في فلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام

في فلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام

عبد الحسين شعبان*
باحث ومفكر عربي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* – أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.

“إنني أترك بعد موتي أمّاً وزوجة وطفلة… واحدة منهن بغير ابن، والثانية
بلا زوج، والثالثة دون أب… ثلاث يتيمات، ثلاث أرامل باسم القانون،
إني أرضى أن أعاقب عقاباً عادلاً، لكن هؤلاء البريئات ماذا جنين؟…”
فيكتور هوغو
من مرافعته في مناهضة عقوبة الإعدام
توطئة
أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والاعتبارات الدينية والعقائدية، كما أعرف أن دعاة المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام قليلون في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ولكن هذه القلّة كبيرة جداً في قيمها، لاسيّما تمييزها بين العدالة والانتقام، فهل القبول بالقتل يكون “عقوبة عادلة”؟ الأمر الذي يتناقض مع مبدأ ” حق الحياة” المحور الأساسي لمنظومة حقوق الإنسان الكونية، وهل قتل القاتل يحقق العدالة؟ وهل “جريمة” القتل القانوني مقابل جريمة القتل اللّا قانوني يوصل إلى العدالة، وحسب وليد وصليبي المفكر اللّاعنفي ومؤسس جامعة اللّاعنف “جريمتان لا تصنعان عدالة”، وعلى غرار ذلك سبق لي أن قلت “رذيلتان لا تنجبان فضيلة”، و”حربان لا تولدان سلاماً” و” عنفان لا يحققان أمناً” و”انتهاكان لا يوفّران كرامة”، وعلينا البحث عن أسباب الجرائم والمسؤولين عن وقوعها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وقانونياً، ومن خلال الثقافة السائدة بأبعادها الفكرية والدينية والطائفية، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة.
إن إنزال عقوبة الإعدام لن يعيد الحياة للمقتول ولا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية ، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.
وإذا كان حكم الإعدام خطيراً وليس من السهولة النطق به بشكل عام، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فمن سيتمكّن من تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه، خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً معرّض للخطأ؟ وهكذا يمكن للأبرياء أن يكونوا ضحية هذه الأخطاء.
ولهذا السبب فإن قرار إنهاء حياة إنسان سيكون قراراً بمنتهى الخطورة، حتى وإن تذرّع البعض به لأسباب دينية أو عقائدية، الأمر الذي يحتاج إلى حوار مجتمعي قانوني وحقوقي وثقافي وفكري وتربوي، حول مدى الفائدة من استمرار حكم الإعدام، وجدوى اللجوء إليه.
وإذا كان “الله” قد منح حق الحياة، فكيف لإنسان أن يسلبها؟ وحسب بعض المعطيات فإن إلغاء العقوبة أدى إلى تخفيف الجرائم، مثلما حصل في فرنسا وكندا وإيطاليا، فما الفرق بين أن تقتل باسم القانون وباسم المجتمع أو بين أن يقتل القاتل تحت تأثير عوامل مختلفة، ولعلّ هذا واحد من أسباب انحيازنا لإلغاء عقوبة الإعدام باعتبارها مطلباً حقوقياً واجتماعياً ببعد إنساني .
في تعريف الإعدام
“الإعدام” كتعريف قانوني هو إنهاء حياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولكن ألا يتضمن مثل هذا الحكم القضائي جانباً من الانتقام وليس العدالة؟ في حين يفترض فيه أن يكون حكماً للعدل وليس للثأر. وسوف تكون عملية القتل لا منعاً للجريمة ولا ردعاً بقدر ما ستؤدي إلى القتل. وقد كانت الأنظمة القضائية في العهود السابقة والعصور القديمة تبالغ في أحكام الإعدام إلّا أنها بدأت تخفّف منها حتى لجأت الدول مؤخّرا إلى إلغائها لافتقادها للجانب الإنساني. ولا يختلف الأمر لدولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودولة عالمثالثية مثل الباكستان، فكلاهما يطبّقان عقوبة الإعدام (الأولى في 35 ولاية) والثانية وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام ، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على “رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي”.
الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم ، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، ومن الدول العربية التي تندرج ضمن القائمة الأخيرة هو لبنان، حيث اعتمد نظام الموراتوريوم (الأمر بتأجيل الوفاء- تأجيل أو تعليق أي نشاط أو قانون)، حيث أوقف عملياً تنفيذ العقوبة ، على الرغم من بقائها في 20 مادة من قانون العقوبات و19 مادة من قانون العقوبات العسكري و9 مواد من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما ذهب إلى ذلك نقيب المحامين السابق جورج جريج في الندوة التي نظمتها ” الهيئة الوطنية للحقوق المدنية” في ” بيت المحامي” (بيروت) من أجل دعم إلغاء عقوبة الإعدام في لبنان، في 27 يناير (كانون الثاني) 2014.
وكان قد ورد في تقرير دولي أن نحو 174 دولة لم تقدم على عقوبة الإعدام في العام 2012، لكن ما هو مثير للقلق أن دولاً كبرى مثل الصين والولايات المتحدة والهند وإندونيسيا ما زالت تطبق عقوبة الإعدام، كما أن العديد من البلدان العربية ما تزال تنفذ عقوبة الإعدام على نحو واسع.
فهل الموت: أي الإعدام الذي يساوي القتل سيكون عاملاً رادعاً للجريمة بالقصاص من الجاني وردعاً للغير؟ وهل هو العلاج الفعّال أم ثمة علاجات أكثر نجاعة وإنسانية؟ وكان وليد صليبي قد قدّم منذ 24/1/2004 مشروع قانون إلى مجلس النواب لإلغاء عقوبة الإعدام، استند فيه إلى “الشرعة الدولية لحقوق الإنسان” و”الدستور اللبناني”، إضافة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2857 لعام 1977 ورد فيه الهدف من هذا القرار هو ” إلغاء عقوبة الإعدام إلغاء كاملاً في جميع البلدان…”.
وبالطبع فإن مقاصد هذا الهدف هي منع الجريمة والحيلولة دون استمرارها وليس إلغاء المجرم ، وأسباب الجريمة تتمثّل في الفقر والجهل والأمية، فضلاً عن جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية والحرمان والغبن وغيرها مثل: الحروب والنزاعات وأيديولوجيات الكراهية، وخصوصاً الطائفية والدينية والعنصرية.
وبهذا المعنى لا تقع على الفرد المرتكب وحده مسؤولية الجريمة،لأن فيها جوانب مجتمعية بحكم الثقافة والتربية السائدتين ، الأمر الذي يعتبر عاملاً مخففاً لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار في تقرير الحكم بحق المرتكب وهو موجود في كل الجرائم، وقد يذهب ذلك إلى تحديد مسؤولية المجتمع في تعويض أهالي الضحايا وإعادة تأهيل المرتكب وبالتالي وضع الخطط اللازمة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية التي تؤدي إلى تفقيس بيض الجرائم بحكم انتشار فايروسات الفقر والأمية والجهل ، ناهيك عن الأسباب الأخرى كالحروب والنزاعات والإرهاب.
ومما ورد في اقتراح صليبي ” أنه لا يجوز أن نشرّع الثأر في القانون، بل نعمل على إزالته من النفوس ومن تقاليد المجتمع” أي أن الدولة لا تثأر، بل تعمل على الحدّ من الثأر، الأمر الذي اقتضى استبدال العقوبة إلى عقوبة أدنى مثل حكم المؤبد.
سجلٌ عربي مثير
لكي نرى خطورة حكم الإعدام فعلينا متابعة سجل البلدان العربية، ففي عام 2016 أصدرت المحاكم في البلدان العربية 700 حكم إعدام. وتعتبر جيبوتي الدولة الوحيدة التي ألغت عقوبة الإعدام منذ العام 1995، ولم تنفّذ هذه الدولة منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1977، ولا مرّة واحدة عقوبة الإعدام ، وهو ما ذكره رئيس جيبوتي اسماعيل عمر جيلي في حواره مع كاتب السطور العام 2004، في حين أن هناك دولاً جمّدت التنفيذ وبعضها عاد إليه.
وذهبت دول المغرب العربي باستثناء ليبيا ( المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ) إلى التجميد الفعلي لعقوبة الإعدام، على الرغم من استمرار صدور أحكام بالإعدام، وكان لنشاطات المجتمع المدني وهيئات ومنظمات حقوق الإنسان الدور الكبير في ذلك.
وعلى الرغم من وجود أحكام قضائية في المحاكم المغربية فإن وزير العدل السابق محمد أوجار كان قد تعهّد بتقليص عدد الجنايات التي تصل عقوبتها إلى الإعدام من 31 جريمة إلى 11 في إطار المسطرة الجنائية المنشودة. وأوقفت المغرب العقوبة منذ العام (1993).
أما تونس فقد سبقت المغرب بعامين (1991)، وفي الجزائر كان آخر تنفيذ حكم الإعدام هو العام (1993) (إعدام أربعة من الجبهة الإسلامية للانقاذ لاتهامهم بتفجير مطار العاصمة الجزائر في العام 1992) وكان آخر تنفيذ لحكم الإعدام في موريتانيا هو العام (1987)، لكنه لم يلغ من القوانين النافذة.
وتعتبر ليبيا من الدول المغاربية والعربية الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام ، سواء في عهد الزعيم الليبي معمر القذافي، أو بعد انفلات العنف والنزاع الأهلي منذ العام 2011 ولحد الآن.
وكانت الأردن قد جمّدت عقوبة الإعدام لنحو عقد من الزمان 2006-2014 لكنها أعادت العقوبة في أواخر ديسمبر /كانون الأول 2014 بحق مدانين في جرائم قتل (عددهم 11)، وفي فبراير (شباط) 2015 نفذت حكم الإعدام بحق ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي وهما من تنظيم القاعدة (المتهمان بتفجير فنادق في عمان )، وذلك بعد إعدام داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة. وفي العام 2016 نفذ الأردن 16 حكماً بالإعدام حسب منظمة العفو الدولية. جدير بالذكر أن الملك حسين بن طلال الذي حكم الأردن من العام 1952 ولغاية 1999 لم ينفذ حكم إعدام واحد، وكانت البحرين قد جمّدت عقوبة الإعدام لنحو عقد كامل، لكنها عادت لتنفيذها العام 2006 .
ويعتبر العراق من أكثر البلدان العربية تنفيذاً لحكم الإعدام، ففي العام 1941 تم تنفيذ حكم الإعدام بالعقداء الأربعة الذين قاموا بانقلاب عسكري، وفي العام 1949 تم تنفيذ حكم الإعدام بخمسة من كبار الشيوعيين بينهم ” فهد – يوسف سلمان يوسف” الأمين العام للحزب ، وبعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 بدأ مسلسل الإعدام بحق أعمدة العهد الملكي، ثم حلفاء الأمس من القوميين والبعثيين، وتضخّم ملف الإعدام بعد انقلاب 8 فبراير (شباط) 1963 واستمرّ دون توقّف إلّا في فترة محدودة، ولكن أكثر الفترات اتساعاً وعسفاً كانت بعد انقلاب 17-30 يوليو(تموز) 1968، حيث حكمت “محكمة الثورة” وحدها نحو 1700 حكماً بالإعدام نفّذ الكثير منها، ناهيك عن الأحكام خارج القضاء، وقد تم إلغاء المحكمة في مطلع التسعينات.
وفي فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ومع انتشار العنف والإرهاب في العراق، عادت ماكنة الإعدام إلى العمل بوتيرة سريعة، سواءً بمحاكمة أركان النظام السابق، أم بعد الفوضى والانفلات الأمني وتصدّر الميليشيات، وزاد الأمر في فترة احتلال داعش للموصل وما بعدها (10 يونيو/حزيران 2014 إلى نهاية 2017) وهكذا ازداد صدور وتنفيذ أحكام الإعدام، فضلاً عن أن بعض أحكام الإعدام تم تنفيذها خارج القضاء في ظروف المواجهات والاحتقان الطائفي.
أما في سوريا فقد كان لظروف الحرب الأهلية التي تستمر منذ العام 2011 دوراً في توسيع عقوبات الإعدام، سواء باسم القانون أو خارج القضاء، وهناك تقارير عديدة توثق بعض الحالات حسب منظمة العفو الدولية، ناهيك عمّا قامت به الجماعات الإرهابية مثل داعش و”جبهة النصرة” ( جبهة تحرير الشام) وغيرها.
وشهدت مصر منذ الإطاحة بحكم الأخوان والرئيس محمد مرسي في العام 2013 أكبر نسبة قرارات بتنفيذ حكم الإعدام قياساً بالفترات التي سبقتها. وتعتبر المملكة العربية السعودية في مقدمة بلدان المنطقة في تنفيذ أحكام الإعدام ، ويتم تنفيذ عقوبة الإعدام كذلك في دول الخليج الأخرى وإن بدرجة محدودة، إضافة إلى اليمن، وخصوصاً بعد الحرب الأهلية منذ العام 2015.
وكانت أنظمة مثل السودان وباكستان وإيران لا تتورع من إنزال القصاص بخصومها أو أعدائها، باسم الشريعة الإسلامية وتحت عناوين مختلفة، حيث استمرت عقوبة الإعدام، وفي بعض الأحيان لا تراعى في تطبيق هذه العقوبة القاسية إزاء الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً وتتم معاملتهم كبالغين، وفي ذلك مخالفة لقواعد القانون الدولي الاتفاقي (التعاهدي) والعرفي، بل إن ذلك من القواعد الآمرة Jus Cogens في أوقات السلم والحرب على حد سواء، وهو ما تحظره اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 ، إضافة إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1976 والدول الأطراف فيه تزيد عن 160 دولة.
أما “إسرائيل” فقد قنّنت عقوبة الإعدام بموجب تشريعات صادرة في العام 1954 باستثناء الجرائم الخطيرة التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية، وكان آخر إعدام رسمي هو لأدولف إيخمان في العام 1962، الذي كان مسؤولاً في جهاز الـ SS المتهم بارتكاب مجازر ضد اليهود فيما سمّي بـ”المحرقة” ، وقد تم اختطافه من الأرجنتين في 11 مايو (أيار) العام 1960من جانب “جهاز الموساد الإسرائيلي” في عملية استخبارية طويلة استمرت لنحو 15 عاماً، حتى تم اكتشافه بعد هربه من ألمانيا في نهاية الحرب. وأثارت عملية الاختطاف جدلاً قانونياً وسياسياً لمخالفتها لقواعد القانون الدولي ، إذ لا بدّ للوصول إلى العدالة سلوك طريق شرعي وقانوني وعادل أيضاً، فثمة علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية.
وقد صادق البرلمان “الإسرائيلي” (الكنيسيت ) في مطلع العام 2018 على مشروع قانون يجيز تنفيذ عقوبة الإعدام بحق ما سمّي بـ” الإرهابيين” وصوت عليه 52 نائباً، مقابل 49 عارضوه من أصل 120 نائباً. وكان حزب “إسرائيل بيتنا” الذي يتزعمه وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان اليميني المتطرّف هو من تقدّم بمشروع القانون، وأحيل إلى لجنة حكومية لدراسته قبل أن يعاد للتصويت عليه بعد 3 قراءات ليصبح جزءًا من ” القوانين الأساسية”.
جدير بالذكر إن “إسرائيل” هي بلا دستور حتى الآن، لأن ذلك يتطلّب منها إقرار مبادئ المساواة وهي غائبة، لاسيّما وهي تمارس التمييز عن تخطيط وإصرار بحق عرب فلسطين، كما يفترض بها تحديد الحدود، وهي ما تزال تتوسع على حساب البلدان العربية في إطار مشروعها الاستيطاني الإجلائي الإحلالي “من النيل إلى الفرات” ، وقد حظي مشروع قانون تنفيذ عقوبة الإعدام بدعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وبغض النظر عن النصوص القانونية فإن “إسرائيل” تمارس أشكالاً مختلفة ومتنوّعة من الاغتيال والقتل العمد إزاء السكان الفلسطينيين الأبرياء العزل بسبب انتقامي وثأري، انطلاقاً من آيديولوجية وممارسة عنصرية، وأحياناً تقوم بذلك بزعم ” الحرب الوقائية” أو “الاستباقية”، سواء ضد شخصيات تعتبرها “خطرة”، أم بهدف إحداث الرعب في الوسط الفلسطيني والعربي، إذ غالباً ما يمتد إجرامها إلى دول عربية أخرى في لبنان وسوريا والعراق والأردن وتونس ، إضافة إلى فلسطين ، بل وإن ساحة حركتها الإرهابية هو العالم كلّه.
اختلاف ومحاولة للفهم
لا زال الصراع قائماً بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار محافظ يتشبث باسم الدين وتيار حقوقي في الغالب، وإن كان داخل التيار المدني من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً ، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها التحررية أو الاشتراكية طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.
وما تزال العقبات السياسية الثقافية والاجتماعية والدينية تحول دون إلغاء عقوبة الإعدام، الأمر الذي يحتاج إلى جهد مدني لنشر ثقافة اللّاعنف والذي بالنتيجة يؤدي إلى مناهضة الإعدام ، ولا بدّ من البدء من المدارس والجامعات وبالتعاون مع قطاعات المجتمع المدني والإعلام لتوسيع خيارات الناس وتلبية حاجاتهم، خصوصاً بالسير في طريق التنمية المستدامة بجميع جوانبها. والأمر يحتاج إلى مراجعة دقيقة للأنظمة والقوانين النافذة لوضعها بانسجام مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها البلدان العربية أو تشريع قوانين جديدة تتلاءم مع التطور الدولي في هذا المجال، خصوصاً وإن دساتير بعضها أعطى للمعاهدات والاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الدولي السمة العلوية.
وعلينا في الختام الاعتراف أن ثمة التباس غالباً ما يحصل فيثير تعارضاً شديداً وسوء فهم واتهام أحياناً حول المراد من مغزى وفلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ، وكأنه دفاع عن القاتل، لكن مثل هذا الفهم سطحي ، فالذين يرتكبون جرماً ينبغي إنزال العقاب بهم لأنهم يستحقونه، وهذا أمر مفروغ منه، لكن لا بدّ من أن يكون هذا العقاب إنسانياً، ولا ينبغي للدولة أن تشارك في عملية القتل، بقدر ما تبحث في الأسباب والوسائل التي دفعت بالمجرم لارتكاب جريمته، أي لا ينبغي معالجة الجريمة بجريمة أخرى، والقتل حتى وإن كان قانونياً لا يلغي الجريمة، بل يلغي القاتل فقط، والمطلوب إلغاء الجريمة.
الإعدام عنف، وهو وسيلة عنفية للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ، فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.
ولعل مثل هذه المسألة جديرة بأن تجعلنا نعيد التفكير بإنسانيتنا ولأجلها، إذْ لا يمكن للموت أن يكون قصاصاً للموت: أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة ، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية ، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.
قد تطول مسألة اتخاذ قرار بإلغاء عقوبة الإعدام، لكن الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، انطلاقاً من القيم الإنسانية، والضمير بهذا المعنى هو “القانون الأسمى” حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون الضمير يقظاً، وهذا يمكن أن يولد قناعة فردية وأخرى مجتمعية ، حتى لعوائل الضحايا الذين يمكن أن ينخرطوا ضد عقوبة الإعدام، علماً بأن الإيمان بالدين ينبغي أن يكون أخلاقياً ولعمل الخير لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو لمباركة القتل .
وأختم بنصوص من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948:
المادة 3- ” لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه”
المادة 5- ” لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.”
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ورد ذكره في معظم الدساتير العربية، فينبغي والحالة هذه أن يكون ملزماً لها. وكان البروتوكول الاختياري الثاني الذي صدر في العام 1989 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1991، قد نصّ على إلغاء عقوبة الإعدام، علماً بأن هذا البروتوكول هو ملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966 والداخل حيّز التنفيذ في العام 1976، ذلك لأن عقوبة الإعدام لا تعيد الضحية.
أما عن جوهر الدين فحسب الإسلام هو العفو والتسامح وما “الدين سوى الحب” وفقاً للإمام جعفر الصادق، وفي المسيحية: المحبة وعدم القتل. وكما يقول ابن عربي: ” أدين بدين الحب أنّى توجهت / ركائبه فالحب ديني وإيماني”.
ولذلك، فإن مبدأ “العين بالعين” يجعل البشرية بأسرها “عمياء” حسب غاندي ، وكما جاء في كلام كونفوشيوس ” نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر” .
*****
نشرت في مجلة تسامح التي يصدرها مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان ، العدد 68، فبراير (شباط) 2020. والأصل فيها محاضرة ألقيت في الناضور (المغرب) بدعوة من مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم ، بتاريخ 11-16/11/2019.
كما نُشرت في موقع مجلة “المستقبل العربي” تشرين الثاني/نوفمبر 2020.

المصدر