الجواهــري في سنوات السبعين (1970-1979)

49

الجواهــري في سنوات السبعين
(1970-1979)
مابين السيـرة والذكريــات (1/2)
رواء الجصاني
——————————————————-
في مؤلف صدر في دمشق بجزأين، عامي 1989 و1990 وبعنوان (ذكرياتي) وثــق محمد مهدي الجواهري المعروف، والمعرف، بشاعر العرب الاكبر (1899-1997) مواجيز ومحطات عن بعض سيرة حياته المديدة: الشعرية والسياسية والاجتماعية والانسانية، من الولادة وحتى عام 1969 وعلى اساس ان يصدر لاحقا جزء ثالث ليغطى السنوات اللاحقة.. ولكن ذلك لم يحدث وحتى رحيله في دمشق بتاريخ 1997.7.27 .. بل ولم يعمل – الجواهري- بذلك الاتجاه اصلا، لاسباب ودوافع يطول ويعرض التكهن والتوثيق بشأنها.
ولأن الحال هكذا، شئنا في هذا التوثيق والبحث ان نساهم في المسعى على طريق تارخة الفترة من 1969 حين توقف الجواهري عن سرد ذكرياته ذات الجزأين المشار لهما اعلاه، وحتى تاريخ الرحيل في تموز / يوليو 1997 وبخلاصات ومحطات موجزة كما نظن، اذ ثمة في تلك الفترة المعنية، اي ما يقارب ثلاثة عقود، الكثير الكثير الذي يتطلب التوقف عنده وخاصة انها – اي العقود الثلاثة- شهدت احداثا ووقائع، بل وعواصف، عراقية وعربية ودولية، عاشها الجواهرى، وعايشها عن قرب، بل وفي صميم الصميم، ولا نبالغ. وسواء كان ذلك بالموقف او الشعر او الرؤى، ما طفح منها، وما خفي وربما كان أعظم..
وقبيل الدخول في الحقبة السبعينية، ثمة ما يجب التوثيق له عن الجواهري في عام 1969 ما بين السياسة والشعر، وبحسب الديوان العامر، قصيدته الدالية، ومطلعها “ياآبن الفراتيّن قد أصغى لك البلدُ، زعما بأنك فيه الصادح الغردُ” التي القى قسما منها في مهرجان الشعر ببغداد في نيسان/ ابريل، وهو اول فعالية مهمة يشارك فيها بعد عودته الى بغداد من مغتربه البراغي، اواخر عام 1968 . وقد جاءت “أبيات القصيد” لتتداول وتوثق، وتصول وتجول، حول شؤون عديدة مثل الموقف من الشعر العمودي، والرد بقسوة على شخصيات حاولت ان تطال من قمته آنذاك – اي الجواهري- بحسب رأيه. كما شملت ابياتها مواقف ورؤى سياسية عامة، فضلا عن تأرخة لبعض المحطات التاريخية ..

1/ شؤون وطنية وسياسية
تميّزت سبعينات القرن العشرين ، وهي سبعينات الجواهري في آن، بأحداث جمة ذات صلة مباشرة بالشاعر والوطن… فقبيل ابتداء ذلك العقد “التاريخي” بفترة وجيزة، كانت العودة إلى البلاد بعد سبعة أعوام من الغربة… وبعيّد انتهاء العقد ذاته، وبأسابيع قليلة، عاد الجواهري إلى الاغتراب مرة تالية وأخيرة.. وقد استمر الشاعر في تلك السنوات العشر، كما في عقود حياته السابقة في تبني الانحياز الى الناس في تطلعاتهم وعطاءاتهم من اجل العيش الكريم والحرية والارتقاء، ضد التخلف والعسف والظلم الاجتماعي والسياسي..
ومثلما تفاءل كثير من أبناء البلاد وشخصياتها الثقافية والسياسية، وغيرها، في السبعينات الماضية، ومطلعها، ونصفها الاول خصوصاً، تفاءل الجواهري بأن يشهد العراق استقراراً ونهوضاً، يريح فيه الركاب “من أين ومن عثر” بعد “جيلين” من المتاعب والأخطار والتضحيات… ولكن ذلك التفاؤل سرعان ما خبت جذوته، فأخذ الشاعر ينبه من بوادر انهيار البلاد وسيادة الظلام والحروب والعنف، واستمر محذراً دون أن ينجح في أن يسمع حيا .
أن التأرخة للجواهري، وعنه، في تلك السنوات السبعينية ذات تفاصيل واسعة، ومتشابكة شعريا ووطنيا وما بينهما لحدود كبيرة، ولا شك بأن انجاز ذلك يتطلب المزيد من الدقة والتوثيق، وسواء لما ورد في قصيده، او ما عبر عنه في اللقاءات والحوارات، الى جانب مايمكن ان يدلي به معاصرون أمينون، وبعض أهل بيته الذين واكبوا وعايشوا تلك الفترة. ومن هنا سنتمهل في التوثيق لهذه الجوانب – حاليا على الاقل- مع بعض اشارات موجزة تبين ولو بحدود ما، شيئا عما قد يفيد في القاء الضوء عن مواقف الشاعر الخالد، عن العراق السياسي في السبعينينات. ولعل من ابرز ما يؤرخ لذلك قصائد الشاعر ذاتها، ومنها:
1/ قصيدة “طيف تحدر .. يوم الشمال.. يوم السلام” في آذار / مارس 1970 بمناسبة الاعلان على ” احلال السلام في ربوع كردستان، واقرار الحقوق القومية للشعب الكردي في العراق، وفي المقدمة منها الحكم الذاتي” بحسب ديوان الجواهري..
2/ قصيدة “تحية الى وفود المشرقين” والقاها نهاية اذار/ مارس 1974 بمناسبة انعقاد مؤتمر عالمي ببغداد، رعته منظمة تضامن الشعوب الافرو- اسيوية.
2/ قصيدة “يوم التأميم” التي نظمها الجواهري بمناسبة تأميم النفط في العراق خلال حزيران/ يونيو 1972.
3/ قصيدة “أبا الشعر.. تغنّ بتموز ” السياسية الداعية الى وحدة الصفوف، وتجاوز الخلافات من اجل بناء الوطن وسعادة ابنائه، ونشرت بتاريخ 1978.7.22.
4/ قصيدة “دمشق.. جبهة المجد” القاها خلال زيارته دمشق اواخر العام 1978 دمشق وكان قد صدر في تلك الفترة اعلان الميثاق الوحدوي العراقي- السوري.

2/ بــراغ تنافس بغداد
لم يرح الجواهري ركابه، كما وعد في قصيـدة العودة الى العراق عام 1969 وبقي حتى سنوات عشر تالية يروح لبغداد ويعود الى منها براغ حيث شقته – او شقيّقته كما كان يصطلح عليها – والى اجوائه الخاصة التي تعود عليها وألفها منذ عام 1961. وفي ضوء تلك الاقامة في العاصمتين العراقية والتشيكية، كان الجواهري مطمئناً ومسروراً، حيث البديل قائم وان تعددت واختلفت الظروف. وبقيّ يحسب الحساب لهذا الواقع بكل جدية. وقد بذل منتهى الحرص لتجاوز أي اجراء او قصور قد يؤدي لفقدانه مثل ذلك الامتياز، أي حق الاقامة الدائمة في براغ.
كان البرنامج اليومي لحياة الجواهري في مستقره البراغي خلال عقد السبعينات تقليدياً الى حدود بعيدة. ومن بعضه اعداد طعامه بشكل شخصي والتمشي، وسماع الاخبار من الاذاعات المختلفة، دون التلفزيون الذي لم يكن على ود ٍ معه، على أقل وصف، وطيلة حياته. فضلاً عن القراءة طبعاً، وارتياد مقاه ٍ محددة من أبرزها “سلافيا” المطل على نهر الفلتافا البراغي و”سلوفنسكي دوم” الذي كتب فيه مملحة “الميني جوب” ومقهى “اوبسني دوم” الذي كان يسميه بـ “الحضرة”. وكذلك صالونا فندقي “يالطا” و”الكــرون” الشهيرين في مركز العاصمة. اما وجبات الطعام، وخاصة في فترة الغداء، فكان يتناولها في البيت بشكل عام، وعند الضرورة في المطاعم والحانات الشعبية والبسيطة، ووقوفاً بعض الأحيان… كما كان يشارك حضوراً أو شعراً في عدد من الأمسيات والفعاليات الرسمية أو الاحتفائية العربية والعراقية التي تقام بهذه المناسبة الوطنية او الاجتماعية أو تلك.
ويشير نجاح، النجل الثالث للجواهري، والمقيم في براغ منذ عام 1960 الى ان معارف والده وأصدقاءه المقربين في براغ خلال السبعينات، بعد ان عاد من عاد منهم الى العراق، كانوا محدودين جداً، وفي مقدمتهم الراحل موسى اسد، الذي كان عاشقاً للجواهري شاعراً وانساناً وصديقاً، وعدد من الممثلين السياسيين العراقيين والعرب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية واتحاد النقابات العالمي واتحاد الطلاب العالمي والذين كانوا يتغيّرون بين فترة وأخرى وأولهم آرا خاجودور وعادل حبة ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ. ويضيـــف نجاح: ” لقد كان الوالد يميل الى مداراة نفسه بنفسه، ويركن في الغالب الى اصدقاء محدودين، وحتى الى واحد فقط، في بعض الاحيان، وبما ينسجم ومزاجه. وكان يعتمد في تلك الفترة عليّ، وعلى ابن اخته رجاء الجصاني، في انجاز ما لا يستطيع انجازه منفرداً، كمعاملات السفر والترحال ومتطلبات الاقامة وغيرها من الشؤون الشخصية”.
واستناداً لاستذكارات الجواهري، فان زيارات وسفرات المثقفين والشعراء والسياسيين العراقيين والعرب، الشخصية والرسمية الى براغ لا تكتمل ما لم “يداهمونني في البيت او المقهى سواء شئت ذلك أم كرهت” حسب تصريحاته. وفي عودة لبعض الارشيف المتوفر نجد العديد مما يوثق اشارات الجواهري بهذا الخصوص، وثمة رسائل وقصائد وشهادات تؤرخ لبعض ذلك. وعلى سبيل المثال تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في ذكريات لها منشورة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 4/9/1996 ” كان آخر لقاء لي مع الجواهري في براغ خلال السبعينات. لم يتغيّر الجواهري، ظل ذلك الرشيق، الأنيق، الوسيم، الظريف، الصعب. وبقيت أنا تلك المعجبة السعيدة لأنها تنفست من هواء غرفة ضمته، وجلست يوماً مجلسه”.
ولربما من المناسب هنا، رداً على تقولات البعض من جهة، ولتوثيق الاحداث والوقائع، وذلك هو الأهم، ان نشير الى ان مستقر الجواهري البراغي خلال السبعينات لم يكن سوى شقة اعتيادية الموقع والبناء والأثاث، في منطقة براغ السادسة، حيّ (بيترشيني) تتكون من غرفتي نوم، وصالون استقبال متواضع، ومطبخ ومرافق صحية، وتقع في عمارة تقليدية، وأثاثها أكثر من بسيط … ولكن تلك الشقة التي قضى فيها الجواهري زهاء ثلاثة عقود، نظم فيها العديد من قصائده البارزة وحدد فيها مواقفه الأهم. كما ان تلك الشقة الصغيرة المتواضعة – لا غيرها – شهدت لقاءات واستضافات الجواهري لعشرات المفكرين الأدباء والمثقفين والمسؤولين السياسيين والرسميين العراقيين والعرب، وحتى بعض الأجانب.

3/ في رثاء عبد الناصر
في رحاب الشعر شهدت سبعينات القرن العشرين ولادة أزيد من خمسين قصيدة ومقطوعة نظمها الشاعر الكبير في السياسة والفكر والحياة، ومن بين المهم منها،بمناسبة الذكرى السنوية الاولى لرحيل الزعيم العربي والمصري جمال عبد الناصر التي صادفت عام 1971 ومطلعها: “أكبرت يومك ان يكون رثاءَ / الخالدون عرفتهم احياءَ” القاها في القاهرة ضمن فعالية الاستذكار الخاص بالمناسبة، وهي الزيارة الجواهرية الاولى الى مصر بعد عشرين عاما تماما، شهدت العديد من الخلافات والاختلافات، ومواقف تقييمية، وتضامنية، وغيرها سواء في قصائد شعرية او كتابات ولقاءات وغيرها.. وشملت “ابيات” القصيد في هذه المطولة الجواهرية التي بلغت 132 بيتاً شؤونا عامة وخاصة، ومواقف وأراء عن تاريخ ورواهن سياسية وثقافية، فضلا عما يليق بالمناسبة طبعا..

4/ رئاسة جديدة لاتحاد الادباء.. وخصومات !!
اعيد تشكيل اتحاد الأدباء في العراق عام 1970 وانتخب الجواهري رئيسا للهيئة الادارية التي ضمت الى جانبه شفيق الكمالي وحميد سعيد والفريد سمعان وغانم الدباغ..وكانت رئاسته للاتحاد هذه المرة بشكل رمزي، مقارنة برئاسته الأولى عام 1959… وقد ترأس وفود العراق في أكثر من فعالية ثقافية عربية وعالمية ومنها مؤتمر الأدباء والكتاب العرب الثامن (دمشق 1971) والمؤتمر التاسع (تونس 1973) فضلاً عن بعض فعاليات مجلس السلم العالمي الذي كان الجواهري ضمن مؤسسيه في أربعينات القرن العشرين..
ويبدو ان هذه الوقائع، والمكانة المرموقة اثارت غيظ عدد من الشعراء وألادباء العرب والعراقيين، وقد نوه الشاعر الكبير الى تلك المواقف المناوئة، وردّ عليها، في قصائد ومطولات ومنها داليته “أزح عن صدرك الزبدا، ودعه يبث ما وجدا” عام 1974 … ورائيته “آليت ابرد حر جمري، واديل من أمرٍ بخمرِ” ” عام 1975.. وسيرد المزيد عن تينك القصيدتين لاحقا في هذا التوثيق..
واذا ما كانت اعلاه ردود الجواهري شعريا على ما رأى بأنه خصام مفتعل، واثارات هنا وهناك، وخاصة حول الحداثة في الشعر، وانتهاء عصر القصيدة الكلاسيكية، فثمة كثير من رؤى ومواقف ثبتها حول الامر من خلال مقابلات ولقاءات اجريت معه، ومنها حوار اجراه معه سامي مهدي، منشور في العدد الثاني من مجلة المثقف العربي ( حزيران/يونيو لعام 1971) قال فيه – الجواهري- ردا على سؤال ” حول رأيه بواقع الحركة الشعرية في الوطن العربي”: “يمرّ الشعر العربي في مرحلة حرجة، ذلك ان فراغاً مخيفاً يحدث اليوم، وقد بات من الصعب ان يُملأ الفراغ الذي يتركه الشعراء الذين يشغلون الناس. ومع انني لا أنكر ان هناك أجيالاً تتمخض وتبحث لها عن طريق، الا ان الذي يذهب لا يعوض بسهولة، بخاصة وان العصر يتطور كثيراً وبأسرع مما نلحق به حتى على مستوى الشعر. على ان هذا الفراغ يبدو أكبر في العراق مع انه بلد الشعر، ذلك لأن العبقريات نادرة ويصعب تعويضها بحكم طبيعة الحياة”.
كما يضيف الجواهري الى اجابته السابقة ” وبرغم ما قلته فانني لست متشائماً، ولكنني متألم فحسب، فثمة في العراق من يركض قبل ان يتعلم المشي، وثمة حوارات يضيع فيها الوقت ولا يعلم الناس عم تدور. اما بالنسبة لي فاني ان ذهبت سأترك فراغاً كبيراً لن يعوض الى أمد طويل جدا. أقول هذا وأنا زاهد في الدنيا. وأما بالنسبة لحركة الشعر الحر فانها وبدون ظلم للحقيقة، لن تسدّ الفراغ، وذلك لعدم تبلورها. ان الموجود والمستمر من هذه الحركة أثبت انه لا يسد فراغاً. ومقياسنا في ذلك ان الشعر الحـر لم يدخل البيوت بعد ولم يُستشهد به. بمعنى انه لم يتخذ له بعد مكانة الشعر. واما بالنسبة للحركة التالية فهي أقل تبلوراً من سابقتها ولا يصح الحكم عليها منذ الآن”.

5/ اول بيت غـير مؤجــر !
وعلى الصعيد الشخصي، يمكن أن نشير الى أن شاعر الوطن قد امتلك – لأول مرة في حياته – وهو في سبعينات العمر داراً بناها بالاقتراض في حي القادسية بكرخ بغداد، حصل على ارضها من نقابة الصحفيين العراقيين أسوة بعديد اخر من منتسبي النقابة.. وقد انجز بشكل متواضع تشييد البيت أواخر العام 1971 وغُطيت نفقات البناء بين تمويل ذاتي، وقروض، وديون شخصية. وهو بيت تقليدي يضم ثلاث غرف نوم، وغرفة استقبال وأخرى للجلوس، مع المرافق الضرورية… وقد شهد – اليت ذاته- طوال عقد السبعينات الماضية أحداثاً ووقائع وتفاصيل متشابكة لمديات بعيدة في الشؤون والشجون الوطنية والثقافية والشعرية وما إليها، وما بينها.
وبحسب ما ندري بيقين، فأن ذلكم البيت، هو الأول والأخير، والوحيد الذي تملّكه الجواهري، ملكاً صرفاً بعد ترحال وإقامة واغتراب، وتغرب، وهو لا يحمل معه غير “منقار وأجنحة” على مدى نصف قرن… وفي ليالي ذلك البيت، ونهاراته، أينعت عبقريته قصائد ومطولات عديدة، ومنها الانساني، والوطني والاجتماعي والعائلي، ولافكاك بينها من التداخل والتلازم مع الهموم والانشغالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وما إليها.. وبهذه الحال كان ذلك البيت ذاته – لا غير – مزار أطياف ونخب سياسية متباينة الرؤى والمسؤوليات، وحتى الوفاء احياناً !.. ويواصل الجواهري: بعضها صادق أمين، وآخر متزلف متدثر بألف زيٍ وزيّ، ولكنها كانت جميعاً دعاة تآلف ومحبة، وان راحت احياناً في الأقوال وحسب…
كما كان البيت الذي نعنى ، ملتقى للنخب الفكرية والثقافية والشعرية، من كل النحل والرتب، تؤم مقام الجواهري: مودة وتلمذة وتباهياً، دعوا عنكمو الآخرين الذين كانوا يريدون صكوك الغفران. وكم يطول التعداد، ويعرض، ويعلو، لمن زار، وأحبَّ، وتبارك بزيارة أو لقاء أو حديث مع الشاعر الرمز… وفي الموضوع ذاته يقول حسن العلوي في كتابه “الجواهري رؤية غير سياسية” الصادر عام 1995في دمشق : اصطحبت معي الى بيت الجواهري عام 1979 بعثة صحفية لقضاء يوم كامل على غير موعد معه فسجلت عدسة المصور الفنان الراحل “محمد علي حسن” زوايا لم تكن مخفية على عيون زائريه… ودخل حتى غرفتي النوم والمطبخ … ولم يجد مكتبة، لكنه وجد رفوفاً. ولم يجد مطبخاً ولكنه وجد قدرين من الألمنيوم القديم… كما ولم تكن للجواهري غرفة نوم مستقلة ، وكان يضع ملابس الشتاء في حقيبة تحت سريره، ويعلق على الحائط ملابس الصيف. ويفعل العكس في الشتاء….
كما نشير بهذا الصدد لما نشره فوزي كريم (الشرق الأوسط اللندنية- 4/11/1991) في موضوع مسهب نقتطع منه: “كان بيت الجواهري متواضعاً، كنا نقتحمه احياناً آخر الليل، أنا وسعدي يوسف مدفوعين بأكثر من هاجس شيطاني ، قراءة لبيت مثلاً: الحمد للتاريخ حين تحولت …تلك المرافه فاستحلن متاعبا او عبارة واحدة “با نبتة البلوى” يخاطب بها جياع الشعب. أو كلمة “تقحم” او “خسئوا”. وكان الجواهري يستقبلنا دون ترحاب معظم الأحيان قائلاً : “الساعة الواحدة يا جماعة. ويتأمل ساعته ونحن نبصبص تحت الطاولة. لا تخلو طاولة الشاعر في الليل. كنا نعرف ولكن من يجرؤ في ساعة كهذه أن يسأل. ونسترضي ابا فرات، نقول: “أنت تعرف محبتنا ” ونغني له طربين من شعره… فيستجيب …”

6/ دعــوة مغربيـــة.. وتحامل، وردود
يُدعى الجواهري الى المغرب اواسط العام 1974 ويحظى بحفاوة ورعاية بالغتين، بما في ذلك ضيافة ملكية متعددة الأوجه، فضلاً عن منحه وسام الكفاية الفكرية الاعلى في البلاد. ويردّ الجواهري على ذلك بقصيدة شكر للعاهل المغربي حينئذ، الحسن الثاني، تعبيراً عن الثناء للاهتمام والتقدير غير المسبوق الذي لقيه، ككبير للشعراء العرب. ويثير ذلكم الأمر عدداً من والكتاب والسياسيين العراقيين والعرب. تارة تحت حجة مواقف الحكم المغربي من القضايا العربية آنذاك، ومرة عن موضوعة العلاقة بين السياسة والثقافة، وتارة في اثارة نعرات الخلاف بين الكلاسيكية والحداثة، وما شابه ذلك. ولعل ما يفيد الاشارة بهذا السياق الى مقال كتبه الناقد المصري غالي شكري حول الجواهري بعنوان “سقوط آخر العمالقة”… والمقال يقرأ من عنوانه كما يقال!..
وبحسب الجواهري فقد تسوّقَ من تلك القضية مثقف، وقيل شاعر، وسياسي عراقي تخبأ تحــت اسم “حمدان القرمطي” فــأرعد وأزبد في محافله “الثوريــة” الحقيقيــة او المدعاة، وكذلك في الصحافة “ذات العلاقة!” حول ابيات تحية وشكر للمُكرمين المغاربة. وقد مرت اعوام واعوام ولم يمتلك ذلك “الثوري” الجرأة لأن يكشف اسمه، مع اجتهادات هنا وهناك حوله… وقد كال ما عنده من السباب الرخيص، البعيد عن السياسة والثقافة اللتين تلبس لباسهما، وعلى مرأى حتى من المحبين الذين لم يفتحوا فاها..
وفي ” تحية… ونفثة غاضبة…” وهو عنوان قصيدة الجواهري التي القاها في الحفلة التكريمية التي اقامتها على شرفه وزارة الدولة المغربية للشؤون الثقافية، برعاية وزيرها الحاج محمد باحنين، على مسرح محمد الخامس في الرباط، مساء اليوم العشرين من ايلول / سبتمبر عام 1974 يبتدئ الشاعر الردّ على “دعاة ذلك الاستغلال والانتهاز تحت شعارات مزيفة” بحسب ما يوثقه الديوان العامر. ويجيء مطلع القصيدة التي تقارب ابياتها التسعين:
سماحاً إن شكا قلمي كلالا، وإن لم يُحسنِ الشعرُ المقالا
وإن راحت تُعاصيني القوافـي بحيثُ الفضلُ يُرْتَجَلُ ارتجالا
وتتواصل القصيدة في اداء اكثر من غرض: التحية المطلوبة رداً لجميل المكرمين، واعجاباً بجمال البلد، ومحبة لمواطنيه، وبثاً للشكوى وتأرخة لبعض المعاناة، ثم لتصل بعد ذلك الى “بيت القصيد” وهو اكثر من بيت كما سنرى:
وقلتُ لحاقدينَ عليّ غيظاً لأني لا أُحبّ الاحتيالا
هَبُوا كلّ القوافِلِ فـي حِماكُمْ فلا تَهْزَوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعُوا الخصامَ يجوزُ حدّاً بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتِذالا
وما أنا طالبٌ مالاً لأني هنالِكَ تاركٌ مالاً وآلا
ولا جاهاً، فعندي منه إرثٌ تليدٌ لا كجاهِهِمُ انتِحالا
وفي سياق التأرخة ذاتها نثبت هنا ان الجواهري قد خيّب “ظنون” وربما “تمنيّات” حاسديه ومتربصيه، فلم يُقـم في المغرب سوى بضعة اشهر، رغم كل الامتيازات التي قدمت له، وأبرزها ضيافة رسمية لفترة غير محدودة.. كما تجدر الاشارة أيضاً الى ان العراق الرسمي، وقد كان آنذاك مناقضاً للسياسة المغربية، قد “زَعَلَ” على الجواهري، وان بدون ضجة، أو اعلان صريح.
وحتى بعد سنوات عدة، لم يتردد الجواهري في الدفاع عن موقفه من هذه القضية، ازاء النهازين كما يحب ان يسميهم. ومن ذلك في حوار مسجل للكاتبة والصحفية اللبنانية، اعتدال رافع، في دمشق خلال الثمانينات الماضية فقال “اما القصيدة التي انشدتها في المغرب فقد كانت رداً على الحفاوة والتكريم الذي لقيته اثناء وجودي هناك… وعندما طلبوا مني ان تغنى تلك الابيات اعتذرت… لست نادماً على هذه القصيـــدة لانني شاعر، واذا كنت قد ألقيت كلمة بدلاً منها، معنى هذا انني استخف وأهين من كرموني، لأنني كنـــت دائماً وأبداً منسجماً مع نفسي، ولا احسن الكذب والنفـــاق. كان ذلك موقفاً مني ورداً على التكريم والوسام الذي خصوني به”.. وجاء في موقع آخر من الحوار “لقد استغل العاوون هذه القصائد ليشهروا بنباحهم… في الماضي كانوا يقولون الجواهري شيوعي، وأيضاً مداح؟ كيف يجتمع النقيضان، ويلتقي الضد بالضد؟ هل لكي يفترسوا رمزاً… أنا حصتي ارذل ما في اليمين انني شيوعي، وأقصى ما في اليسار بأنني مداح.. المُسف يجب الا يُسف عندما يتعرض للنقد. يكتب الذي ليّ، والذي عليّ”.
وهنا، لعل من المناسب ان نضيف اشارة اخيرة بخصوص الفترة المغربية – ان جازت الاستعارة – في حياة الجواهري فنقول : ان الحاج محمد باحنين وزير الدولة المكلف بالشؤون الثقافية بعث بتاريخ 21/1/1975 رسالة شخصية، لا ارق منها، الى الشاعر العظيم – محفوظة لدى مركز الجواهري في براغ – يؤكد فيها دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان تخليد الذكرى الألفية لولادة شاعر الاندلس، ابي الوليد احمد بن زيدون.. ويقرر الجواهري الاعتذار عن تلبية الدعوة ، ولربما لكي لا يعطي فرصة جديدة للمتربصين… وقبيل ارسال جواب الاعتذار بأيام ألغي الاحتفال لأسباب سياسية مغربية، و”كفى الله المؤمنين شر القتال”…
*يتبع القسم الثاني والاخير.
* المصادر: ——————————————————-
1/ اجزاء ديوان الجواهري / بيروت 2000 عن دار بيسان .
2/ كتاب (اصداء وظلال السبعينات ) لرواء الجصاني/ براغ 2001 عن دار بابيلون .
3/ كتاب ( الجواهري .. قصائــد وتاريخ ومواقف) لكفاح الجواهري ورواء الجصاني/ دمشق عام 2012 عن دار سندبـــاد .
3/ كتاب ( الجواهري بعيون حميمة) لرواء الجصاني/ عام 2012 عن مركز الجواهري- براغ.
4/ معايشات واحاديث، وشهادات شخصية للكاتب في بغداد وبراغ ودمشق .

المصدر