شيعة السلطة بين الفشل والتبعية
الدكتور خليل الزبيدي
لا تختلف الغالبية العظمى من العراقيين وأخص بالذكر الشيعة منهم في ان التجربة السياسية الشيعية في العراق قد فشلت بإمتياز على مدى ثمانية عشر عاما ً خلت من عمر الدولة العراقية الحديثة ، فتسلط احزابها الاسلامية المؤدلجة على رقاب الناس وهيمنتها على مقدرات البلد الاقتصادية وضعف انتمائها الوطني قاد بالنتيجة الى خسارة نفوذها الذي بنتْهُ على خطاب إسلامي متشدد لا يحمل اية صبغة وطنية ، كون ان هذا النفوذ يستمد مقوماته من الحالة الإيرانية التي تحولت إلى صداع مزمن في المنطقة.لقد كان إختيار الكاظمي لرئاسة الوزراء يمثل الحالة الاولى التي يتفق عندها الساسة من شيعة السلطة رغم خروجها من دائرة نفوذ الإسلام السياسي في العراق، بعدما تحولت معادلة صناعة السلطة في بغداد من ثلاثية تشارك فيها المرجعية الشيعية والولايات المتحدة وإيران، إلى رباعية، بدخول الشباب المنتفض على خط التأثير في صناعة القرار .كما توصف انها المرة الاولى التي تتراجع فيها الأطراف الشيعية الراديكالية خطوة إلى الخلف، في عملية اختيار رئيس الحكومة، لتفسح المجال لشخصية توضع في خانة الليبرالية الشيعية كي تتصدر وتقود العملية السياسية، بعد سنوات عجاف من هيمنة مقززة لشخصيات هزيلة ذات خلفية إسلامية على مقعد السلطة التنفيذية . وحتى النموذج الجديد الذي يمثله الكاظمي، لا يمثل نتاجا ً لمراجعة شيعية لتقييم تجربة الإسلام السياسي في العراق، بل نتيجة لمتغيرات ثلاثة ، المتغير الأول فرضته ظروف الحركة الاحتجاجية الشعبية التي زلزلت مراكز القوى التقليدية منذ أكتوبر من عام ٢٠١٩ ، والثاني يتمثل في زيادة القلق الدولي والإقليمي وخصوصاً دول الخليج العربي إزاء ما يحصل في العراق وتأثيره على المنطقة ، والثالث يتعلق بالانكفاء الإيراني الداخلي بسبب العقوبات الأميركية ذات الطابع الاقتصادي والتي عمقت أثرها جائحة كورونا. ولكن ما يؤسف له ان آماني الشباب المنتفض وطموحاته رغم وضوحها قد كانت كبيرة ومعقدة الى درجة لم يستوعبها السيد مصطفى الكاظمي الذي يعتمد الماكنة الاعلامية كوسيلة وحيدة في تسويق بضاعته التي لم تتماشى مع رغبات وتطلعات الشباب التشريني للأسف ، فبعد ان غدى البلد مسرحاً ومرتعاً للفصائل المسلحة الموالية والتي تتخذ من مؤسسة الحشد الشعبي غطاء ً لتحركاتها، ما يمنحها حصانة كاملة من الملاحقة الأمنية والقضائية ، نرى رئيس الوزراء عاجزاً تماماً عن اية محاولة لتقليم وتشذيب قوة وتأثير هذه المليشيات التي باتت تمثل خط الاقتصاد البديل لتمويل أنشطة الاحزاب ذات الخلفيات الإسلامية، إذ أن خط التمويل الرئيسي هو عبارة عن حصص وعمولات مالية كبيرة جدا يدفعها تجار ومستثمرون من خلال حصولهم على عقود رسمية لتنفيذ مشاريع لصالح مؤسسات و وزارات الدولة .فمعظم الأحزاب والتيارات والفصائل العراقية الشيعية، ذات الخلفيات الدينية الموالية لإيران، تتحرك ضمن أحد هذين الخطين أو كلاهما، لضمان التمويل الذي يبقيها ضمن دائرة المنافسة السياسية من جهة، وتعظيم الموارد المخصصة لبقاء هيمنة قياداتها في الواجهة . و لم يعد خافياً أن الرأي العام العراقي ومنه الرأي العام الشيعي بات مقتنعاً أن إيران تلعب دوراً سلبياً في العراق، وأنها فقدت قيمتها المتمثلة بكونها نموذجا ً يُحتذى به للاسلام السياسي الشيعي. لذا يخطئ من يعتقد أن سبب التدخل الإيراني في العراق تحديدا هو فقط لحماية الشيعة والمقدسات من الخطر الخارجي المتمثل تارة بالقاعدة واخرى بداعش ، فجوهر الموضوع أكبر من ذلك ، فايران عملت بشكل مكثف على بناء خطوط دفاعية كثيرة ليس في العراق فحسب بل في عموم المنطقة من أجل تأمين مصالحها وبسط نفوذها في المنطقة ، وصنعت ادواتها المليشياوية وغذتها بكل ما أوتيت من قوة في العراق تجنباً لتعافي العراق مما أصابه من ويلات وظروف عصيبة لم يعشها شعب من قبل مما جعلته بكل أسف عاجزاً عن تشكيل أي تهديد، أو حتى منافساً لطموحات إيران في المنطقة. لذا على شيعة العراق ان يدركوا حجم الخطر الايراني على مستقبل العراق وان يفهموا تماما ً ويعوا حقيقة اخطار ايران الفارسية وليست ايران الشيعية ، وبرغم نضج هذين السببين (خدمة المصالح الإيرانية، والإبقاء على عراق ضعيف) في إدارة وتوجيه السياسة الإيرانية في العراق، إلا ان هناك سبباً أهم في إدامة القبضة الإيرانية على عنق الساسة الشيعة العراقيين طيلة السنوات الثمانية عشر الماضية يتمثل بالنموذج العقائدي الديني للحكم في إيران و نظام ولاية الفقيه الذي يجعل من المرجع الديني الشيعي الأعلى حاكماً مطلقاً بتفويض إلهي ، مما يستلزم من مقلديه ومواليه ومريديه ان يكونوا تبعاً له في كل مسائل الحياة والموت وهذه أول خطوة على طريق الاستعباد الديني الذي يوصف بأنه اخطر انواع الاستعباد . الامر الذي قاد ساسة الشيعة في العراق الى أن يكونوا تبعاً و عبيداً بإمتياز . لقد حاولت ايران ومنذ قيام ثورتها عام ١٩٧٩ تصدير النموذج الثيوقراطي في الحكم الى العراق لكنها فشلت في ذلك بسبب تماسك ورصانة الثقافة العلمانية في المجتمع و قوة السلطة في آن واحد آنذاك . وحتى مجئ عام ٢٠٠٣ حاولت وعملت في أن يكون نظامها السياسي هو النموذج الذي يتم تبنيه من قبل شيعة العراق بعد أن تسنى لهم استلام دفة قيادة النظام السياسي في العراق . إلا أن ظروف نشأة وتكوين النظام السياسي في العراق بعد 2003 وطبيعة تكوين المجتمع العراقي حالت دون تحقيق هذه الأمنية الإيرانية . لذلك جاهدت ايران وبذلت الأموال وصنعت المليشيات ودعمت الاحزاب الولائية لأجل إفشال تجربة الحكم في العراق والمبنية على فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والمواطنة المتساوية ، وهذا يبدو عاملاً إضافياً يرجح فكرة استمرار التدخل الإيراني السلبي في العراق وسلب الدولة هيبتها وسيادتها على يد الشيعة انفسهم من الاحزاب والمليشيات التي تدعمها . فللنظام الايراني مصلحة حقيقية في فشل تجربة الحكم التي يقودها الشيعة في العراق ، لأن نجاح التجربة غير الدينية في العراق وبقيادة شيعية يخلق نموذجاً مغرياً للشيعة في العالم، وفي مقدمتهم شيعة إيران ، فالتعدد الأثني والديني للشعب الإيراني فضلاً عن عمق فكرة فصل الدين عن السياسة في إيران قد تجعل نجاح التجربة الشيعية غير الدينية للحكم في العراق مغرية ، وبالتالي ستكون الركيزة التي تهدد الأساس الذي بُني عليه نظام ولاية الفقيه في ايران . لذا فإن مسألة إدراك وفهم هذه الحقيقة من قبل كل الأطراف السياسية (محلية او اقليمية او دولية) والتي سأمت من التدخل الإيراني في الشأن العراقي يفرض عليها إنتهاج اسلوبا مختلفاً في التعامل مع ملف التدخلات الإيرانية في العراق والمنطقة من خلال تعزيز إمكانات وقدرة شيعة العراق غير الولائيين على تبني نموذج حكم مدني يحمي المذهب من تدخلات السياسة وبالعكس من جهة ويجنبهم الوقوع في شرك الحكم الطائفي من جهة أخرى. وعلى الإدارة الجديدة للبيت الابيض ان تدرك أن مسألة تحويل العراق لساحة صراع لتقويض النفوذ لايراني فيه وفي المنطقة هو حل سلبي ولن يؤدي الا لإظهار النظام الايراني كنظام حامي لشيعة العراق في وجه الطغيان السُني المتطرف و الامريكي والصهيوني. إن الخيار البديل يتمثل بخلق عراق متطور ينعم مواطنوه جميعاً وبغض النظرعن خلفياتهم وانتماءاتهم بكل حقوق المواطنة ويتمتعون فيه بكل الحقوق والضمانات التي تحفظ كرامتهم و بمستويات إقتصادية عالية هو الضمانة الرئيسة والوحيدة لوقف التمدد الإيراني وإظهار ان بإمكان الشيعة أن يحكموا وفق نموذج ليبرالي يجعل المواطنة لا الدين والطائفة هي الأساس في إقامة دولة العدل والمساواة والرفاه التي ينادي بها جميع العراقيين وفي مقدمتهم شيعة العراق من غير الولائيين .