ا
انطلقت يوم الأربعاء 17 شباط فبراير على تمام السادسة مساء بتوقيت وسط وشمال أوروبا ندوة مفتوحة بعنوان: حركية القيمة في معجم الخطاب الدرامي ومتغيرات قراءة معادلاته الموضوعية.. قدّمها الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي وأدارها الأستاذ الدكتور جبار خماط فيما شارك فيها عشرات المثقافت والمثقفين وأساتذة التخصص ونشطاء في المنجز الجمالي والفلسفي بطابعه الفكري النقدي وما تضمَّن من تعقيب وحوار أغنى المحاضرة التي قدمت مفردات جديدة في مدخلات التناول والتشريح و بكل مفردة وتفصيلة في ميدان البحث بخيمة العنوان أعلاه… جرت المحاضرة في منصة غرفة ((زوووم))إعلام كلية الفنون الجميلة جامعة القادسية في العراق
ندوة مفتوحة في إشكالية: **حركية القيمة في معجم الخطاب الدرامي ومتغيرات قراءة معادلاته الموضوعية** المحاضرة تمتلك نصها المخصوص كما جاءت على لسان الدكتور تيسير الآلوسي تجدون نصوصا مكتوبة هي أوليات لمحاور المحاضرة الرئيسة في أسفل رابط التسجيل جرت في منصة كلية الفنون الجميلة بجامعة القادسية برعاية رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور كاظم الجبوري وعميد الكلية الدكتور كاظم نوير ندوة ثقافية تناول إلى جانب موضوع محاضرة الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي في حركية القيمة ومتغيرات المعادل الموضوعي، تناول الحضور من أعلام الفكر والثقافة والحوارات الأكاديمية شؤون المسرح العربي والعراقي بمزيد أضواء كاشفة عن طاقات تحريكه وتبني منجزه ودعمه نضع التسجيل الكامل للندوة في أدناه متمنين هنا لمنصة كلية الفنون الجميلة مزيد منجزات وفاعلية سامية بحركة تنوير وربط البرامج الجامعية الأكاديمية بحركة المجتمع عبر خطاب الثقافة وكسر أسوار الانفصام الحاجزة بين الأكاديمي والمعرفي الثقافي للإبداع.. تحية وتقدير لعشرات الحضور المتألق من أعلام المنجز التنوير المعرفي والجمالي وتحية لمئات الأحبة ممن تابع الندوة وتفاصيلها من خارج الغرفة بأمل تفعيل المساهمة من جهة إدارة الغرفة بنقل تداخلات الجميع والتفاعل معها في أثناء وقت الندوة وتوجيه النداء للحضور كي يدخل مباشرة لرحاب الحوار المباشر.. أجدد شكري وتقديري وامتناني لكل شخصية من الحضور الذي أكد مبادئ المساواة الإنسانية سواء الجندرية أم ألق التعدد القومي وتنوع الطيف فيه بما أكد تلاحما إنسانيا بهيا بين شعوب منطقتنا وتوجهات الأنسنة وحركة التنوير والتغيير عبر خدمة التخصص العلمي لمعالجات القضايا الدائرة بصورة فعَّلت الحوار طريقا وحيدا لإنتاج خطابات الثقافة وتبني مبادئ السلام والتقدم وحرية القرار والخيار كل المحبة وإلى ملتقيات جديدة أعد أحبتي فيها بالتفاعل مع منصات الثقافة المعنية بموضوعات منطقتنا شرقالأوسطية المتعددة.. إليكم الندوة كاملة https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10164751550190029&id=550735028 ********************************************************************** لقراءة أوليات مادة المحاضرة نصوصاً مكتوبةً، يرجى التفضل بقراءة المواد في أدناه ******************************************************
النص الأولي لمحاضرة: حركية القيمة في معجم الخطاب الدرامي ومتغيرات قراءة معادلاته الموضوعية
قبل أن نبدأ ينبغي أن نُحاول إخضاع المصطلح نفسه للتحديد المعجمي المخصوص بالمعالجة.. ونحن من جهة المنطلق نعتقد بأن الإبداع الجمالي الأدبي منه والفني إنّما يعبّر عن دلالات واعية في مقاصد اشتغالها، إذ القصيدة ومنطقها الشعري عبّر عن الغنائية ووقعها الذاتي كما يقرأ المصطلح وتحليلاته. وسنطلع على التعبير الموضوعي في الأحادي في سرديات القصّ وظهور الملحمة في المنجز البشري قديماً.. والأهم أن نتحول إلى مقدمات معالجتنا في التعبير الدرامي ومصطلحات التحليل فيه؛ بخاصة في إطار أنساق العلاقة مع البنى المجتمعية وتطورها أو متغيراتها المعبَّر عنها بظهور أجناس درامية جديدة بدلالاتها ومعانيها وأدوار اشتغال المنجز الجمالي…
بعامة، قد نتفق هنا على المعطى لماهية الحركة بنفسها ووجودها؛ ولكن ماذا سنلتقط من تلك المحددات المعجمية، لتتفق وسياق تناولنا القيمة كما في معجم الخطاب الدرامي، أو أدوات تشريح التطور الدرامي بنيوياً؟ وبالأصل ما المعادل الموضوعي لكل جنس من الأجناس الدرامية في إطار هذا النوع الجمالي في المنجز البشري؟
إننا نعتقد بأن غنائية القصيدة جاءت تعبيراً عن انفعال الذات البشري الفردي بمؤثرات واقعه المحيط ومن ثمّ فهو تجسيد لانفعالات الذات والاشتراطات النفسية بالخصوص؛ بينما جاءت أولى محاولات قراءة الموضوعي في بيئة الإنسان عبر منطق احتفظ بأحادية المنظور عندما قدم سردية القصّ سواء بالملاحم أم الأساطير وقوانينها. أما أفضل رؤية جمالية توصل إليها الإنسان أو بصياغة أدق أوسعها عمقا في قراءة ما يوحد الذاتي بالموضوعي فجسدها المسرح والأدب المسرحي أو ظهور الحدث الدرامي وما أوجزه في القيم التعبيرية له.. حيث تلازم الإنسان ووجوده والإنسان المبدع وفلسفته ووسائل تفكيره وتناوله الجمالي بما يجمعه أو يضمه من مفردات فكريّة، أخلاقية بالمعنى الأوسع للمصطلح وتلك السياسية والاجتماعية.
لقد رافقت مسيرة فنون النوع الدرامي متغيرات تعبيراتها بأجناس مختلفة جسدت بدءاً حركية قيمية في قوانين الجنس الدرامي مثلما أوضحت لنا قيمة الحركة العامة بين النشأة والولادة وبين ما انتهت إليه اليوم من تعبيرات جمالية مفتوحة. أما في النوع والجنس بنفسيهما فإنّ النّص أو (الأدب) المسرحي، لا يقف عند قوانين كتابته إنّما يتطلب بصورة ملزمة إلى جانب ذلك؛ عناصر جمالية أخرى يمثلها العرض المسرحي وعناصره من إخراج وتمثيل وإضاءة وموسيقا وسينوغرافيا وغيرها.
وهكذا يحيلنا الأدب المسرحي إلى أسئلة المكنون المضمر فيه مما يتحدث عن العلاقة بين قوانين العرض وقوانين كتابة نصه الأول أدبا ونصه ما قبل التلقي وتأويلاته بالإشارة إلى الريبتوار أو نص العرض وسيميولوجيا الأداء والوصول لغة للتداول بين المرسل في المسرح والمتلقي فيه…
هنا سيكون لزاماً التحدث عن القيمة الدرامية ومخرجات التفاعل بين القيم السائدة في المجتمع وبين عناصر الدراما وخطابها إذ نلتقي مع القصدية جمالية كانت أم فلسفية فكرية…
إذن، ومن أجل أن نتحدث عن القيمة سننتقل إلى الحركة ومداليلها، ونحن نرى أن القيمة هي المعادل الموضوعي الذي يكشف لنا عن الإنسان ومنجز حراكه.. ولتغيرات الإنسان وتنوع منجزاته في ضوء العلاقة بعالمه المحيط سنجد متغيراً قيميا واضحا.. لكن القيمة ستبقى هي، هي كمياً.. إنما اتجاه تقديرها هو المختلف بين الإيجاب والسلب. وما سيجده امرئ أو مجموعةٌ إيجابياً قد يجده الآخر بالضد سلبياً.. أما تجريديا رياضيا فإن القيمة كما ذكرنا للتو، خصلة إيجاب عند من يؤمن بها ويشرعنها أداةً لأحكامه وللتعرف إلى درجة نجاحه من فشله في إشباع (حاجة رغبة) أو التعبير عن معتقد وتقديره مخرجاته أي أنها تكتسي منطق الثبات عنده على الرغم من عدم إقرار منطق الوجود الإنساني لذاك الثبات بخلفية حركية الوجود التي ندركها…
إنّ المنجز الجمالي الدرامي يعبر عن معادله الموضوعي بوصفه القيم التي يريد أنْ تلبي حاجات المتلقي وهي كما نعرف أي الحاجات ابنة زمكانيتها؛ إذ لكل مستوى حضاري قيمه المعادلة لخصائص الوجود الإنساني… ففي مجتمع دولة المدينة حيث وُلِد انقسام للعمل وصراع مرادف لهوية المدينة كان التعبير الجمالي الأول درامي الهوية والقيم جسدت معادلا موضوعيا لتلك الهوية وعناصرها..
لكن التنظيم البشري للدول وأنماط نُظُمها وتشكيلاتها الاقتصا اجتماعية تعدد وتغير قيمياً فتعددت الأجناس الدرامية بهويات قيمية وأو معادلات موضوعية متنوعة مختلفة.. فوجدنا تجريدياً أنّ الدراما الإغريقية بنيويا غيرها في الشكسبيرية بعصر النهضة وهي ليست حتماً المسرحيات بمرحلة المذاهب الأدبية الكبرى بين الواقعية والرومانسية والرمزية وما فيها من تفرعات أجناسها وقيمها البنيوية جماليا بما يمنحنا تخطيطات تسمح برصد حركية وعدم ثبات قيمي بهذا المستوى مثلما ستختلف الرسائل والمقاصد على وفق القيم المتحركة مضمونيا في ثيمات تعالج موضوعاتها على وفق ضوابط ما آمنت به المجتمعات وما شرعنته وصاغت قوانينه مناهج اشتغال وعيش…
مراحل تطور البنية الدرامية:
((جوانب من النص الموجود هنا مقتبس من كتابي بتصرف مع أداء مختلف ومستقل في اشتغال المحاضرة)) إنَّ هذا التنوّعَ الكبير عبر المراحل المتعددة التي مرَّتْ بها الدراما فرضت ضرورة الإجابة عن تساؤلات كثيرة منها: كيف واكبَ النصُّ المسرحيُّ التطورات الفنية حتى وصلت إلى ما هي عليه في المسرحية الحديثة؟ ما المتغيّرات وآفاق التجديد فيها؟ وما آثار التيارات الاجتماعية والفكرية في بنيتها؟ ما خصائص كلّ مرحلة بصورة عامة؟
وفيما يخصّ المسرحية الإغريقية فإنَّ السلوك لا الشخصية هو الذي يحدّد مصير الدراما الإغريقية بينما تبقى السمات الشخصية في حدود علاقتها العرضية بالحدث وفي جوهر الصراع. ثم أنّ الإغريق امتازوا بروحهم الفلسفية المفكرة, فقيّدت مسرحياتهم وانصرف اهتمامهم إلى نتيجة القصة (في العمل الدرامي) أكثر من مقدمتها, ويمكن الالتفات إلى أنَّ الوضعية الأساسية تنحصر هنا في المشاهد الأولى للعمل إلى حدّ تطابق الوضعية الأساسية والوضعية الاستهلالية في أحيان عدة… حيث جرت العادة على حصر تقديم الوضعية الأساسية أما في مدخل (برولوغ Prologue) خاص أو في مشهد حواري مع افتتاح الوضعية الاستهلالية.
من ناحية أخرى تتميّز الدراما الإغريقية بوضوح دور الجوقة (الكورس) فضلاً عمّا يفرضه هذا الدور على بنية العمل من خصائص حيث يدخل في لحمة عضوية مع العمل ولا يقف عند حدود الفاصل أو دور الستارة أو حتى التعليق وإنَّما يمتد ليشارك في مسار الحدث وتطوره… أما مسألة الوحدات الثلاث وتقسيمات المشاهد والفصول فقد أسرف النقاد في عرض وجهات نظرهم المختلفة، ولا أجد مسوّغاً للإعادة ولكن التخطيطات (Schemes) الآتية توضح ما استقر عليه التصور بصدد المسرحية الإغريقية حيث يعبّر الشكل الأول عن مكوّناتها على وفق ما وصل إليه أرسطو من نتائج أثبتت استيعاباً دقيقاً لتلك المسرحية، حيث نلاحظ الوحدة العضوية لمفهومَي الشكل والمضمون مع اتحاد أجزائهما وإنْ كانت متضادة من حيث التسلسل المكوّن:
شكل رقم1(أما من حيث الشكل الذي تقع عليه عين المشاهد فإنَّه عادة يتشكل بالصورة الآتية:) شكل رقم 2
ومن الملاحظ أنَّ بعض المسرحيات تبدأ بالمدخل لعدم وجود المقدمة التي تتسمُ على العمومِ بكونِها مونولوغاً يذكّر بالأحداثِ التي أدت أو مهدت للوضعية الأساس وحتى تنتهي أغنية المدخل لا نكونُ قد وصلنا صلب العمل الذي يبدأ بالمشهد التمثيلي الأول وبعده تتوالى الفصول التي وظّفت الفواصل الإنشادية لغرض يُعدّ اليوم غرضاً تقنياً لا يدخل في صلب البنية الدرامية. ونلاحظ أيضاً أنَّ هذا التقسيم الشكلي مستمد من الحركة الفيزيائية على الخشبة بخاصة حركة الجوقة وأدائها فالمدخل هو تسمية مكانية للممرّ الذي تدخل منه الجوقة بأغنيتها التي نطلق عليها أغنية المدخل والجزء الأول من الإنشودة (Strophe) يقدَّم بانتقال الجوقة من اليمين إلى اليسار وعند الخاتمة التي نطلق عليها الـ Antistrophe) في التراجيديا القديمة هي حركة المغادرة المعاكسة جغرافيا لمسار الحدث بالمعنى الفيزيائي للحركة الانتقالية ولكن طبعا الموظفة بالدلالة إياها…
إنَّ هذه الصورة الشكلية هي الخطوط الجوهرية التي تمثل البنية في الدراما الحديثة إلا أنها ليست بالضرورة ظاهرة بالشكل السابق نفسه فإذا كانت حركة الجوقة واتجاهاتها يميناََ ويساراً ذات مغزى موظّف فإنَّ هذا التعبير الشكلي نلمسه اليوم في الاتجاه المضموني للعمل الدرامي حيث تُعدّ حركة الوضعية الأساس باتجاه وحركة الحلّ باتجاه معاكس، كلّ ذلك في إطار معالجة مضمونية تكتسب شكلاً جديداً يستثمر كثيراً من المتغيّرات الصنفية الجديدة…
فإذا عدنا إلى تلك الإشارة المتعلقة باهتمام الإغريق بالنتيجة فإنَّ ذلك يمكن تصويره بالشكل (Scheme) الصوري الآتي
شكل رقم 3
إن كل الأصناف التي أعقبت المسرحية الإغريقية لم تقدم تغيرات جوهرية أو إضافات ذات قيمة كبيرة ما يسوّغ لنا الانتقال إلى تناول مرحلة عصر النهضة الذي يعدّ تناول ما قدمه من إنجازات درامية ضرورة ملحّة لما كانت تمثله هذه المرحلة من نقلة نوعية عظيمة الشأن في تاريخ الدراما تتضمن الإنجازات السابقة وتفتح آفاق التطورات اللاحقة إنَّ أبرز سمة في مسرحية هذا العصر هو تعدد خطوط الحدث الدرامي الذي لم يُلْغِ وحدته بقدر ما ساعد على توسيع نطاق التصادم فيه. ذلك أنَّ تعدد أوجه برنامج العمل لا يستثني حقيقة أنَّ جميع خطوط الحدث المستقلة والقائمة بذاتها في الظاهر إنَّما تنمو من جذر واحد وأنّها تعدّ نسخاً متعددة من حيث الجوهر للوضعية نفسها على الرغم من أنَّ هذه الوضعية تبرز في أوجه مختلفة ويبدو أنّ ذلك يكون ممكنا لأنَّ وحدة الوضعية الأساس وما تولَّد عنها من وحدة تقوم بين الحدث وحلِّ العقدة إنَّما تتحقق لا في مجال الحكاية بل تتحقق مباشرة في ميدان الفكرة العامة وفي مجال الشخصيات.. على أنَّ تعدد خطوط أو نسخ الحدث الشكسبيري يســاعد على توسيع نطاق التصادم لم تصادف بهذه السمة ـ تعدد خطوط الحدث ـ موافقة عامة إما لأنَّها فُسِّرت على أنَّها خرق للقواعد الكلاسية القديمة أو لأنّها فُهِمت على أنَّها تكسير لوحدة الحدث أو بسبب من سوء تفسيرها بحيث صـورت على أنّها مـزج التراجيدي بالكوميدي من دون المعاني الواسعة للتطور الذي أوجدته.
وليس الأمر مقصوراً في البنية الجديدة على ولادة التراجيكوميدي وإنّما على صنف درامي لا ينتمي إلى شكسبير حسب بل إلى عصر النهضة برمّته ذلك الصنف الذي من مميزاته الجديدة أيضا: فقدان الوضعية الأساس لطبيعتها المحددة إذ تتوقف عن الارتباط ببداية المسرحية ومشاهدها التمهيدية حيث يصبح متعذرا تقديمها بهذه الصورة بحكم تعدد خطوط الحدث الدرامي في هذا العصر ولا يتمّ حصر أبعاد هذه الوضعية إلا بتتبعنا مجرى الحدث حتى النهاية مع ملاحظة أنَّ وظائف الوضعية الأساس لمأساة العصرتتسع وتتعمق وذلك لأنّ التصادم يتحقق بسبب الشخصية الجديدة التي لم تعُدْ تستوعبها منظومة العلاقات الملموسة تلك العلاقات القديمة البسيطة التي لا ترقى إلى تعقيدات العصر والتي لم يعُدْ كافيا في ظلها لتنحية التناقض وحلِّ التصادم الدرامي أنْ يُقادَ الحدث إلى موقف متعارض مع الوضعية الأساس بل أصبح هذا الحلّ بحاجة إلى خلق تعارض نفسيّ وداخليّ يمتاز بالمزيد من العمق والغنى. ومن أجل صورة أكثر وضوحا نلاحظ التغير الحاصل في حبكة المسرحية الجديدة كما في الشكل الآتي:ـ
شكل رقم 4
يوضح هذا الشكل عدة أمور أهمها: أنَّ الحدث المتهاوي الذي كان بحجم أكبر في المسرحية الإغريقية أصبح هنا مساويا في الأهمية للحدث المتصاعد (وهو أمر يلاحظ في الرسم بوضوح) وكذلك نلاحظ هنا توسط نقطة التحول للعمل (بنية الحدث) الدرامي من جهة وعدم تسجيل الوضعية الأساس على التخطيط لأنّها لا تتطابق مع الوضعية الاستهلالية مثلما كان ذلك في الأعمال الكلاسية القديمة.
إنَّ أكثر ما يثير الاهتمام في التطور الدرامي هو الشخصية الدرامية التي مثلت عصرا ركّز على الإنسان ـ الفرد بكلّ ما يطرحه هذا من قيم ومبادئ جديدة… ومن هذا المنطلق نلاحظ الأهمية المضاعفة ليس للبطل وخصمه وإنَّما للشخوص الأخرى التي لم تعدّ ثانوية إلا بالنسبة إلى دور البطل بمعنى أنَّ دورها هنا يتخذ أهمية جوهرية عميقة في رسم خطوط الحدث ومنحها معالمها الخاصة المميزة..
ومن المناسب بعد ذلك الالتفات إلى السمات الأبرز في المراحل الأساسية التي أعقبت النهضة وهي السمات التي ظلَّ تأثيرها واضحا فــي المسرحية الحديثة.. تتسم الكلاسية الجديدة بدور العامل الذاتي المتميّز وفي كونه أحد العوامل الحاسمة من لحظة انطلاق الحدث إلى حلِّ عقدته حيث يتوقف مسار الفعل الدرامي إلى حدّ بعيد على هذا الحلِّ الذاتي أو ذاك على العقل أو الضلال.
وبخلاف التراجيديا الشكسبيرية فإنَّ تراجيديا المذهب الكلاسي تتشابك خطوط الحدث فيها بصورة معقدة كما أنّ شخصياتها نموذجية أو نمطية (لا يشبه بعضها بعضا وعددها قليل) وهي لا تتميّز بغنى خصائصها الفردية مثل حال الشخصية الأليزابثية لأنَّ القانون الأساس عند الكلاسيين هو تغليب العام على الخاص ويعتمد حسم الصراع عندهم على ذلك الصراع النفسي الحاد بين العاطفة والواجب بين العقل والغواية… وهو الصراع المحسوم سلفا لصالح منطق العقل والواجب الاجتماعي على حساب الشخصي أو الذاتي وسنجابه مثل هذه الحالة في أصناف درامية حديثة من اتجاه الواقعية الساذجة ونمط المسرحية الدعائية أو مسرحية الرسالة وتلك الأعمال التي تعبر عن اتجاهات فكرية واجتماعية مغلِّبة المضامين على البنى التعبيرية وكتحصيل حاصل تضحي بالجانب الفني للعمل…
أما المسرحية البارزة التالية فقد كانت تلك التي خضعت لقوانين الرومانسية؛ ويكفي هنا استرجاع اللحظات الأساسية لسماتها الأكثر عمومية والخاصة بالفعل الدرامي لهذه المسرحيات, يكفي ذلك لنقتنع أنّ في أساسها تكمن تلك السمة التي تخصّ الدراما الرومانسية والمتمثلة بالظهور التدريجي وبالتغيّر الداخلي العميق للوضعية الأساسية التي لا يُكتَفَى بتحطيمها وبالإلغاء القائم على مبدأ النقيض ونقيضه كما هو الحال في دراما الأمس الكلاسية بل تؤدي بالضبط إلى عدد أكبر من التغيّرات وإلى إعادة البناء الداخـلي الشامل والعميق حيث يُبنى الفصل الأخير بأكمله من الدراما الرومانسية على التعارض الذي يوصل إلى أقصى درجات التوتر التراجيدي, التعارض بين اللانتيجة الكوميدية من وراء الوضعية الأساس وبين النتائج العميقة التي تؤدي إليها تلك الوضعية التي يجري تطويرها على وفق خطة تراجيدية.
لقد اكتملت بهذه السمات حالة ولادة الدرام البرجوازي متخلية بذلك عن نمطَي الدراما التراجيديا والكوميديا بكلِّ ما يحملان من مميّزات خاصة بكلِّ منهما مع احتفاظ الصنف الجديد بالخصائص النوعية التي تجعله الوريث الشرعي الجديد لهما.. وهنا بالضبط بدأت الدراما الحديثة تعلن عن نفسِها ولكن هذه المرّة على وفق اتجاهات ومدارس تكتسب سماتها الصنفية من العلاقة المباشرة بين الخصائص الفنية المميّزة ومؤثرات الاتجاه الاجتماعي والفكري بمعنى أنَّ العلاقة مع المرحلة التاريخية وأفقها الحضاري أصبحت علاقة غير مباشرة وأكثر تعقيدا من ذي قبل ولهذا السبب فإنَّنا نجابه في الدراما الحديثة أصنافا كثيرة بدأت بالطبيعية والواقعية ومرّت بالرمزية والصوفية والسريالية ولم تنتهِ بالملحمية والقسوة والغضب والاحتجاج؛ وهي مدارس واتجاهات لم تبدأ بالمسرح ولكن بحكم ارتباط الدراما بالأدب وألوان الفنون المختلفة فقد تأثرت بكلّ هذه الاتجاهات وغيرها… من هنا يمكن القول: إنَّ الدراما الحديثة لم تقف عند تعدد اتجاهاتها ومن ثمَّ تعدد أشكال بنيتها في أصناف درامية متغايرة, بل تجاوزت على بعض القوانين التي عُدَّت ـ حتى زمن قريب جداََ ـ قوانين نوعية ثابتة (على سبيل المثال المسرحية الملحمية اللاأرسطية…)
وأول ما يصادفنا نهاية القرن الماضي (التاسع عشر) هو الدراما الطبيعية التي لا تركض لاهثة وراء جلال المأســاة والعظمــة… فالواجب الأســـــاس للكاتب الطبيعي يتمثل في الكشف عن سلطان المقدمات الموضوعية, ومعطيات البيولوجية والوراثية, وإنَّ هذه المقدمات تملك عند الكاتب الطبيعي أهمية (جبرية) عضوية تقود إلى شكل جديد من حلول العقد من نمط “الإله من الآلة”. إذْ يتحدد اتجاه الحدث في الفصل الأخير من العمل الدرامي لا عن طريق ظهور قوى موجهة بصورة عدائية ضد الوضعية الأساس عن طريق الكشف عن مَنَعَة الجوانب الجبرية لهذه الوضعية فليست العلاقات الواقعية هو ما يجري كشفه في هذا الفصل ـ الأخير ـ بل القوانين البيولوجية التي تتحكم حسب اعتقاد الطبيعيين بجميع الناس.
لقد انتقلت أغلب خصائص هذه المسرحية إلى وريثتها الواقعية التي تخلّصت فقط من ذلك التطرّف غير الموضوعي الذي تُنهِي به الطبيعية حدثها على أساس جبري يستبدل القدر أو الإله الإغريقي بسلطة البيولوجيا وقوانين الوراثة وما إليهما وهو استبدال لا يمكن أنْ يُعدَّ شكليا على الرغم من هذا التماثل من حيث النتائج النهائية… ولم تَعُدْ مهمة الأدب المعاصر ـ عبر اتجاهه الواقعي بخاصة منه الدراما ـ تنحصر بالتصوير المباشر لهذا النوع من الصراع أو ذاك بل امتدّ إلى تتبع الأفكار الأساس (الثيمات Themes) وإدراكها بغرض تحديد العوامل والأسباب وفهم القوى الجوهرية التي تزخر في أعماق الحياة المعاصرة تلك القوى التي كانت في العالم القديم واضحة وميسورة الفهم الأمر الذي جعل أشكال تجسيدها الفني بسيطة ولا تحتمل التأويل بأكثر من معنى… فيما أصبحت اليوم الحرية الملحمية الملحوظة في البناء الدرامي وتبعثر المشاهد متناسبة مع الطبيعة الشخصية والخاصة للأهداف والأفعال ولمشاعر الشخصيات وهمومها الثقيلة والمتنوّعة (في عصرنا) مؤكدين بذلك الخط الوحيد أو الفكرة الفنية الأساسية.
إنَّ الوضعية الأساس في بنية الدراما الحديثة تنطوي على تعقيدات هائلة وإمكانات واسعة جدا لزيادة تشابكِ التصادم سيكولوجيا والكشفِ المعمَّقِ عن المنابع الاجتماعية لهذا التصادمِ ومن ثمَّ إلى إغناء شامل لجميعِ الأجزاءِ المكوِّنةِ للحدثِ الدراميّ فيها.
ويشمل هذا التوصيف ليس الاتجاه الواقعي حسب بل اتجاهات أخرى متعددة فالرمزية التي لا يمكن أنْ تشتملَ من حيث المظهر على أيِّ عناصر مكونة للبناء الدرامي باستثناء الحوار تجعلنا بهذه الصفة أقرب إلى عدِّها مجرد مناظرات فلسفية رمزية (مبهمة) حوفِظ فيها على الحوار بوصفه عنصرا شكليا خارجيا صرفا.. ومع ذلك فالحوار هنا يُعدّ حوارا دراميا خالصا لأنَّه يبني الهيكل الدرامي في الوقت الذي يجري إضْعاف جميع وسائل تحقيق الحدث الدرامي؛ وتختزل هذه الوسائل إلى أدنى حدّ ممكن فلا تشابكات ولا شخصيات ولا سايكولوجيا ولكنّ هذه [الـ (لا)] لا تعني مطلقا تبسيطا ساذجا ولا انفصاما عن قوانين النوع الدرامي ولكنها جزء من طبيعة الدراما الحديثة وما أضْفَتْهُ من متغيّرات جديدة.. والرمزية (Symbolism) توفر لنا حبكة آلية خارجية ظاهرة لا يمكن أنْ نستوعب علاقاتها وجدواها إلا باكتشاف العلاقات الداخلية الباطنة وهو مالا يمكن من دون استقراء شامل من (الكلّ) إلى (الجزء) وتفسير أبعادِهِ.
وتبتعد دراما الطليعيين أكثر من الرمزية عن القوانين الدرامية الكلاسية؛ والحال هنا يصلُ إلى حدِّ تسمية المسرح المضاد “و” مسرح اللامعقول : Absurd أو (اللامسرحية) إلى غير هذه الاصطلاحات التي تحاول إعلان ثورتها على التقاليد الدرامية السائدة وتظهر في هذا الصنف كلّ القوانين ذات المضمون الفني الخاصة بالحدث الدرامي وكأنّها مقلوبة رأسـاً على عقب فالعلاقات المتبادلة التي تربط ربطا وثيقا بين جميع حلقات الحدث تستحيل إلى تمزق وانفصام تامين والوحدة والانسجام إلى تفكك واضطراب والتكامل إلى مقاطع ولوحات متناثرة وذلك هو ما يظهر من التحليل الأولي المباشر للعبثية ومع ذلك تظل هذه المسرحية صنفا دراميا بأية حال. فالأرسطية والملحمية واللامسرحية (المسرح المضاد..) هي ثلاثة تيارات كبرى تنطوي على العديد من الفروع الثانوية التي تختلف بمديّات متباينة الحجم ابتعادا واقترابا من الأصول التاريخية ومن جوهر القوانين العامة للنوع الدرامي.
لقد جرت متغيّرات نوعية جوهرية في التشكيلات الاجتماعية ودخل عالمنا المعاصر مرحلة تاريخية جديدة بكلّ ما فيها من مكونات وكان لهذا أثره في النتاج الحضاري بعامة وفي دراما العصر بخاصة.. ويمكن البرهنة على أنَّ التطور الدرامي الكبير قد بدأ من الازدواجية في خطة الحدث (الاعتيادية جدا) غير أنّها مع ذلك (فريدة جدا) وتذهب بعيدا من حيث النتائج التي توصلت إليها.
فهذا الحدث يتطور في نطاق العلاقات الخاصة المتبادلة بين الشخصيات وفي نطاق العلاقات التي تربط بواسطتها كل من هذه الشخصيات بالمشاكل الاجتماعية والحياتية العامة التي تظهر بحكم الدفع الهائل الذي تجلبه القوى التاريخية الجديدة. هذه القوى التي يتم تجسيدها بأشكالها المختلفة في دراما القرن العشرين.
ويتحدد التأثير المتبادل بين خطة العلاقات الشخصية الخطة المباشرة الأولى الخاصة وبين الخطة الثانية الخطة ـ الأيديولوجية (الخطة العامة) في الدراما بصورة معقدة جدا ومتناقضة غير أنّ هذا التأثير سيكون مـثمراَ َ في النهاية ويؤدي إلى سمة درامية نوعية جديدة تتمثل في تحطيم الحدود بين مختلف التراكيب الصنفية وحتى النوعية وإلى الاندماج العضوي بين أسسها .. أما الكيفية التي تكشف فعالية التأثير المتبادل لخطتي الحدث الخاصة والعامة فإن الأخيرة (الخطة العامة) لا تعلن عن نفسها في بداية الحدث إلا أنها تتكشف تدريجيا عبر مسيرة العلاقات الشخصية وتطور الحدث وعلى هذا فإن الدراما الحديثة إذ تحافظ على وحدة الحدث الدرامي فإنها في الوقت ذاته تعمل على التوسيع من حدود هذه الوحدة وإمكاناتها مقربة بذلك بين التركيب الدرامي والملحمي من دون أن تفقد الدراما استقلاليتها من جراء ذلك.
وتتجسد حالة توسيع إمكانات قانون وحدة الحدث في إضعاف صلات الحلقات الدرامية المتعاقبة في وقت تتوالى الحلقات الفكرية الصرفة ـ الكامنة في العمل ـ بشكل مترابط ترابطا عميقا.
وبوجه عام يمكن القول إن النقلة الجديدة من حيث الشكل التخطيطي للبنية المسرحية المعاصرة تتميز عن التخطيطات السابقة كما هو موضح في الشكل الآتي:
شكل رقم 5
وبالعودة إلى الأشكال التخطيطية السابقة نلاحظ أن نقطة التحول في المسرحية الإغريقية تقع بعد منتصف العمل فيما تتوسط هذه النقطة أعمال عصر النهضة بخاصة المسرحية الشكسبيرية ويتحول الأمر في المسرحية المعاصرة حيث يزداد الاهتمام بالحدث الصاعد(Rising Action) دافعا نقطة التحول باتجاه الذروة حتى تتطابق النقطتان في عدة أحيان لتستغني الدراما الحديثة عن الحدث المتهاوي وفي الحالة الأخيرة يفضَّل ترك هرم فرايتاغ (Freitag) الذي كان يعبر عن ثنائية الفعل الصاعد والهابط وإذ تتطابق نقطة التحول والذروة وينتفي وجود الحدث الهابط ـ (الذي كان يتمثل وجوده بين نقطة التحول ـ ن. ت. ـ والذروة) ـ فإننا أمام رسم تخطيطي جديد أكثر دقة في التعبير عن الدراما الحديثة وسيعبر هذا التخطيط فضلا عن ذلك عن سمة جديدة تخص النهاية المفتوحة (Opened end) وهي من حيث التعريف مقلوب النهاية المغلقة (Closed End) للدراما التقليدية (Traditional Drama) .. أما التخطيط الجديد فيتمثل بخط مستقيم صاعد ينقسم إلى مستويات متعددة كالآتي:
شكل رقم (6)
يمكن من خلال التخطيطات (ٍSchemes) الآتية تلمس ما جرى توضيحه من المتغيرات وسمات البنية الدرامية:
= A الفعل الصاعد = B نقطة التحول = C الفعل الهابط D = النهاية المغلقة = dنهاية مفتوحة
شكل رقم 7
حيث اهتمت المسرحية الإغريقية بالنهايات لأن مادة العرض موجودة في ذهن مشاهدها بخاصة أن موضوعاتها مستقاة من الميثولوجيا أو الأساطير المعروفة .. بينما حصل توسع في عرض المادة مع انفتاح موضوعات الدراما على آفاق وأفكار جديدة نسبيا وتخلصت المسرحية الحديثة من الحدث الهابط بشكل جزئي أو نهائي لأن النهاية تظل متروكة من دون حسم نهائي وهو أمر يرتبط بالانفتاح الذهني الأكثر منعة ورحابة من حيث تقبله لتعددية وجهات النظر عند إنسان العصر الحديث .. ومن هنا صارت مهمة الدراما تنصب على معالجة الأزمة وتعقيداتها وعرض بعض الوسائل المساعدة على الحل أكثر من التركيز على الحل النهائي الحاسم.
ويمكن من ناحية أخرى وضع تصور آخر لمعمارية المسرحية , فالمسرحية الإغريقية يمكن تشبيهها بقوس كبير تظهر الأزمات عليه بشكل أقواس صغيرة متتابعة أما تمثيل المسرحية الإنجليزية والفرنسية فإن أقرب شكل مناسب هو هرم فرايتاغ :ــ
شكل رقم 8
وذلك لما تتضمنه من حالة تطور درامي أشبه بالهارموني سواء في صعوده أو هبوطه وهذا يعود إلى عمق الترابط السببي بين حلقات الحدث وإيقاع العمل بصورة عامة. وصورة الإيقاع في المسرحية الإسبانية الكلاسية تختلف قليلا ذلك أنها تفسح مجالا بين أزمة وأخرى لتخفيف شدة التوتر وتصير بصورة سلّم:
شكل رقم 10
حتى تصل المسرحية نقطة التحول والذروة فيكون الحدث الهابط متجها إلى النهاية بشكل سريع ومباشر ومن دون أي تلكؤ. فإذا وصلنا إلى المسرحية الحديثة فإننا نجابه بأشكال لا حصر لها, إنها تستفيد من كل هذه الأشكال القديمة مضافا إليها الخصائص الجديدة التي امتلكتها. والأمر لا يتعلق بتكوين أشكال معينة بالتحديد ولكنه يتعلق بما تعكسه لنا هذه التخطيطات من تصور ملموس لمعمارية المسرحية فالشكل الدائري لا يعنى بالانقلاب ولا بتحطيم الوضعية الأساس بقدر عنايته بعرض هذه الوضعية والحكمة من رسم التخطيط بخط صاعد أو بخط دائري هو فــي التوترالمتصاعد باستمرار حتى النهاية التي تُترك مفتوحة وهي السمة التي تبقي على هذا التوتر مستمرا في الوقت الذي تهتم المسرحية دائرية البنية بتوظيفها المقالب المتعاقبة من دون الحاجة إلى قمة توتر لأن النهاية فيها لا تحتاج إلى كل هذا الشحن بقدر حاجتها إلى وسائل إيصالها من جديد إلى نقطة البداية مع بعض التبادلات الموضوعية غير الجوهرية وأغلب ما تقع هذه الحالات في مسرحيات توفيقية في موضوعها ومعالجتها أو في توكيدها ثبات حالة أثارت اليأس من إمكان تغييرها..
إن جملة هذه التأثيرات الخارجية هي التي صاغت البنية الداخلية لدراما اليوم مثلما صاغتها بالأمس بطريقة مغايرة. وإذا أمكن الاتفاق على هذه الشروط فإننا سنتلمس طبيعة التطور الدرامي ليس في البنية فحسب بل في كل ما يتصل بجعل هذه البنية تأخذ حالة بعينها ولا تأخذ حالة أخرى.
وهكذا فإن أية توصيفات وردت هنا هي جزء من عملية رسم القوانين والمبادئ التي أفادت منها مسرحيتنا العربية في العراق بوصفها القوانين التي تمّ تطويعها في معالجة موضوعات محلية وقصص أو حبكات من واقعنا المعاصر ومن تراثنا. وتعدّ هذه المداخلة خلاصة منطقية مؤداها التوظيف الأول الساذج ومن ثمّ البحث عن تجربة خاصة أصيلة لمسرحيتنا..
وليس من شأن هذه المداخلة النظرية الموجزة البحث في أوجه الخلاف الكثيرة , ولهذا تجنبنا مثل هذه المسألة ـ مسألة الخلاف في وجهات النظر ـ مركزين على مبادئ عمل أو أدوات تحليلية وأول هذه الأدوات التي نحن بحاجة ماسة إليها هو ما أجريناه من تتبع للأصناف الدرامية ومـراحلها للإفادة منها في استكشاف المعاني الجوهرية للدراما وبنيتها التي نحن بصدد استقرائها.
مصدر للقيمة الدرامية [الجمالية] قبل وضعها النهائي في سياق نص المحاضرة
وكما شاهدنا قراءتنا لولادة النوع الدرامي والأجناس الدرامي حيث لكل تعبير قيمة جمالية دالة بقوانين تركيبها المجردة مثلما كشفنا عن القيمة لوحدات الخطة الفكرية العامة وما ستحيلنا إليه… وبهذا فتحت نتحدث عن مفهوم القيمة (لنتذكر أن لها علم باسم علم القيمة Axiology) انطلاقا من تشغيلنا إياها بمحدد مداليلها كما يقدمه العلم الذي يدرسها وهي كونها أي القيمةُ تجسد: الخصلةَ أو الخاصيّة التي بتوافرها يكون الوجود الإنساني محدداً في نمط من إنجازاته أو تصرفاته وسلوكياته بتلك السمة القيمة منطلقا للحكم بالاستحسان أو الاستياء من مخرجات وجود إنساني بعينه.. والقصد أن نوفر لاهتمامات أو رغبات الإنسان وحاجاته تقويماً كما يتم ذلك في كوانتم الوجود.. وعلى غرار كوانتم الكومبيوتر واشتغاله حيث البايت كمثال: يتشكل من 1 إذا تحرك وصفرا إذا توقف وهو ما يقول: إن ذات الشيء يمكن أن يكون باتجاه فينعكس اتجاهه في سياق آخر مختلف ونحن نسجل هذا ليس على حقيقة المعنى في (واحد وصفر) ولكن على سبيل تمثيل الوحدة الأساس وفرص استثمارها بوضعها بتسلسل بعينه..
أشير إلى أن اشتغال مسرحيات عصر في عصر آخر يمكن أن يكون تمثلات إيجاب قيمياً حتى بأدائها بشروطها التي تم تقديمها بها في عصرها ولكنها ستكون أمرا مغايرا سلبيا إذا ما تبنيناها لمعالجة ثيمة جديدة بمفرداتها القيمية الجمالية السابقة.. وفرق كبير بين الماضوي بتمترساته القيمية المنقرضة أمام متغير العصر وبين التراثي يمنحنا أطر قادرة على الحركة للتناسق النسبي مع المتغير…
على أن هذا التقويم والتقييم يظل بحاجة لمنظور غير متكلس للمقدس وتعبيراته عن القيم بوصفها وجودا أو معادلا موضوعيا معنويا روحيا ليس القصد منه وفيه الوقوع بمصيدة المثال الرياضي المجرد الجامد الذي ينحي متغيرات الحياة الإنسانية لصالح ذلك الجمود ولا أقول الثبات ففي كل الأحوال نتحدث عن مخرجات المنجز البشري بوصفه ابن التفاعل الزمكاني المتغير باستمرارالحركة ثابتا وجوديا للإنسان ومنتجه القيمي جماليا مضمونيا…
وسيبقى التحدث عن القيم متأسساً فضلا عن طابعها ومحددها، أقول: متأسساً على كونها غاياتٍ ومقاصد أو أهدافاً تشتغل بمسار تحفيز الإنسان ودفعه أو تشجيعه على تمثّل تلبيتها نجاحاً وجودياً… هنا نركز قيميا على بعض اصطلاحات ذات أهمية في التعبير عن القيمة، من قبيل الحاجة التي تخلق الغاية والدافع أو الاهتمام للحصول عليها أو الوصول لممارستها سلوكا أخلاقيا أو كسبا لسمة تعبيرية…
وبالتأكيد هناك انفصام في دروب القيم ومحدداتها بين تفريغ الإنسان من إنسانيته بذرائع وفروض خارجية لا تنطلق من وجوده بل من اختلاق عوالم قيمية متوهَّمة تحظر كل قيم الأنسنة بخاصة منها قيم العمل الإنساني المنتج معرفيا جمالياً…
ونحن ندري هنا وندرك أنه كثرما يتم اختلاق الأباطيل بأضاليل أدعى للتعارض والعمل والتناقض وإعمار الوجود الذاتي والموضوعي حيث للعمل قدسية وحيث من يعمل خير بالتأكيد ممن يحيا متبطلا طفيلياً يعتاش على اختلاق الأوهام والأضاليل…
إن مزاعم وجوب انقطاع العقل للروحاني لاختلاقات أوهام المطلق يلغي القيم الروحية لمنجز العقل الإنساني من ثقافي وجمالي يؤسسان للبناء والتقدم ولإعمار الأرض المكلف إنتاج خيراتها وإعمارها بكل ما تقتضيه الحاجات الإنسانية الروحية المعنوية تلك التي تؤسس للمادية لا التي تلغيها وتصادر واقعية وجودها.. وهنا تبدأ معركة صراع عميق تناقضي بيين اتجاهي القيمة ومخرجات معادلهما الموضوعي الذي يبني ويتقدم وينتج ثقافة فاعلة والذي يهدم بإفرازه نتن القيم الإتلافية..
عندما نتحدث بمستوى الفعل وإنتاجه الجمال بقوانين الدراما وخطابها سنتحدث عن الدراما بمعحم ثوابتها الوجودية وعن معادلاتها الموضوعية مجسدة في الفارق تجاه اللغة الجمالية حيث معادلة:
لغة جمالية درامية – لغة معجم الوجود الدرامي = مقدار انزياح أو عدول يمثل بعضه الأجناس الدرامية وحركيتها فيما يمثل بعضه الآخر منجز الإبداع عند فريق عمق الدراما وأو العرض المسرحي: الكاتب المخرج الممثل…
علينا بهذه الحال أن ندرك أنّ القيمة هي التي تعطينا مقاييس أو معايير وموازين، بميدان بعينه بالارتباط باستمرار بالعام المقتضي للضوابط والمحددات لا الذي يفرضها إلزاماً ووجوباً قسريا بما يتعارض وتحقيق المشتركات الإنسانية.. وعندما توجد الحرية لا الإلزام الفوقي القسري توجد الهوية والخصال أو القيم النابعة من ثقافة بنائية فيما العكس يخلق انهياراً قيميا باختلاقه معايير تتناقض ومصالح العيش اليومي للإنسان… هنا القضية أبعد من ثقافة عرجاء شوهاء لأنها ستمس مصيره واستقلاليته وحرية إرادته…
هل سيتمكن المستعبد بأغلال وقيود وأصفاد إنتاج ثقافة تنويرية تنتمي للعقل العلمي؟ وهل سيتمكن من التعبير بجماليات بنية المجتمع الإنساني بمعنى جماليات الدراما المعادل الموضوعي للمدينة والدولة الحديثة؟
طبعا لا لهذا فإن خالقي الماضويات القيمية يُكرِهون المجتمع على اجترار نظُم ما قبل الدولة الحديثة كي يفرضون اتساق تعبيراتهم القيمية ومعادلاتها الموضوعية بمعنى تخريب الدولة قهريا عنفياً وهم بهذا يسحقون اية فرصة للإبداع بنموذجه الجمالي الأكثر تقدماً..
إنَّ الخير والفضيلة والعدالة هي من الإلزامات المفروضة لكنها مثلما أشرنا من قبل تظل قيم نسبية ومهما كانت حركة المتغيرات ستكون الثابت المعمول به مجتمعيا فرديا جمعيا ما فضح طابع الارتداد واجترار نظم ما قبل نسق الحاضر…
المسرحية الجديدة والتجريب فيها هو معادل موضوعي لعصرنا جماليا وكذا في الثيمة المتناولة وحال فرض قوانين الدراما الأولى العتيقة يمثل خطلا في تعارضه الإتلافي مع ثابت حركية القيمة وطابعها المتغير في إطار نسبيتها وارتباطها كوانتم تعريفها في ضوء العصر وانزياحات عدول إبداعه…
إنّ التحدث عن كوانتم القيمة يدفعنا للاستفادة من تعريف القيمة المادية ومنها القيمة الاقتصادية حيث تثمين الشيء وفائضه هو مقدار المعادل لجهد المُنتِج فرداً أو جماعة وهو ما يؤكد أن القيمة الدرامية تكمن ليس في أيّ دراما مبنية بقوانين الجنس الدرامي وإنما في مقدار الانزياح العدول بمعنى الإضافة الجمالية المخصوصة؛ تلك التي تتعاظم بمقدار تعاظم الجهد المبذول من المبدع أو جماعة الإبداع…
إننا دائما مع فكرة توافر القيم كونها تأسيس في السايكوسوسيولوجي من جهة كونها صفات توجه السلوك بإطار العلاقات والنظام الحضاري وطابع هويته وهي رؤية الفلسفة على أنها محدِّدة في منظومة (الأخلاق بالمعنى الفلسفي) بما يجسد المعادل الموضوعي لتحقيق الرغبة والسلوك الإنساني ..
ويتأكد بأي استقراء للقيم أنها متنوعة مختلفة أفقيا رأسيا أو جغرافيا مكانيا زمنيا وعندما ننظر إلى هرمية القيمة بحسب أولوياتها سنتجه لاستقراء طابع التزام العمل الدرامي بخصائص النوع في قمة الخصال ليأتي بعدها خصائص الجنس الدرامي فخصائص خطاب المبدع وإن وصلتنا بالمقلوب من جهة التسلسل إلا أن بنيتها الهرمية تكمن في مواضع أولوية التعبير الجمالي في إطار قوانينه ومستويات تجسيدها..
بوقت سيأتي التعدد القيمي لموضوعات الدراما ناجما عن اختلاف الحاجات الإنسانية ودقة التفاعل مع تلك الحاجات والاهتمامات من اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية من دون انتفاء جدلية الموضوعات وكل ثيمة فيها وهي جدلية في ضوء مخرجات تفاعل الذاتي والموضوعي في القيمة الجمالية بصورة زمكانية الارتباط ما يُبرز معنا قيما نظرية يندرج فيها الاهتمام بالتجريب والبحث والاستقصاء مثلما يظهر معنا مقدار التفاعل بالمحيط والبيئة إيجابا وسلبا والنظر الفلسفي إلى الكون والوجود وقوانين فهمه من قبيل التوقف عند أنتروبيا الوجود ومقاربتها مع أنتروبيا الأعمال الدرامية ومواضع العشوائية والاعتباط فيها من الانتظام بكوانتم القيم فيه.. بالتعبير عن الجمال في الأشياء وتقدير الفنّ وقيمه، كمقدار التفوّق الفنيّ، ومستويات حب الفنون والعلاقة بمنجزاتها أو الدفع لإنتاجها كيما تسد الحاجة الفعلية إليها إذا ما تفكرنا بثيمة الأنسنة والمعاصرة.
دوران التناول عبر محاور للاستذكار ومراجعة بنية المحاضرة، كالآتي:
الأجناس الدرامية قيم كل منها ونسبيتها ومتغير الحركة في ضوء كوانتم القيمة
القيمة الاجتماعية الجمالية لكل مادة التجريد في قوانين الجنس الدرامي
هل يحدد أي فكر أو أيديولوجيا القيمة الفعلية
مادة من مصادر ومراجع تم في ضوئها بناء أوليات المحاضرة ببعض فقراتها في إطار:
ندركُ كم هي متغيرات العصر الحديث متقدمة متطورة، تتسم نتيجة تراكم معرفي ومنجز مدني إنساني بتنوعات خطاب الثقافة الجديد؛ بكل ما يحمله من بٌعد تركيبي يتبادل التأثير في اشتغاله، حد التعقيد ولكن التعقيد هنا بالمعنى الإيجابي لا السلبي مفهوماً.. وإذا كانت الفلسفةُ، اليونانية الأصل والخطاب البياني الأسطوري سومري الولادة، قد قدما خطين من المنجز الأول معرفياً جمالياً، فإنّ عصرنا قد امتاح من كل ذلك ليقدم العرض المسرحي في ضوء متراكم العمق الزمني التاريخي متحداً بعمق الخبرات وجديد عصرنا إبداعياً…
ومنذ بدء المسرحية العصرانية جاء التركيبي فيما قدمته، مستنداً إلى فلسفة المرحلة حيث الإيمان بثبات القيم السائدة والبنى الاقتصا-اجتماعية فكانت في ذاك الإطار قيم التعبيرية والرمزية، بما عرضته من آلية تفكيك وتركيب لم تستهدف الوضعية الأساس في الدراما بل عمدت إلى عرض تأجيل حل الصراع الذي عادة هنا ما يبدأ بالكارثة وما تُنذر به من خطر.. لكن مسرحيتنا العصرانية كما أشرنا للتو تقف عند ذلك لتجعل من الكارثة بعبعا يُنذر بالانهيار بحال التقدم باتجاه التغيير وهي تستند بهذا لمبدأ الثبات ومنع التغيير؛ وما تسمح به لا يتجاوز الإصلاح فكريا فلسفيا بما يؤجل نقطة التحول والنهاية بقصدٍ فلسفيٍّ وسبقِ إصرارٍ في التبني…
وفي الدراما العصرانية نرى أنّ عناصر تكوين الحدث الدرامي تتبدى بوظائفها، بما يوحي بأنَّ الوضع الأولي قد تحطم بمجرد الإقدام على إصلاحه الجزئي المحدود؛ بمعنى أنْ يحافظ على الثبات والاستقرار في النظام القائم. هنا نرصد أن حيوية حركة الفعل الدرامي لا تتطابق وتوجهات تنظيمه الداخلي (المستقر)، الأمر الذي يمنع تحطيم الوضعية الأساس كما تقتضي قوانين الدراما المقابلة لقوانين الحياة وانقلاباتها الدراماتيكية…
إنَّ هذا المنطق الفكري لجماليات مسرحية عصرانية، يؤشرُ عمقَ الصراع بين دولة بمنظومة الطائفية المافيوية وجمهور بفعل الغضب الثوري الساعي للانتصار لوجوده وأنسنة حياته؛ وبينهما يقف الحالمون بأوهام (إنسانية) المنحى والغاية.. ولكنهم عادة ما وقعوا ويقعون بين فكي رحى الصراع.. ودراميا يُنهي العصرانيون الأمور بحلول مثالية حالمة، تقع في الأوهام؛ فيما الحياة تستمر بمنهج العنف والطحن وعذاباته، كما يحدث في المنظومة العالمية الأكثر شمولا لآليات السوق ومنطقها ونهجها، الرأسمالية نظاماً عندما تنتهكه المافيوية ومنطق استبداد الاحتكار..
وكما الحياةُ تجترُّ وتكرِّرُ تفاصيلَ الحدث، بما يعيد إنتاج النظام ويكبح نهج التغيير، سنرصد في المسرحية مسارَ الحدثِ وكيف يتم إنهاء ذاك المسار.. إنَّ منطق الحدث المرسوم مسرحيا يقدم عرضا لحركة (موجهة) على طريقة (الغضب المسيطر عليه) الذي أطلقته مرجعية دينية مؤخراً، بما يكشف باستمرار عن الاستقرار والسكونية والتهادي تمكيناً لمبدأ الثبات في منظومة القيم المرضية المشوهة وتمكيناً للنظام الذي أوجدها، مثلما يكشف أيضا، عن سايكولوجيا انتُهِكت أو تلوثت بتلك المنظومة السلوكية.. وهي تتصارع بين الانتفاض لاستعادة إنسانيتِها وكرامتها وبين الامتناع عن التقدم بتبرير لماذا أتقدم أنا واحتمال أن يسبقني الآخر في التراجع والمناورة فأذهب أضحية وقربانا بلا ثمن…!؟
وفي مسرحية الدكتاتور يكون (ديني) سكرتير حزب ثوري أول من يتنكر لمنطق التغيير ويبيع الحزب ويطرد أقرب رفاقه فيعتقله، كما في نص المسرحية، ليمارس هو نهج الدكتاتور، بعد أن صار عضواً برلمانياً.. وتلك الشخصية وسلوكها تريد المسرحية عبر تقديمها بتلك الصورة، اتريد القول: إنها النموذج للشخصية الجمعية ومتغيراتها راهنيا بهذه المرحلة؛ والقصد توكيد ثبات الوضعية العامة؛ بتثبيت الوضعية الأساس للمسرحية، مع إبراز المتغير فقط داخليا نفسيا لا موضوعيا؛ بينما يُفترض أن يستعيد القيم ويتحرر بخلاف هذا التصوير والتجسيد المسرحي. وهذا يحيّد مجمل الشخصيات في المسرحية، مثلما يتم في الواقع تجميد أدوار أعضاء المؤسسات والأحزاب ويُلحَقون بالزعامات وبمسرحية الدكتاتور يُلحقون بشخصية ديني الذي تحول من ثوري إلى دكتاتور…
وإذا كانت الدراما العصرانية بهذا التوصيف والتشخيص ستقدم رؤية (محافظة) تتبنى ثبات الكون الحياة؛ بقصد توكيد استحالة إزالة النظام! فإنَّ المسرحية بعامة، ستميل للتفكيك لا الوحدة وللتمزيق والتشظية لا التكامل حيث تسود عزلة الفرد ومنعه عن التفكير بوحدته وجوداً ومصيراً مع الآخر، أي تحييد أية فرصة للعمل الجمعي الإيجابي باتجاه التغيير، وأذكّر هنا بالمسرح الطليعي وبنية مسرحيته..
غير أننا ينبغي أن نعترف بأنَّ عصرَنا قدم نموذجاً (مسرحياً أكبر من المسرحية) بعد أن مر عبر قرن من الزمن، القرن العشرين بكليته، بمسيرة تكسير الحدود الفاصلة بين الأصناف والأنواع الجمالية، المسرحية منها بقدر تعلق الأمر بمعالجتنا..
ومثلما مرّ بمواضع سابقة وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نجد الأعمال المسرحية في عالمنا المعاصر، تقدم جديدها في (المسرحية الأكبر من مسرحية)، مثلما ظهر من قبل، صنف (البوئيم) الدرامي بكل ما كان يحمله من تنوع ومد جسور مع الأصناف الأخرى واحتواء تفاصيلها بنيوياً فيه. طبعاً، مع إبراز ذلك وتجسيده في كثافة الاشتغال من جهة وفي صيغة شعرية اللغتين المسموعة والبصرية من جهة أخرى.. ومثل هذا يجده الفاحص المدقق في الاتجاه المسرحي الرمزي، مثلا، حيث يقع هذا الاتجاه بنيوياً بنطاق (البوئيم)؛ بكل تفاصيل السمات وحركة الحدث الدرامي وطابعه وكثرة أو تشعب التفاصيل، بما يحكي عن هوية الواقع الذي يعيشه القارئ اليوم. هنا يسمح لنا التشخيص الإشارة إلى الطابع التركيبي لما وصلنا إليه بالإشارة غلى صنف البوئيم
أو المسرحية الأكبر من مسرحية وانفتاح الصنف الدرامي بالحقيقة يمتلك بعده الإيجابي بمحاولته امتلاك قدرة تصوير الوضعية التاريخية.. وعراقيا سيكون الكاتب المسرحي باحثا فكريا فلسفيا عن اقتراح معالجات بقوانين إبداعية تتقدم خطوة وإن جاءت (مركبة).. أشير بالخصوص إلى تجاريب بمسرحنا؛ من قبيل تجاريب يوسف العاني، قاسم محمد مع التنبيه على محاولاتهما كسر السكونية من خارج الأداء المسرحي أي بالإيحاء وليس بتفاصيل البنية. فمثلا مسرحية المفتاح بنيتها دائرية مغلقة لكن مضمون رسالتها مفتوح تماما والتناقض مقصود له اسبابه.. وعوني كرومي، صلاح القصب، يوسف الصائغ، باحتوائهم آليات اشتغال في العرض، جديدة شكلا لكنها في الغالب خشيت التصريح بانفتاح خط التطور في الحياة، أقصد الانفتاح على المتغير المحظور في عالمنا.. لكن صباح الأنباري- فاروق صبري يجتهدان (اليوم) على تقديم نموذج (المسرحية الأكبر من مسرحية) ولو بتسمية مختلفة، مثلما تختلف تسمية البوئيم.. يقدمان ذلك لا بثبات الواقع بمحصلة حركة الحدث ونتيجته أو نهايته وإنما باحتمالية واضحة للتغيير ولدحر القوة الهمجية التي تمارس وحشية التعذيب…
إن ذلك يستحق وقفات أوسع وتحليل مباشر كيما نتبين المشهد؛ بين التململ والتقيد في المنجز المسرحي الجمالي.. وطبعا هذه المراوحة لا تعود لقرار المبدع حصراً ودرجة إدراكه ووعيه وتعبيره عنهما، بقدر ما تعود ايضا إلى دائرة ربط الجمهور بالمسرح.. ومن ثم فإن القرار يرسمه فهم العناصر الثلاثة في الصراع بين جبهتي المستغِل والمستغَل وما بينهما ممن يمارس الحياد السلبي الذي يخدم ثبات الوضع لمصلحة المستغِل [بكسر الغين] أو نظام الطائفية المافيوي القائم عراقيا….
وبالعودة إلى قراءة الحدث الدرامي في مسرحية أكبر من مسرحية وهي صنف يبحث عن اسم ربما تسمية بوئيم أصغر من التعبير عنه بشكل حاسم ونهائي أو أنها ليست مناسبة على أقل تقدير عربياً؛ نشير إلى ازدواجية خطة الحدث بين الخطة الشخصية والخطة العامة إذ طالما استثمر المبدع المسرحي العراقي الربط بين الشخصي والعام وحدد كل منهما بالآخر ما ساعد على ولادة الصنف المسرحي الجديد وطابعه من جهة وما جعل هذا الصنف مرآةً لواقع تكتنفه الصراعات التي يُراد لها الاستمرار بإعادة إنتاج النظام كما جرى فعليا في السنوات العجاف الأخيرة بتشويه وعي الجمهور واغتيال انتفاضاته بلعبة التضليل التي تنعكس مسرحيا بتلك الشخصيات التي عبَّر الكاتب العراقي عنها، بتصويره خيانتها القضية وطعن أخلص الرفاق لحساب التحولات النفسية أو بصورة أدق لحساب انكسارها وهزيمتها بخلفية الوهم والحلم وأثر الأضاليل والأباطيل.. والادعاء والتبرير للانحراف، بأنها تحتاط لمجريات واقع، بالأصل، لا يقبل بالمداهنة ولا مد الجسور مع النقيض إلا عندما يكون الحاكم قد فرض لعبته قسراً ومخادعة وانتصر لتلك اللعبة الجريمة…
إذن، فالمسرحية العصرانية البوئيم أو المسرحية الأكبر من مسرحية هي صنف حاول أن يهضم آلية اشتغال كسر الحدود بين الأصناف والأنواع من جهة وتجسيد فلسفة الثقافة الغالبة المتحكمة في عالمنا بعامة وبالعراق بصورة خاصة وقد تجسد في تلك المسرحية ما يقارب مبدا المداهنة والالتفاف على مبدأ تحطيم الوضعية الساس كما تفترضه الدراما عبر تاريخ وجودها والغاية الفكرية من ولادة جماليتها وتعبيرها..
وهكذا فعراقيا ستجد ذلك طوال مرحلة التقدم البنائي التعبيري للمسرحية في العراق بخاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين ومطلع الألفية الراهن، ستجد هذا النموذج الذي أشرنا غليه مع محاولات لتمرير عنصر بنيوي هو العنصر المضموني المجسد بالخطة الأيديولوجية للمسرحية بطريقة الإيحاء وحتى أحيانا بالتصريح بما يتعارض والشكل المسرحي مثلما مسرحية المفتاح ببنية دائرية مغلقة وخطة ايديولوجية متفتحة ومثلما في مسرحية الأباري – صبري ودراماهما التعاقبية في التصريح بفرص تكسير القيود الاستغلالية وتغيير العالم القبيح…
إنه الوضع التركيبي المعقد النظير لتعقيد الصراع القائم في عالمنا وألاعيبه المضللة المتخفية بما يحتاج لأعمق وعي في مجابهته وطبعا الحاجة لوعي نقدي جديد في قراءة جماليات مسرحنا وفرصه في التعبير الأنجع عن عالمنا وتعقيداته..
هل وصل هذا الإيجاز رسائله الجمالية والفكرية الفلسفية؟ متأكد من أن التفاعلات ستمنح فرصا مضافة للإجابة عما احتاج إلى مزيد ومضات وإضاءة بخاصة مع معاني التعقيد البنيوي في خطى التعبير المسرحي الجديد … فمرحبا بجميع التفاعلات
******************************************************
************************************
لحضور أنشطة منصة كلية الفنون الجميلة مباشرة يمكن الضغط هنا على هذا العنوان
https://us02web.zoom.us/j/82783228815?pwd=Nnp5bWtHaGxEdUpYV0dKa0QvU2JPZz09
وعند الحاجة والضرورة يمكن توظيف اسم التعريف للدخول وكلمة السر للدخول
Meeting ID: 827 8322 8815 Passcode: 595959