دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج20

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج20

أ.د. فرست مرعي

موقف النخبة الكٌردية من الزرادشتية
إن المثقفين الكرد المتأثرين بقوة بالثقافة الغربية، وعلى صلة مع بعض عملاء فرنسا المنتدبة، يطمحون بدورهم الى تحويل الكردي (رجلاً كان أم إمرأة) الى شبيه بالغربي المعتبرنموذجاً للانسان (المتمدن). وفضلاً عن ذلك أن المبادىء الولسنية (= نسب الى الرئيس الامريكي وودرو ولسون(1856-1924م) حول تقرير المصير قد وفرت الشرعية للمطالب السياسية للقومية الكردية، فقد وفر تبني بعض المستشرقين للخطاب القومي الكردي شرعية (علمية) للقومية الكردية، التي استمرت في التكون حتى الحرب العالمية الثانية. كما أسهم أوائل المختصين بالكردية من الفرنسيين في صياغة الخطاب الكردي وأمدوه بالأدوات الثقافية والمادية اللازمة…”. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص11 – 12. و[جوردي غورغاس باحث متخصص في التاريخ الحديث وعلم الاجتماع و محاضر في جامعة فريبورغ وجامعة نيوشاتل وعامل في مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية على ابحاث تختص بالأقليات في الشرق الأوسط].
وعلى ما يظهرفإن الباحث السويسري يقصد المستشرقين الفرنسيين من أمثال: روجيه ليسكوت(1914-1975م)، والكاثوليكي الدومنيكاني توما بوا (1900-1975م)، والجنرال بيير روندو( 1904- 2000م) كان لهم تأثير على البنية الذهنية للاخوين جلادت وكاميران بدرخان، فروجيه ليسكو ألف كتابا تحت عنوان: اليزيدية في سوريا وجبل سنجار. وتوماس بوا الف عدة كتب عن الكرد، منها: الكرد والحق، معرفة الاكراد – مع الاكراد، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والأديرة المسيحية في كردستان العراق. وبيير روندو مؤلف كتب عدة من أبرزها: الاكراد في سوريا، المطالب القومية الكردية (1943-1949)، وغيرها.
وفي الواقع فإننا غالباً ما نصادف ممارسات ومعتقدات في كردستان يصعب التوفيق بينها وبين الإسلام التقليدي، فالقوميون الكرد في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين كانوا مفتونين ومتباهين بتلك الانحرافات عن الإسلام (الدين العربي) مفسرين ذلك على أنها تمرد الروح الكردية على السيطرة العربية والتركية، على حد تعبير المستشرق الهولندي ( مارتن فان بروينسن)
ويستطرد بروينسن بالقول فخلال سنواتها الأولى كانت المجلة القومية الشهيرة (هاوار) التي صدرت في دمشق في ربيع عام 1932م واستمرت في صدورها إلى عام 1943م من قبل الاخوين جلادت أمين عالي بدرخان(1893-1952م)، وكاميران أمين عالي بدرخان (1896-1978م)، وعن علاقته بالفرنسيين يشير جوردي غورغاس بالقول: “لقد تحوّل مع أخيه كاميران لاتصالهما الدائم بالسلطات المنتدبة كمخبرين مميزين للفرنسيين”. ينظر: الحركة الكردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص155.
وفي السياق نفسه يُسَلط باحث غربي آخر الضوء على هذه النقطة بالقول:” … زد على ذلك أن القوميين الكُرد يجنحون الى الجدال بأن الكرد أُجبروا على اعتناق الإسلام، وأن دين الكرد ( الحقيقي) أو ( الأصلي) كان الديانة الهندو – إيرانية الثنوية، الزرادشتية. ويُزعَم أيضاً أن هذه الديانة ما زالت باقية لدى طوائف، مثل الأيزيديين والكاكائيين أو ( أهل الحق )، فتصور بذلك على أنها أكثر تعبيراً عن الهوية الكردية من الإسلام السني الذي تعتنقه غالبية الكرد”. ينظر: ميخائيل ليزنبرغ، الإسلام السياسي بين الكرد، في الإثنية والدولة الاكراد في العراق وإيران وتركيا، إشراف: فالح عبدالجبار وهشام داود، ترجمة: عبدالإله النعيمي، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد- بيروت، 2006م، ص331 – 332.
وبشأن الاهتمام الكبير الذي يبديه الباحثون الغربيون لهذه الطوائف الباطنية، يقول ما نصه:” كثيراً ما يبدي الباحثون الاجانب اهتماماً خاصاً بالطوائف الأشد تمييزاً وتشويقاً في كردستان، الامر الذي أسفر عن إيلاء قدر غير متناسب من الاهتمام بجماعات، مثل الأيزيدية و( أهل الحق) والعلويين، ناهيك من الطوائف المسيحية واليهودية التي تعيش ( أو كانت تعيش) في المنطقة. ولا يعني انتقاد مثل هذه الابحاث القيمة والتي كثيراً ما تكون مثيرة للاهتمام، بل مجرد الإشارة الى أن الكثير من معتقدات الكرد وممارساتهم، وهم في غالبيتهم مسلمون سنة تقليديون، ما زالت مضماراً غير مطروق نسبياً”. المرجع السابق، ص332.
ويحاول الباحث الغربي إيضاح بأن الكثير من هذه الجماعات الباطنية لها أصول إسلامية، ولكن القوميين الكرد يحاولون الزعم بأن لهم أصولاً ما قبل إسلامية (= زرادشتية… الخ : “… أُريد أن أتناول بإيجاز ما يُزعَم بأنه طوائف باطنية غير إسلامية أو ( ما قبل إسلامية) في كردستان. فحتى هذه الجماعات، لها في الحقيقة أُصول لا تُنكَر في التقاليد الإسلامية ( الشعبية)، ولا يُمكن أن تُفهم فهماً وافياً بمعزل عن هذه الأصول. وقد تكون للمزاعم القائلة بأصولها ما قبل الإسلامية أو طابعها الكردي المحض، استعمالات تخدم أغراضاً قومية، ولكنها مزاعم على قدر كبير من الشطح إن لم تكن مضلّلة بشكل صارخ”. المرجع السابق، ص334.
وكانت مجلة هاوار تبدي اهتماماً كبيراً بالزرادشتية على أنها واحدة من مصادرالهوية الثقافية الكردية، ولذلك كانت اليزيدية ذات الجذور الزرادشتية – التي تم اضطهادها لوقت طويل باعتبارهم -عبدة الشيطان- تُمّجد من قبل بعض القوميين واعتباره دين الكرد دون منازع، ويضيف باحث آخر دعماً لفكرة بروينسن، بالقول:”… لم يتراجع آل بدرخان عن إضعاف موقف الاسلام في القومية الكردية باكتشافهم ( الدين الحقيقي للكرد) في اليزيدية، لقد أقام آل بدرخان خطاً وصلةً مباشرة بين اليزيدية والزرادشتية”. ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، المرجع السابق، ص247.
وبخصوص اعتبار كاميران بدرخان اليزيدية هي تشويه للزرادشتية، فإنه يقول ما نصه:” إن الدين اليزيدي هو تشويه للديانة الزرادشتية، التي كانت ديانة جميع الكرد”. ولذلك كتب هو وشقيقه كاميران بدرخان عدة أبحاث ومقالات لدعم فكرتهم السابقة عن الزرادشتية، حيث يشير أحد الباحثين الى تلك الناحية بالقول:” وكتب آل بدرخان مقالات عديدة بالكردية والفرنسية للتعريف ببعض العناصر في الزرادشتية واليزيدية بزعم أنها كانت الديانة الاصلية للكرد. وكان المثقفون الكرد، بعملهم هذا يرمون الى أهداف عديدة “. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، المرجع السابق، ص247 – 248.
وفي السياق نفسه، فإن جمعية خويبون أضفت هي الاخرى طابعاً مثالياً على الديانة اليزيدية بوصفها الديانة الكردية الحقيقية، ولكنها مع ذلك لم تضم في صفوفها يزيديين معروفين. ينظر: مارتن فان بروينسن، الأكراد وبناء الأمة، ترجمة: فالح عبد الجبار، بغداد – بيروت، معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006م، ص29، الهامش(29).
ومهما يكن من أمر فإن الأهداف التي ترمي إليها النخبة الكردية هي دعم أسطورة التواصل بين الميديين والكرد، التي تستند في الاساس الى النظريات العديدة التي طرحها المستشرقون الاوروبيون حول اعتبار الكرد من الجنس الآري،.” ففي حين كانت المقالات بالكردية تصر على هذا التواصل لتأكيد انتساب الكرد الى عائلة الشعوب الهندو أوروبية، جاءت المقالات بالفرنسية لتشرح الانفراد الديني للكرد، وخاصةً غياب التعصب الذي يعود سببه الى بقايا الزرادشتية في حياتهم الدينية وفي عاداتهم”. المرجع السابق، ص247 – 248.
ويبدو أن هذه المقالات التي يشير إليها الباحثان الهولندي والسويسري (بروينسن وغورغاس) هي المقالات التي دبجها ( كاميران بدرخان) في مجلة هاوار في العدد 14 في سنة 1932م، باللغة الفرنسية تحت عنوان (ملاحظات حول الكتاب المقدس الاسود) الصفحة 289، ويقصد بها – المصحف الاسود – الكتاب المقدس لدى اليزيدية، وأعاد صياغتها باللغة الكردية بالابجدية اللاتينية في العدد 26 في سنة 1935م. تحت عنوان:(الشمس السوداء حول تقاليد بلاد الكرد) باللغة الفرنسية.
ويخلص كاميران بدرخان الى نتيجة مفادها أن الكرد أصبحوا من خلال الديانة اليزيدية الورثة المدافعين عن مبادىء الخير والشر، مع وجود الإله الواحد أيضاً، في إشارة الى الديانة الزرادشتية، ويعترف في الاخير بالقول:” ورغم أن الكرد هم اليوم من المسلمين فعليهم التصرف حسب التعاليم الزرادشتية”. ينظر مقالة كاميران بدرخان في مجلة هاوار، العدد 14 في 1932م.
وحاول الاشقاء من آل بدرخان(= ثريا، وجلادت، وكاميران أبناء أمين عالي بدرخان) الإدعاء بأن الزرادشتية ونسختها المتبدلة شكلياً، اليزيدية ( كانت هي ديانة جميع الكرد) قبل وصول الاسلام الى كردستان؛ وذلك لايجاد علاج لتشرذم المجتمع الكردي. وكانت أسطورة الايمان المشترك ضرورة لتأكيد وحدة الكرد في وقت كان الكرد مقسمين على معتقدات دينية ومذهبية مختلفة (= سنية، وشيعية، وعلوية، ويزيدية، وأهل الحق، والشبك، إلخ). ما يضعف إمكانية بناء حركة قومية متحررة من الميول الطاردة؛ كان المطلوب من الانتساب الى الزرادشتية، السماح لجميع الكرد أن يتمظهروا في ماضٍ أسطوريٍ كان الكرد فيه يشكلون جسماً واحداً، وأن يتجاوزوا خلافاتهم الحالية.
وكان من الممكن أن نرى في ذلك محاولة من آل بدرخان لإضفاء القداسة على اللغة الكردية، واحترامها باعتبارها قلباً للهوية الكردية التي ينبغي الدفاع عنها. ويستخدم اليزيديون في الواقع اللغة الكردية (= الكرمانجية الشمالية) في طقوسهم الدينية، وكتاب اليزيديين المقدس مكتوب أيضاً باللغة الكردية، فضلاً أن الكرد هم حسب الميثولوجيا اليزيدية من أحفاد آدم وحواء، وأن الله ذاته كان يتكلم الكردية:” وقد تحدث الله مع آدم ومع الملك طاووس بهذه اللغة الكردية الرائعة ولهذا السبب كتب الانجيل الاسود (= المصحف الاسود) بالكردية”. ينظر: كاميران بدرخان، نبذة حول الانجيل الاسود )باللغة الفرنسية)، مجلة هاوار، دمشق، العدد14، 1932م، ص290.
وفي عام 1933م نشر كاميران بدرخان في مجلة هاوار أربعة صلوات حقيقية غير منشورة قبل ذك للديانة اليزيدية، وفي عام1942م نشر السيد عثمان صبري(= أحد السياسين الكرد السوريين) في مجلة روناهي (= النور) بعض المعلومات الجديدة عن اليزيديين في جبل سنجار على لسان بعض شيوخهم المهاجرين الى سورية. توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والاديرة المسيحية في كردستان العراق، ترجمة: سعاد محمد خضر، السليمانية، بنكه ى زين، 2011م، ص20. ويظهر للباحث أن آل بدرخان يحاولون عن طريق ربط الكرد جميعاً بالزرادشتية أو اليزيدية تأكيد وحدة الكرد.

المصدر