السلطنة العثمانية “الأوروبية”.. قراءة فرنسية لإمبراطورية القرون الستة وتفاعلها مع القارة العجوز

293

لا يزال التاريخ العثماني يثير الجدل في النقاشات الأوروبية المعاصرة؛ فمنذ فتح القسطنطينية في 1453 إلى معاهدة “سيفر” في 1920؛ مرت الإمبراطورية الواقعة في شرق القارة العجوز بالعديد من الأحداث منذ نشأتها في آسيا، وتوسع طموحها السياسي والديني والفني، إلى أن وصلت إلى قلب أوروبا.

لكن القصة تبدأ قبل ذلك؛ فنحو سنة ألف للميلاد، ظهرت الدولة العثمانية للمرة الأولى على خريطة تاريخ العالم، بوصفها إمارة صغيرة تحيط بها الدولة السلجوقية شرقا والإمبراطورية البيزنطية في شمال غرب الأناضول، ولكن هذه الإمارة الصغيرة توسعت بسرعة؛ إذ تحوّلت إلى دولة عظمى خلال الفترة بين 1402 و1489، وامتدت حدودها لاحقا لتصل نهر الدانوب في الشمال، والفرات في الشرق، وكانت تبسط حكمها على أكثر من 20 قومية.

“الرجل المريض”

وفي مقال نشرته صحيفة “لوفيغارو” (Le Figaro) الفرنسية، يقول الكاتب جون سيفيليا إن معاهدة “سيفر” التي مر على توقيعها 100 عام ترمز إلى تفكيك الإمبراطورية العثمانية، التي عانت من الخسارة في الحرب عندما اصطفت مع قوى المحور، ليوقع السلطان محمد السادس هذه المعاهدة التي حجمت تركيا وحاصرتها داخل الأناضول فقط، لتنتهي بذلك إمبراطورية أسسها قبل أكثر من 6 قرون أسلافه العثمانيون.

ويشير الكاتب إلى أن قيصر روسيا نيكولاس الأول كان ذكر في مراسلة إلى السفير البريطاني في سانت بطرسبورغ السير جورج سيمور في 1853 أن الإمبراطورية العثمانية باتت “رجل أوروبا المريض”. ورغم أن هذه العبارة ظلت محفورة في ذاكرة التاريخ، فإن الأوروبيين قبل ذلك -ولوقت طويل جدا- كانوا يرتعدون خوفا أمام هذه الإمبراطورية.

ويذكر الكاتب أن الترك انطلقوا من آسيا الوسطى في بداية القرن 11، ليظهروا في منطقة الأناضول، ثم في 1071 تمكن السلاجقة (وهم قبائل تركية مسلمة) من الخروج منتصرين من معركة ملاذكرد ضد الإمبراطور البيزنطي رومان الرابع ديوجينيس، وهو ما سمح لهم بتثبيت أقدامهم في آسيا الصغرى.

مع نهاية القرن 13، عانت دولة السلاجقة من الانقسامات والصراعات الداخلية، فتمكن عثمان زعيم إحدى العشائر في شمال الأناضول من استغلال هذا الظرف وإعلان استقلاله، مستعينا بالشرعية التي اكتسبها في قتال البيزنطيين. ودون علم منه، كان عثمان حينها أسس سلالة حاكمة تحمل اسمه.

وخلال القرن 14، تمكن أورهان ابن عثمان من السيطرة على منطقتي بورصة وإزنك الواقعتين حاليا داخل الحدود التركية. وفي 1345، وبدعوة من يوحنا السادس قانتاقوزن النبيل اليوناني الذي كان يبحث عن الاستيلاء على العرش الإمبراطوري البيزنطي؛ عبر العثمانيون مضيق الدردنيل وأخضعوا منطقة تراقيا (شمال غرب تركيا الحالية وشرق اليونان). ورغم أن ذلك تم باسم الإمبراطور البيزنطي، فإنهم استفادوا من هذه الخطوة، لاتخاذ موطئ قدم لهم في شبه جزيرة جاليبولي (جنق قلعة التركية) في 1353، لتصبح أول أرض تركية في القارة الأوروبية.

معركة كوسوفو الحاسمة

مع نهاية القرن 14، واصل العثمانيون التقدم بخطى بطيئة، ولكنها واثقة مع السلطان مراد الأول، الذي أنشأ الإنكشارية، وهي فرقة من نخبة المشاة الذين أخذوا عندما كانوا أطفالا من عائلاتهم المسيحية، وتربيتهم على تعاليم الدين الإسلامي.

تحت حكم مراد الأول، هاجم العثمانيون البلقان بعد أن تمكنوا من غزو الجزء الشرقي من تراقيا وأسسوا عاصمتهم في 1365 في أدرنة، ثم تقدموا في بلغاريا. وقُتل السلطان في 1389 أثناء معركة كوسوفو، إلا أن الصرب رغم ذلك هُزموا وأصبحوا تحت حكم العثمانيين. وفي 1396 جاء دور جيش التحالف المجري البلغاري الويلزي الفرنسي البرغندي الألماني وقوات متنوعة (بمساعدة أسطول من البندقية بالبحر)، حيث انهزموا في معركة نيقوبوليس، ليصبح البلغار أيضا تحت سلطة الأتراك.

تمكن السلطان بايزيد الأول من توسيع الدولة العثمانية في الأناضول، وانتهى إلى غزو صربيا وثيساليا (في اليونان الحالية)، ثم حاصر القسطنطينية. ولكنه خسر معركة أنقرة في 1402 وتوفي في الأسر.

آيا صوفيا تصبح مسجدا

بعد نحو 20 عامًا جاء سلطان آخر هو مراد الثاني، ليعيد حصار القسطنطينية. ورغم فشله في دخول المدينة، أجبر الإمبراطور على تقديم تنازلات، ثم تمكن مراد الثاني من السيطرة على سالونيك الواقعة في شمال اليونان في 1430.

في 1440، فرض حصارا على بلغراد (العاصمة الصربية الحالية) إلا أن هذه المدينة قاومت بشدة. وحاول ملك بولندا والمجر تنظيم حملة صليبية ضد الأتراك بمساعدة من البابا يوجين الرابع، إلا أنهم خسروا ضد قوات مراد الثاني في 1444 في معركة فارنا (شرق بلغاريا الحالية على البحر الأسود). بعد ذلك، قام السلطان بإلحاق منطقة موريا اليونانية، ثم سحق المجريين في معركة كوسوفو الثانية في 1448، لتصبح كامل منطقة البلقان تحت حكم العثمانيين.

ثم جاء دور محمد الثاني (الفاتح)، ابن مراد الثاني، لينهي الإمبراطورية البيزنطية بمحاصرة القسطنطينية في أبريل/نيسان 1453 وقصف أسوارها، وهاجمها الأسطول العثماني من البوسفور وبحر مرمرة، وتغلغل أيضا من قناة القرن الذهبي، وبحلول يوم 29 مايو/أيار 1453 استسلمت العاصمة البيزنطية.

جعلت هذه التطورات أوروبا الغربية في صدمة بعد سقوط القسطنطينية، وفجأة بدأ الأوروبيون يشعرون بأن الأتراك يشكلون قوة عظمى بالعالم في ذلك الوقت. وفي 1458 تغيرت تسمية القسطنطينية لتصبح إسطنبول، ويتخذها محمد الثاني عاصمة للإمبراطورية العثمانية.

لقد غزا هذا الإمبراطور البوسنة وألبانيا وشرق الأناضول حتى الفرات، ووضع يديه على منطقة طرابزون، ثم احتل أثينا والمناطق التابعة لجمهورية جنوى وجمهورية البندقية في بحر إيجة. وفي النهاية، استولى أيضا على القرم من جنوى، ووضع قدميه في جنوب إيطاليا من خلال السيطرة على مدينة وقلعة أوترانتو.

وصلت الإمبراطورية العثمانية إلى ذروة قوتها مع السلطان سليمان الأول، حيث إنه مع وفاته في 1566 أصبحت هذه الإمبراطورية تضم الأناضول وأرمينيا وجزءًا من جورجيا وأذربيجان وكردستان وبلاد ما بين النهرين وسوريا والحجاز ومصر والجزائر وتونس وطرابلس. وكان أسطول السلطان يسيطر على أجزاء كبيرة من البحر الأبيض المتوسط، ويستطيع مهاجمة كل السفن التي تبحر تحت الراية المسيحية.

في القارة الأوروبية، باتت شبه جزيرة البلقان واليونان ومقاطعات الدانوب وترانسيلفانيا والمجر الشرقية والقرم كلها تحت حكم العثمانيين. ولم تعد أوروبا المسيحية موحدة أمام الأتراك، إذ إنه في 1536 كان ملك فرنسا فرانسوا الأول يبحث عن تحالف ضد الإمبراطور الروماني شارل الخامس، فوضع يده في يد السلطان سليمان.

قال الكاتب إن هذه الامبراطورية التي ولدت من التقاء العقيدة الإسلامية مع الموروث الإمبراطوري الروماني والبيزنطي، كانت واحدة من أعظم الدول التي أثرت في مجرى التاريخ، ووقفت في وجه أوروبا، ولكنها أنهِكت بشريا وماديا بفعل الصراعات الخارجية والداخلية، وانهارت مع مطلع القرن العشرين.

Original Article