بدافع من رجال الدين المعممين . وتحشيد الناس للهجوم عليه وهو داخل بيته ( يا ناس أنا عبدالعليم أبو شجه . أنا شقي باب الشيخ وقنبر علي والحيدرخانه … هذا اللي شتمني وقال جدي قرد …. راح اسويه إلكم اليوم قرد ابن قرد .. )
ودق الباب هذا المتطوع بقتل الزهاوي . وانتظر دقائق لم يفتح الباب فصرخ بالغضب ( لك جميل …. اسمعني زين . ترا … راح اكسر الباب ) وانفتح الباب بهدوء وخرج جميل أفندي وهو يرتعش , كل ناحية من جسمه تهتز مثل سعفة .. وصاح به ( لك …. آني جدي قرد ؟ )
( لا والله العظيم , انت جدك رسول الله ….. بس آني جدي قرد ابن قرد ) ص64 .
فانفجرت العامة بالضحك . لقد اخذت الجماهير تضحك وتقهقه باعلى صوتها . . حتى كانوا يضايقونه بالشتائم والسباب والاستهزاء والتهكم بالسخرية في اي مكان كان موجوداً ( بالله فد سؤال ……. انت قرد من جانب الاب , لو من جهة الام ؟ ) ص213 .
هذا ما يثير حفيظة رجال الدين المعممين , وفي مسألة المرأة يدعون بأنه يدعو علانية المرأة المسلمة الى الدعارة والعهر , بينما رجال الدين يدعون بصيانة شرف المرأة المسلمة بالحجاب وعدم الاختلاط , بينما يدعون بأن المرأة غير المسلمة حلال اغتصابها كما يدعي ( الشيخ أمين ) وكما يصرح برأيه بارتياح ( المسيحيات مشركات , حلال على المسلمين . جعلهن الله لي بقرة ) ص30 .
× محمود بك : الضابط في الجندرمة العثمانية الحاكم المستبد وحارس قشلة بغداد المأمور المطيع باخلاص الى الباشا والسلطان العثماني . اليد الحديدية الضاربة بالبطش والتنكيل في خدمة السلطة العثمانية . كان يستخدم الارهاب والقتل والاعدام لكل من يتخلف عن التجنيد الاجباري وارساله خارج الحدود في الحروب العثمانية , كان لا يتوانى عن مطاردة وملاحقة الفارين من التجنيد الاجباري , يداهم البيوت والمنازل بحثاً عن الشباب , ليتم ارسالهم الى الحروب العثمانية . اصبح جلاداً في بغداد على رقاب الناس , وفرض الضريبة والفدية على التجار , لدعم المجهود الحربي . ولكن عندما دخل الانكليز الى بغداد وقع في الفخ , وفشل في الهروب مثلما هرب الباشا وقادة العسكر العثمانيين , انكشف سره رغم ملابس التنكر التي تخفي هويته . وقع في الاسر ونزع من ملابسه حتى اصبح عارياً تماماً . وهو يسير الى حبل المشنقة وتجمعت حشود الناس الهائلة , لترى مصير جلادها وهو عارياً وسط صيحات الفرح والابتهاج , وسط دقات الطبول كأنها تعيش اعراساً عظيمة , ان ترى الجلاد الباطش وهو يصعد الى المشنقة عارياً , وتلاحقه صيحات الشماتة والسخرية من العار الذي وصل اليه. ونظر محمود بك بالحشود حوله , والتي ترميه بنظرات الانتقام والحقد , بجانب صيحات الفرح والرقص لاعدام جلاد بغداد , فصرخ بأعلى صوته كلاماً وهو يشير الى الزهاوي , الذي حضر مع جموع الناس المحتشدة ليشاهد عملية الاعدام , صاح بالزهاوي :
( جميل أفندي . لقد قرأت كتبك كلها ولم افهم الفكرة القردية . إلا اليوم ….. الفكرة القردية أن تصير في زمن العثمانيين عثماني , وفي زمن الانكليز أنكليزي ) ص266 .
والتف الحبل حول عنقه وسقط على الارض , وبأعدامه اسدل الستار على انهيار الدولة العثمانية , ودخول العراق في احتلال جديد .
وكما اسدل الستار على رواية ( الوليمة العارية ) في مغزاها البليغ والعميق . بأن العراق اصبح وليمة عارية للمحتلين على مختلف مسمياتهم . أصبحت بغداد وليمة عارية . كما اصبح الضابط الجلاد وليمة عارية نحو حبل المشنقة . ولكن ما أشبه اليوم بالبارحة . بأن العراق أصبح وليمة عارية .
× الكتاب : رواية ( الوليمة العارية )
× المؤلف : علي بدر
× الطبعة : عام 2005
× عدد الصفحات : 287 صفحة
جمعة عبدالله

المصدر