أموال قطر تزعزع استقرار أوروبا

567

أموال قطر تزعزع استقرار أوروبا

حميد الكفائي

تداولت كتب ووسائل إعلام غربية في عدة دول منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وكندا، مسألة تمويل قطر لجمعيات (خيرية) في البلدان الغربية مرتبطة بتنظيم الأخوان المسلمين، بمبالغ تقدر بعشرات الملايين من الدولارات خلال السنوات القليلة الماضية، واحتمال تسرُّب هذه الاموال إلى منظمات إرهابية.

وعبر الكُتَّاب والصحفيون الذين بحثوا الموضوع عن قلقهم من هذا التمويل الذي تقدمه منظمة “قطر الخيرية” المرتبطة بالحكومة، واحتمال استخدام هذه الأموال في تمويل نشاطات إرهابية مزعزِعة للاستقرار، سواء في البلدان الغربية أو خارجها.

وقد نشرت صحيفة “فوكس بلات” النمساوية، التي تعبر عن رأي حزب الشعب النمساوي، تحقيقا تضمن وثائق ومستندات وأرقاما عن تمويل قطر لتنظيم الاخوان المسلمين في النمسا وفي دول أوروبية أخرى، ووصف التقرير قطر بأنها “أمارة يحكمها نظام سياسي ينتمي إلى العصور الوسطى” وقال إن قطر تسعى إلى زعزعة الاستقرار في أوروبا! وقالت الصحيفة إن لديها معلومات عن تحويلات مالية من منظمة “قطر الخيرية” بعشرات الملايين من الدولارات لتمويل 113 مركزا دينيا يرتبط معظمها بجماعة الاخوان المسلمين.

ووفقا لكتاب (أوراق قطرية) الذي ألفه صحفيان فرنسيان، هما كرستيان تشيسنو وجورجي مالبرونو، اللذين حصلا على معلومات مفصلة من مصادر موثوقة، عن التمويل القطري لمنظمات (خيرية) مرتبطة بتنظيم الاخوان المسلمين، فإن علاقة قطر بتنظيم الأخوان قديمة وهي تستضيف عددا من قادته البارزين على أرضها، لكنها تسيطر على نشاطاتهم داخل حدودها، بينما تطلق الحرية لأعضاء التنظيم المرتبطين بها المنتشرين في بلدان أخرى، بل هي تموِّل نشاطات الجمعيات (الخيرية) المتربطة بالتنظيم في بلدان العالم المختلفة، وتروِّج لأفكارِهم عبر قناة الجزيرة. ومن الجدير بالذكر أن الصحفيين الفرنسيين، تشيسنو ومالبرونو، معروفان باطلاعهما الواسع على الأوضاع في العالم العربي وكانا قد تعرضا للخطف في العراق عام 2004 أثناء تغطيتهما أحداث العراق، وبقيا محتجزيْن لدى جماعات إرهابية لخمسة أشهر.

وقد تداولت وسائل الإعلام الألمانية تقارير تشير إلى أن قطر استخدمت مواردها المالية الهائلة وجمعياتها الخيرية لتمويل واختراق المساجد، ودعم شبكات جماعة الأخوان المسلمين وشراء النفوذ في ألمانيا، وأنها موَّلت حوالي 140 مسجدا ومركزا إسلاميا في ألمانيا، بعضها مرتبط بجماعة الأخوان المسلمين أو متحالف معها.

ويقول دانيال ريكينباتشر، وهو باحث في جامعة “كونكورديا” الكندية، ويقوم بدراسة تأريخ نشاطات جماعة الأخوان المسلمين ويكتب حاليا كتابا عن نشاطاتها في سويسرا، إن هناك ركيزتين للسياسة الخارجية القطرية، الأولى هي الأيديولوجية الداعمة للإسلام السياسي، والثانية هي السعي الحثيث لكسب النفوذ الإقليمي، ولهذا السبب دخلت قطر في علاقة عضوية مع تنظيم الأخوان المسلمين. وربما لهذا السبب أيضا أصبحت معزولة بين دول الخليج العربي.

وحسب المدير التنفيذي لمنظمة قطر الخيرية، صلاح حمادي، فإنه بحلول عام 2016، أفتتحت المنظمة 138 مركزا إسلاميا في أوروبا وكندا والولايات المتحدة “للتعريف بالحضارة الإسلامية”! لكن الهدف الحقيقي لهذه النشاطات، حسب خبراء ومتابعين، هو تمويل نشاطات تنظيم الأخوان المسلمين المنتشرة في العالم وتحقيق أهدافه البعيدة الأمد. وحسب تقارير غربية، فإن نشاطات الأخوان توسعت بفضل الأموال الأجنبية التي تتدفق عليهم من قطر بالدرجة الأولى، إذ بلغ حجم الانفاق القطري 72 يورو (85 مليون دولار) على 113 مشروعا (خيريا) في أوروبا حتى عام 2014.

وتسعى نشاطات الأخوان، حسب تقارير غربية، إلى “استعادة الأقاليم المسلوبة كصقلية والأندلس ومناطق جنوبي فرنسا، والسيطرة على أقاليم جديدة، بهدف تحقيق هدف بعيد الأمد، وهو تأسيس دولة إسلامية في أوروبا”! وكان الشيخ يوسف القرضاوي، أحد أهم قادة الأخوان، قد أعلن بأن أوروبا هي “دار الدعوة”! وهو صنف جديد يضاف إلى الصنفين المتعارف عليهما في الأدبيات الإسلامية، وهما (دار الإسلام) و(دار الحرب)!

وقد مولت منظمة “قطر الخيرية” بناء مسجد عملاق في مدينة بوايتييه الفرنسية سمته في فرنسا “مسجد بواتييه الكبير”، لكنها تسميه في الوثائق القطرية “مسجد بلاط الشهداء”، في إشارة إلى معركة “بلاط الشهداء” التي دارت بين العرب المسلمين والفرنسيين المسيحيين، بقيادة القائد العربي عبد الرحمن الغافقي الذي قتل فيها.

ووفقا لتصريحات رئيس منظمة “قطر الخيرية”، فإن هذا المسجد يعتبر “رمزا لفتح أوروبا بطرقٍ مختلفة، ونقطةَ البداية لنشر الإسلام”! الأمر الذي أثار جدلا واسعا بين الفرنسيين حول مقاصد قطر ومخططاتها الطويلة الأمد لمناطق جنوبي فرنسا.

الغريب في مساعي هذه المنظمة (الخيرية) أنها تفتتح المساجد والمراكز الإسلامية في المناطق التي خضعت إلى الحكم العربي في التأريخ القديم، وليس في المناطق التي يكثُر فيها المسلمون مثل ألمانيا وبريطانيا. الكثير من المراكز الإسلامية التي تمولها قطر وتديرها جماعة الأخوان المسلمين، المصنفة تنظيما إرهابيا في عدد من البلدان، بينها مصر وسوريا وروسيا والمملكة العربية السعودية والبحرين ودولة الأمارات العربية المتحدة، تنتشر في صقلية، مثلا، التي كانت يوما إمارة إسلامية.

لكن الذي يفضح النوايا القطرية هو الفديوات والمنشورات الترويجية التي تبثها المنظمة فهي تمتلئ بإشارات واضحة إلى التأريخ القديم، ما يوحي بأن هناك نوايا وخططا مبيتة واستراتيجيات معدة لـ(استعادة) هذه المناطق، ولو على الأمد البعيد و”بطرق مختلفة” كما قال رئيس منظمة “قطر الخيرية”! ما يعني أن قطر تعمل من أجل فصل تلك الأقاليم عن بلدانها الأصلية تحت ذرائع تأريخية ودينية.

لكن هذه الأفكار هي مجرد أوهام، فمثل هذا الأمر لن يحصل، لأن الأوروبيين لن يسمحوا به وهم يحرصون على أن تكون بلدانهم موحدة في ظل نظام ديمقراطي، وأن معنى الحرية لديهم لا يمتد إلى تمزيق بلدانهم أو زعزعة استقرارها، والتي يعتقد كثيرون بأن قطر تسعى إليها، وإلا ما معنى إخفاء اسم المسجد الحقيقي (بلاط الشهداء) في فرنسا، وإبقائه في الوثائق القطرية الرسمية؟ ولماذا يرتبط اسم مكان للعبادة في أوروبا باسم معركة دامية بين الفرنسيين والعرب حصلت قبل 1200 عام؟

يضاف إلى ذلك أن معظم المسلمين الذين لجأوا إلى البلدان الغربية لا يؤمنون بإقامة دولة مستقلة أو مناطق معزولة لهم في أوروبا، فهذا يناقض السبب الذي دعاهم إلى الهجرة. فهم انتقلوا إلى البلدان الغربية لأنهم يبتغون حياةً مختلفة عن تلك التي عاشوها في بلدانهم الأصلية، والتي اتسمت بشظف العيش وغياب الحرية.

ويوضح تشيسنو ومالبرونو في كتابهما حجم الإنفاق الذي تقدمه قطر في هذا السبيل، فقد موَّلت تشييد 47 مسجدا في إيطاليا وحدها، بينما أنفقت إضافة إلى ذلك مبلغ 22 مليون يورو على المنظمات (الخيرية) فيها حتى عام 2014. لكن الانفاق القطري في فرنسا أقل من إيطاليا، علما أن عدد المسلمين فيها أكثر. ويفسر مراقبون استهداف قطر وحلفائها الاخوان، إيطاليا خصوصا، وبلدان أوروبا الجنوبية عموما، في نشاطاتها (الخيرية)، بأنه يتعلق بتقديراتهم للمستقبل، ومنها مثلا، الاعتقاد بأن بلدان جنوب أوروبا لن تتمكن من حراسة حدودها الجنوبية لإعاقة قدوم اللاجئين من بلدان شمال أفريقيا العربية، الذين يتوقع أن تتزايد أعدادهم في المستقبل، وأن هؤلاء الوافدين، حسب نظرية الأخوان، سيكونون أكثر تأثرا بالدعاية القطرية الأخوانية واستقبالا لها.

ويقول ريكينباتشر إن عدد المسلمين في أسبانيا قليل، لكنها هي الأخرى تشترك مع إيطاليا في كونها معرضة للهجرة الكثيفة من البلاد العربية والإسلامية، وأن أجزاءً منها خضعت لسيطرة المسلمين عبر التأريخ، ويرى أن هذا مؤشر على أن لدى قطر “استراتيجية جنوبية”، فهي تركز على بلدان البحر المتوسط التي تتوقع بأن طبيعتها الديموغرافية قابلة للتغيير خلال العقود المقبلة. كما يفسر إنفاق قطر مبالغ أقل في كل من ألمانيا وبريطانيا، اللتين تضمّان عددا أكبر من المسلمين، بكون غالبية المسلمين في هذين البلدين لا ينحدرون من بلدان شمال افريقيا، التي يعتقد القطريون وحلفاؤهم في تنظيم الأخوان بأن المهاجرين منها أكثر استقبالا للأفكار الدينية الأخوانية.

لكن تشيسنو ومالبرونو يتوقعان انخراطا أكبر لقطر في المستقبل في شؤون المسلمين في ألمانيا، بل إنهما لاحظا ارتفاعا في الانفاق المالي القطري في ألمانيا ابتداءً من عام 2017، ويعتقدان بأن السبب وراء ذلك هو أن قطر متحالفة مع نظام أردوغان في تركيا، وربما يوجد هناك تنسيق بينهما في هذا المجال، كي يبقى الأتراك في ألمانيا موالين لنظام أردوغان. كما يرى الكاتبان أن العديد من المنظمات والأشخاص المرتبطين بتنظيم الأخوان الذي تموله قطر، متهمون بتقديم مساعدات لمنظمات إرهابية. وقد اتهمت الولايات المتحدة بعض أعضاء تنظيم الأخوان بأنهم ينتمون إلى منظمة (إئتلاف الخير)، التي تقدم مساعدات مالية إلى منظمات مصنفة ضمن قائمة الإرهاب الامريكية، وما تزال تحظى بدعم قطري وتركي.

واستنادا إلى تقارير أمريكية نشرتها جريدة نيويورك تايمز، فإن إدارة الرئيس ترامب تعتزم إدراج جماعة الأخوان المسلمين ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وأنها سوف تفرض عقوبات عليها وعلى كل من يتعامل معها، وإن المقترح يُدرس الآن لمعرفة احتمالاته، الإيجابية والسلبية.

ويختتم الباحثان الفرنسيان دراستهما بالاستنتاج بأنه حتى الأهداف الرسمية لمنظمة “قطر الخيرية” مثل “حماية المسلمين من النفوذ الغربي ونشر الإسلام المتطرف الموافق لرؤى تنظيم الأخوان بين المسلمين في أوروبا”، تتناقض كليا مع أهداف البلدان الاوربية التي تسعى لأن يندمج المسلمون في المجتمعات التي يعيشون فيها. كما أن الخطاب الذي يحرّض على انفصال بعض الأقاليم الأوروبية في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا، الذي تمارسه الدعاية القطرية، يضعف التماسك الاجتماعي في الدول الأوروبية. ويلقي الكاتبان الفرنسيان باللائمة على البلدان الأوروبية كونها تباطأت في التعامل مع هذه النشاطات القطرية الساعية إلى نشر الفكر الديني المتطرف وإضعاف تماسك البلدان الأوروبية.

ونتيجة لهذه النشاطات غير المبررة دينيا أو اجتماعيا أو حتى قانونيا، تتنامى المطالبات الشعبية للحد من النشاطات الإسلامية في البلدان الأوروبية، ونتيجة لهذه المطالبات فقد منعت النمسا التمويل الأجنبي للمؤسسات الدينية، ويرى مراقبون أن مثل هذه القوانين المقيِّدة لحرية المسلمين سوف تتنامى في المستقبل.

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو ما الذي تبتغيه قطر من هذه المساعي وهذا الانفاق وهذا الترويج لفكر متطرف بين المسلمين في البلدان الأوروبية؟ هل يعتقد حكام قطر بأن بإمكانهم أن يغيروا الخريطة العالمية بالأموال؟ وهل البلدان الغربية فقيرة بحيث أنها بحاجة إلى هذه (الاستثمارات) القطرية؟ تدّعي قطر بأنها تنتمي إلى العالم المتمدن، وقد سعت لاستضافة مباريات كأس العالم في عام 2022، كما استثمرت مليارات الدولارات في نشاطات تجارية مشروعة، كشرائها متجر (هارولدز) الشهير في لندن، لكن نشاطاتها (الخيرية) سوف تعود عليها بالضرر، خصوصا وأن الدول الغربية عموما، والأوروبية خصوصا، انتبهت لهذه النشاطات وحجم الانفاق المالي القطري غير المبرر، والخطاب التحريضي ومحاولة عزل المسلمين عن الدول التي اختاروا العيش فيها كمواطنين مسالمين منخرطين في الاقتصاد العلني، ومساهمين في رفاه وازدهار هذه البلدان، وملتزمين بالقوانين المرعية فيها، ومنسجمين مع المجتمع الذي يعشيون فيه.

المصدر