تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 5

130

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 5 د. رضا العطار

في الوقت الذي كان مجد بغداد يزهي في عصره الذهبي بفضل تقدم العلوم والاداب والفنون، كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يعد من اجلاء علماء زمانه، فضلا انه كان ينظم شعرا جميلا، وكان قصره منتدى لأهل العلم والادب من كل حدب و مشرب ، كان ملك الافرنج شارلمان لا يعرف القراءة والكتابة، وكان معظم رجاله وفرسانه أميين مثله، في الوقت الذي كانت الكتب في الديار الاسلامية منتشرة في كل مكان، كانت قراءة الكتب في اوربا مقتصرة على الاديرة فقط. ولهذا كانت الشعوب الاوربية انذاك تتخبط في ظلام الجهل بسبب ندرة التعليم .

لقد ولع سكان العراق وخاصة اهالي بغداد بأقتناء الكتب وتنافسوا في ذلك، حتى كان اثاث البيت لا يكتمل إلاّ بمكتبة. وقد انفق بعض الناس في اقتناء الكتب ثروات طائلة. وقد ضمت المكتبات العامة في بغداد ملايين كثيرة من الكتب والمخطوطات. وكان العراقيون يشترون الكتب ويودعونها في خزائن المساجد ويقفونها للأستعمال العام

وعلى الرغم ما اصاب الكتب العربية من الكوارث على يد هجمات المغول على بغداد وما تبعها من الحرائق، وما لحق بها من السرقة والتلف والضياع تحت ركام الخرائب وافتراس الأرضة لها، إلاّ ان نصيبنا منها كان لا يقل عن ثلاثة ملايين نسخة من الكتب والمخطوطات التي حفظت من الدمار، بفضل المكتبات العامة، غير ما كان يحتفظ به الناس في بيوتهم. علما ان ما خلفته العصور المظلمة الأوربية من المخطوطات كان لا يزيد في مجموعه عن خمسين الفا. وعندما نقارن بين هذين الرقمين نجد بين ايدينا خير دليل و شاهدا يؤيدان من ان دنيا الاسلام كانت دنيا نور وهداية.

لقد اذكت الحضارة العربية في بغداد جذوة المعرفة في نفوس العراقيين ودفعها الى العلم والادب دفعا قويا، فاسست الكتاتيب لتعليم مبادئ القراءة والكتابة واهتموا في تعليم البنات وتحفيظهن القرآن وخاصة سورة النور، وكان في يد الناشئة الواح من الخشب يكتبون عليها دروسهم، ومن كان يريد اكمال تحصيله، انتقل الى حلقات الدرس داخل المساجد، التي لم تكن بيوتا للعبادة فحسب، بل كانت ايضا معاهد لتعليم الشباب الطموح حيث يتلقون فيها المحاضرات من اساتذة متخصصين، كان تأثيرهم الثقافي على النهضة الحضارية كبيرا.

فقد ازدهرت هذه الحركة واعطت ثمارا يانعة، في ظهور بوادر ادبية رائعة واثار علمية باهرة وقصائد شعرية خالدة، تمثلت في نخبة من اعلام العصر مثل ابن سينا في الطب والرازي في العلوم الطبيعية والطبري في التاريخ وابن حيان في الكيمياء والكندي في الطبيعيات وابن ماسوية في علم التشريح وابن النفيس في الدورة الدموية والادريسي في الجغرافيا والخوارزمي في الرياضيات وعلم الفلك الذي اكتشف علم الجبر والذي جعله الخليفة المأمون المشرف على المرصد الكبير الذي كان مستقرا في ضاحية من بغداد، هذا العالم الجليل الذي ثبّت محيط الارض على اساس كرويتها، قبل ان يعلنها زميله الفلكي الايطالي غاليلو غاليلي بأكثر من خمسمائة سنة.

كذلك برز الى عالم الفكر المنير الفيزياوي الفذ، ابن الهيثم، المولود في البصرة، الذي وصفه المؤرخ الامريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان، بأنشتاين زمانه قوله :
( وبفضل نظريات ابن الهيثم تمكن كل من كوبرنيكوس وغاليلو ونيوتن من تحقيق ابحاثهم العلمية بعد 600 سنة من رحيله ). هذا ما جاء في كتابه lost history- –
الموجود حاليا في مكتبة الكونغرس الآمريكي في واشنطن.

يقول كاتب السطور : لم يقتصر النشاط الفكري في الحضارة العربية العباسية في بغداد على العلوم وحدها بل جاوزتها الى مجالات الادب والفن، بعد ان انتشر في المجتمع العراقي وخاصة البغدادي مظاهر التألق و التأنق في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة خصوصا لدى الطبقات الأستقراطية الناشئة، كما سرى بين النساء الحرائر شغف التهادي بالعطور كعطر النرجس والياسمين والمسك والعنبر والكافور، يشغفن بطيب عبيرهأ ويتبخترن بشذى عبقها الفواح، كذلك عرف عن العوائل البغدادية رغبتها في تزيين بيوتها بالورد والرياحين التي كانت تملئ الأجواء بأريج رائحتها الزكية، فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد بين اعضاء الاسرة الواحدة، مثلما كانت تلك الاجواء الرحبة باعثة لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال. وعلى اثر ذلك، كثرت حقول زراعة الورد في ضواحي بغداد وفي كل مكان، وفي هذا السياق ينشد الشاعر ابن الجهم قوله:

لم يضحك الورد إلاّ حين اعجبه * * * حسن الرياض وصوت الطائر الغرد

بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها * * * وراحت الراح في اثوابها الجدد

قامت بجنته ريحُ معطرة * * * تشفي القلوب من الهم والكمد

كان المجتمع البغدادي خصوصا يتعشق الغناء العاطفي، فقد اقترنت موسيقى الطرب لديهم برقة مشاعرهم وخلجات نفوسهم، حتى غدت نعيمهم المفضل، تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون عذوبة الحانها بالدموع. ولهذا كثرت حفلات اللهو والغناء في بغداد، مثلما كثر روادها.
الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا.

المصدر