اوربا، ماذا كانت وكيف صارت بعد سقوط الاندلس ؟

154

اوربا، ماذا كانت وكيف صارت بعد سقوط الاندلس ؟ (*)
د. رضا العطار

تناثرت المخطوطات العربية في انحاء متفرقة من اوربا بعد سقوط الاندلس،
وبها صنعت النهضة الاوربية. بيد ان اوربا انكرت فضل العرب الحضاري عليها مئات السنين بدواعي التعصب وبادعاءات التفوق والامتياز. لكن يطيب لنا من وقت لاخر ان تتخلى اديبات اوربيات عن ذلك التعصب لتعلن جانبا وضّاءا من فضل العرب في هذا المضمار. واشهرها كتاب ( شمس العرب تسطع على الغرب ) للمستشرقة الالمانية زيغريد هونكه، وكتاب ( اليوم الذي تغيرت فيه الدنيا ) لجيمس بيرك.

وقد اعتاد مؤلفو تاريخ الحضارة الغربية التغاضي عن هذه الايام الحاسمة في اوربا التي باع فيها الغزاة الاسبان مكتبة قرطبة بعد سقوطها وكانت تضم اربعمائة واربعين الف مجلد الى الباعة المتجولين – – وباعوا مكتبة طليطلة بعد سقوطها وكانت تضم نصف مليون مجلد. – كما باعوا مجلدات المكتبة العامة لغرناطة.
وحمل الباعة احمالهم على ظهور البغال في قوافل طويلة، عبروا بها الهضبة الاسبانية وجبال البرانس وانتشروا بها في اوربا يبيعونها للطلبة والمترجمين والدارسين – – – فتغير بها وجه الحياة في القارة الاوربية التي عاشت قبلها في الظلام.

لكن هولاكو، الذي خرًب العاصمة بغداد واسقط الدولة العباسية عام 1258 ، اي قرابة ثلاثة قرون، من سقوط غرناطة، لم يكن غبيا كالغزاة الاسبان، الذين لم يحتفظوا بالكتب العربية العلمية ولم يحاولوا ان يستفيدوا منها – – هذا القائد المغولي كان اذكى منهم، حيث انه لم يرمي بالكتب العلمية والحضارية في نهر دجلة، انما رمى فيه كتب الشعراء والخطباء وحسابات الجند و ديوان الرقابة المالية ومصروفات الجواري والغلمان، لكنه احتفظ بالكتب العلمية لابرز الاعلام من امثال ابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وباعها في اوربا بما يعادل وزنها ذهبا، كانت هي الذخيرة الذهنية الاخرى الى جانب الكنوز العلمية الاندلسية التي ساعدت اوربا في الخروج من عصورها المظلمة لتدخل عصر النهضة، وما وجود التماثيل النصفية لبعض نبغاء العرب والتي تزين مداخل بعض الجامعات الغربية اليوم، الا دليل على ما اقول.

تعالوا نلقي نظرة على اوربا قبل وابان الحضارة الاندلسية. كانت اوربا الممتدة من روسيا الى فرنسا، ومن السويد الى ايطاليا تعيش عصرا من البداوة والجهل والخوف والترحال، لم يعرف العرب لها مثيلا حتى في زمن الجاهلية.
ومنذ انهيار الامبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي كانت قبائل البربر منتشرة في كل مكان – – وكان الرهبان يتداولون في اديرتهم كتابا للقديس اوغسطين يحوي على (اخبار) حياة الاخرة ـ ولم يكن فيه علوم دنيوية مدونة. وكان القس يدعو مريديه لادارة ظهورهم لعالم الدنيا والتعلق (بحياة) الاخرة، يسرد لهم حكايات خيالية من منوال ( كيف تقف الملائكة على راس الابرة وكيف تنفذ من خلال ثقب الابرة ) – – كانت هذه (المعلومات) ثابتة مثلما كانت رسوم الكنائس ثابتة لا تتغير.

فلما تولى الملك الالماني شارلمان عام 768 م الحكم، قوي صلته بالخلفاء العباسيين في بغداد فامر باستدعاء النساخين الى بلاده وامرهم بتهذيب اللغة – هكذا ولدت اللغة الالمانية. وضبطت الحروف اللاتينية التي كتبت بها جميع اللغات الاوربية. كما امر بفتح مدرسة للنشئ ووضع كتابا يجمع شذرات المعرفة وقسمه الى سبعة ابواب.
الزراعة والحرف – نظرية الموسيقى – الحساب لضبط الضرائب والنفقات – هندسة البناء – الفلك لضبط التقويم – قواعد اللغة – – – وعندما توفي شارلمان اجتاحت اوربا غزوات البربر من الشمال، وهي قبائل متوحشة خربت المدن والسواحل، فعادت اوربا الى الظلمات. وعادت الفوضى والجهالة والخرافة، وعاد الخوف والترحال.

وبعد انحسار موجات البربر استقرت الحياة وانشئت الاسواق في القرن العاشر وبدأت حركة التجارة. كما بدا العمران حول الاسواق وظهرت القرى الكبيرة هنا وهناك. وبعد قرن من الزمن نبيت المدن، فكان لكل مدينة ميدان، وكان للميدان اربعة اضلاع.
ضلع لقصر الحاكم وضلع لمجلس الحكم وضلع للكنيسة، وضلع لسوق المدينة.
ومع ازدياد التجارة ظهر النظام القانوني والقضائي الذي ينظم المعاملات.

واذا احببت ان تعرف قرطبة، عاصمة الاندلس في العصر الاوربي المتخلف، فاقول ان صورتها لم تكن تختلف عن بغداد العباسية او القاهرة الفاطمية، في ازهى عصورهما.
فقرطبة هي اكبر المدن الاوربية ومنارة الثقافية العالمية. تعداد سكانها مليون وفيها 260 الف مبنى و8- الف دكان و 3000 مسجد و 300 حمام ومكتبة تضم نصف مليون مجلد. وقد ازدهرت قرطبة مع نظيراتها من المدن الاندلسية الاخرى في الصناعة المعمارية والحرير والجلود والحلى والمعادن، كما عرفت تجارة المحاصيل وفنون الري والزراعة.

كانت شوارع قرطبة تضاء في الليل وتحفها الارصفة من الجانبين وامسياتها غنية بالشعر والغناء والموسيقى، في الوقت الذي كانت شوارع لندن وباريس مظلمة والناس تغوص في وحل الطرقات – – ولعل الزائر الاوربي كان يدهش لما يشاهده في المدن العربية من مظاهر الزركشة والابهة في العمران، وشبابيك مزخرفة بالزجاج الملون واستعمال الاعمدة الرخامية باسلوب تنم عن علو في الذوق. ولا بد ان الزائر الاوربي لقرطبة كان يعجب من تغيير ازياء الناس بين الصيف والشتاء وسنة بعد سنة ومن انماط السلوك المهذب على مائدة الغذاء وتعدد الاطباق وتناول الحلويات بعد الطعام .

وقد كانت قرطبة حاشدة بالعلماء والباحثين في علم اللغة والفنون والطب والجراحة والموسيقى وانماط السلوك المهذب الذي نقله الفنان العراقي البارز زرياب من بغداد. ان الجو العلمي والادبي والفني في الاندلس قد شجع الدول الاوربية ان يرسلوا اولادهم الى الجامعات الاندلسية لينهلوا من علومها. كما ان امراء المقاطعات كانوا يقدمون الى المدن الاندلسية لغرض المعالجة الطبية. لما كان لها من شهرة عالمية في ذلك الحين.

وقد كان التسامح الديني بمدن الاندلس يسمح للمسيحيين واليهود في ممارسة طقوسهم في كنائسهم ومعابدهم. – مما يضاعف من بشاعة ما اقامه الاسبان بعد غزوهم من محاكم التفتيش وما مارسوه من اضطهاد للمسلمين مما يعجز وصفه.
ويذكر جيمس بيرك ان النساخين والمترجمين احتاجوا الى 150 سنة في نقل الكتب العربية الى اللغات الاوربية – – – عرفت اوربا علوما بعد زوال حضارة الاندلس لم يخطر ببالهم، كالرياضيات والجبر والهندسة والفلك والطب والتشريح وعلم النبات وعلم الحيوان والكيمياء والصيدلة وعلوم الطبيعة كعلم الضوء والمعمار والفلسفة. التي عن طريقها عرفت اوربا ارسطوا على الوجه الصحيح. واصبح اسم ابن رشد ت 1198 هو حجة المتعلمين في اوربا.

لقد عرف الاوربيون بفضل الكتب العربية كيف يحدث المطر، لكن هذه الظاهرة تناقض افكار الكنيسة التي كانت تعزيها الى الرحمة واللعنة – – لكن الافكار الجديدة قد احدثت ثورة في التقاليد مما دفعت البابا الى تحريم العلوم العربية عام 1210 – – فاضرب طلبة جامعة باريس من تلقي الدروس اضرابا طويلا استمر ستة سنوات مما اجبر البابا على رفع احكام التحريم. – – – وان كانت اوربا قد انكرت فضل المسلمين وفضل اللغة العربية عليها هذا الانكار الطويل فان واجبنا يحتم علينا ان لا ننساق وراء دعاويهم الكاذبة – – – انها علومنا التي اضاءت ظلمات اوربا وافكارنا التي انارت عقولهم – – فلا مجال للتحوط من استردادها لكي ننعم بثمارها وبتطوراتها – – ان ذلك ليس اغترابا، فقد نبعت العلوم من اصالتنا، واصالتنا قديرة على استيعابها وايقاظها من جديد.

* المصادر :

1- مقدمة عبد الرحمن ابن خلدون
2- صادق سليمان مجلة الحوار , العدد 4 , الجزء 17 2008 واشنطن
3- غوستاف لوبون , كتاب تاريخ العرب
4- عزيز العظمه , العرب والبرابرة , قبرص , لندن , الطبعة الأولى 1991
5- فيصل السامر , اروبا في القرون الوسطى بغداد 1981
6- سخيطة – محاكم التفتيش الأوروبية في القرون الوسطى
7- ويل دورنت – موسوعة قصة الحضارة
8- حسين مؤنس في كتاب الحضارة ص 313 , اصدار المجلس الثقافي للفنون والاداب . الكويت 1989

المصدر