فضاء الشخصيّة

608

محمد صابر عبيد يعدُّ فضاء الشخصيّة في الصناعة السرديّة أحد أهم عناصر التشكيل الفضائيّ للنصّ السردي وأبرزها حضوراً وتأثيراً وتكويناً، وربّما يكون هذا الفضاء في فنّ "السيرة الذاتيّة" على أعلى درجة من درجات الاستجابة لذكاء التشكيل في بناء الشخصيّة، فالراوي السيرذاتي وهو يعيد بناء أحداث ذاكرته وماضيه وتجربته لتحويلها إلى مدونة سيرذاتية مكتوبة، يحتاج إلى مهارة كتابيّة خاصة. لا يمكن أن تتوفّر إلا لكتّابِ سردٍ بارعين يجيدون التلاعب بثنائيّة الذاكرة والحلم، وثنائيّة الواقع والمتخيّل، وثنائيّة الواقعة الطبيعيّة والواقعة الكتابيّة، ومن ثمّ يضعها في مرجل الأسلوب ليخلّصها من شوائبها وأشواكها واستطالاتها وزياداتها الضارّة، ويبدأ بصياغة المتبقّي الصافي والحيويّ والممتلئ على شكل نصّ يستعيد تجربة الكاتب السيرذاتيّة بأعلى درجات التشذيب والانتقاء، تشذيب الفائض غير المفيد وإهماله وتسريحه، وانتقاء ما يصلح للفضاء النصيّ القادر على تحويل الكتابة إلى نصّ سرديّ متكامل قابل للقراءة والامتاع. في أحد مشاهد السيرة الذاتية لمكسيم غوركي "كتاب طفولتي" يشهد الطفل لحظات دفن والده الأخيرة، وحين يراهم يهيلون عليه التراب في القبر المفتوح يتصاعد بكاؤه بمرارة أليمة مفاجئة فيها نوع من الغموض لا يناسب طفولته، وحين أرادوا معرفة سبب ذلك أبلغهم أنّه يبكي على الضفدعة التي جرفوها بمعاولهم القاسية، حين كانوا يهيلون التراب على قبر والده المفتوح فدفنوها معه وانتهت حياتها إلى الأبد، ثمّ ما لبثت أمّه أن وبّخته وأخبرته بأنّه ينبغي عليه أن يبكي على والده الذي صار تحت التراب وليس على الضفدعة، فثمّة مفارقة مدهشة في الموضوع تكشف عن طبيعة خيال الطفل وحساسيّته تجاه الحدث. لم يكن مكسيم غوركي وهو يدوّن سيرته الذاتيّة ينسى ولو لحظة واحدة أنّه روائيّ وصاحب رواية "الأم" الذائعة الصيت التي عدّها البلاشفة في حينه سبباً من أسباب الثورة، لذا فإنّ آليّة كتابة السيرة تخضع لهاجس الروائيّ الضاغط على فضاء الكتابة، الروائيّ الذي يميل إلى وضع بِطانة تخييليّة شديدة الخصوصيّة لكلّ ما هو واقعيّ منقول من عالم الطفولة، فالسيرة الذاتية هي في كينونتها الكتابيّة فنّ سرديّ لا يتوقّف فضاء تشكيلها عند سرد الواقع كما هو على نحو فوتوغرافيّ فقط، بل هي تسرد الواقع المُعادُ تشكيله وتجلّياته وظلاله وخفاياه بأسلوبيّة فنيّة تحقّق مستوى جمالياً ضرورياً في منطقة التلقّي. إنّ شخصية "الطفل" التي وردت على هذا النحو في "كتاب طفولتي" هي أقرب إلى شخصيّة روائيّة منها إلى شخصيّة سيرذاتيّة، على الرغم من أنّ غوركي يروي سيرته ويُفترَض بناءً على الميثاق القرائيّ أن تكون هذه الحكاية واقعيّة لطفل هو مكسيم غوركي نفسه، وقد استطاع بمهارته السرديّة أن يضع الشخصيّة في طريقة بنائها وحدثها في مرتبة السرديّ التخييليّ، فطريقة عرض الحكاية هي طريقة سرديّة قصصيّة بامتياز، وتعكس حساسيّة لافتة لا يمكنها أن تأتي عفو الخاطر، بل تتخصّب برؤية خبيرة ذات تجربة عميقة، تمكّنها من صوغ المشهد على هذا النحو البالغ الخصوصيّة، حيث تقترن فيها السذاجة بالحساسيّة على رأي "أورهان باموق" في كتابه "الروائيّ الساذَج والحسّاس". ربّما أراد منها غوركي من صوغ هذه الحادثة –حتّى وإن كانت واقعيّة فعلاً- أكثر وأبعد من مجرّد حكاية طريفة حدثت له في طفولته، إذ هي تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من الإثارة تجعل المتلقيّ يستقبلها بروح من التفاعل على أكثر من طبقة، فضلاً عمّا تمارسه هذه الصورة من ضغط على شبكة من الأسئلة الأخلاقيّة داخل المنظومة الاجتماعيّة في فضاء الحكاية، وهي تروي حساسيّة الطفل تجاه محيطه وتجاه الأشياء التي تنتمي لعالمه على نحوٍ من الأنحاء، ومع أنّ عامل المفارقة هو العامل الأكثر تجلّياً في مظهريّة الصورة السرديّة للطفل وهو يبكي الضفدعة المجروفة لا الأب الميّت، غير أنّ الجوهر الإنسانيّ العميق الذي عبّر عنه الطفل ولم تفهمه الأم بحيث وبّختْ طفلَها عليه هو موطن الخطاب ورسالته، بما يجعل تكوين الشخصيّة "شخصيّة الطفل" نابعاً من توجيه عدسة كاميرا الراوي نحوها، وإقصاء الحدث الأساس الواجب تسليط عدسة الكاميرا عليه بكامل ثقلها التصويريّ وهو حدث "دفن الأب الميت"، مما خلق منافسة سرديّة على صعيد الحدث بين صورتين حصلت بينهما مفارقة شديدة التأثير تمتحن فكرة الحزن لدى الطفل بين حالتين متضادّتين. يحقّق هذا المشهد زاوية نظر فعّالة تنتمي لشخصيّة الطفل داخل فضاء خاصّ تعمل فيه وتنشط استناداً للمعرفة المتوطّنة فيها، فموت الأب قد لا يعني له الكثير بوجود أمّه القادرة على أن تلبّي حاجاته الطفولية وترضي عاطفته، لكنّ تعرّض الضفدعة لموت مفاجئ غير محسوب هو ما أزعجه وقد يحمّل موت أبيه السبب، فلولا هذا الموت وقيام هؤلاء باستعمال مجارفهم وإهالة التراب على القبر المفتوح لما تعرّضت الضفدعة للموت، فالضفدعة في نظر الطفل هي الضحية الأبرز في هذا المشهد على أساس أنّ الأب هو ميّت أصلاً، ويلعب الطفل دور المدافع وجدانياً عن هذه الضحية المجانيّة، بلا ذنب، في حين يضع أباه الميّت وهذه العصابة التي تهيل التراب على القبر في موقف الجلاد. العراقالمصدر