خبرة التعايش الإسلامية.. تشاركوا شعائر الاستسقاء ونظّموا مظاهرات رفعوا فيها القرآن والإنجيل والتوراة

بدفاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نشر بعض وسائل إعلام بلاده الرسومَ المسيئةَ إلى رسول الإسلام محمد ﷺ واعتباره ذلك من مقتضيات الهُوِّيَّة العلمانية الفرنسية، رغم مشاعر الاستياء وموجات الاعتراض التي اجتاحت العالم الإسلامي وكان في طليعتها مسلمو فرنسا؛ يُصبح الأمرُ مجدَّدا حافزا للتأمل في قيم التعايش والتعدد داخل فضاء الثقافة الغربية ولكن في ضوء خبرتنا الحضارية وداخل مراكزها التاريخية، لنرى طبيعة القيم الحاكمة لأسس العيش المشترك بين مكوِّناتها المختلفة من مِلَل ونِحَل وطوائف؟ وكيف كانت تمضي العلاقات داخل المجال الإسلامي بين تلك المكونات؟

والحق أنه منذ “دستور المدينة” النبوي وحتى “النظام المِلِّي” العثماني؛ يرى المتأمل المُنْصِف أن احترام التعدد وإتاحة خيار التدبير الذاتي لمكونات الأمة كانا أهم القيم الكلية الهادية طوال تاريخ التجربة الإسلامية، فقد كانت الطوائف الدينية والمذهبية تدير شأنها الخاص بحرية كاملة داخل نظام سياسي رحب، يسمح حتى بحرية التقاضي وخصوصية التعليم والسلوك الديني لكل فئة تبعا لما تدين به، كما كان المجال العام الإسلامي يسمح بحضور المختلفين عنه دينيا في أشد الأحوال خصوصية مثل صلوات الاستسقاء التي هي ممارسة دينية خاصة وخالصة، ناهيك عن مناشط المجال السياسي العام كمظاهرات الاحتجاج المشتركة ضد الطغيان التي كانت تُشْهَر فيها الكتب المقدسة لكافة الطوائف!!

إننا لا نزعم أن المثالية النقية واكبت كل تفاصيل تاريخ التعايش دون كدر أو حيْف، فلا يقول بهذا قارئ منصف للتاريخ بما هو سيرة بشر من طباعهم التظالم؛ ولكن لحظة الاختلال في تطبيق القواعد -إن وقعت- كانت تُعتَبر خروجا مؤقتا ومعزولا ومدانا على مبادئ التعددية والرحابة الراسخة التي ظل الجميع يَحتكم إليها، كما أن أوجه المظالم كانت تشمل الجميع وتمارس من الجميع، وإن بنِسَب متفاوتة في الحالتين.

ففي مقابل القاعدة القرآنية التي سار عليها المسلمون طوال تاريخهم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}، وما تقضي به من إقرار كل أمة على ذوقها في المطعم، ثم جعْل ذلك الذوق الخاصّ عاملا مشتركا معزِّزا للتعايش بين المختلفين؛ لا يسعُ المرءَ إلا أن يندهش حينما يسمع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد ديرمانان وهو ينتقد تخصيص أماكن لبيع أطعمة “الحلال” في بلاده معتبرا إياها “منتجاتٍ للفصْل المجتمعي”، وكذلك التنديد الرسمي الفرنسي ببعض أنماط حياة المسلمين مثل حجاب المرأة، وهي الخصوصية المحصَّنة قانونًا لغير المسلمين في الفقه الإسلامي الذي يوفر لهم كل الضمانات لاحترام خصوصياتهم في مطاعمهم ومشاربهم وعباداتهم.

وفي هذا المقال؛ سنستعرض -انطلاقا من مواريث التجربة التاريخية الإسلامية- مناسبات ومواقف وحّدت فيها ‏أطرافَ “الجماعة الوطنية” أطيافاً وطوائفَ لحظاتُ الفرح والحزن، لنرى كيف تعايش الجميع أحيانا كثيرة متراحمين ومتلاحمين، فجمعتهم دروب الحياة من محاريب العلم إلى دواليب الدولة، وضمتهم مناسبات المجتمع في وليمة عرس أو جنازة ‏شخصية ذات شأن علمي أو مجتمعي، أو وحّد موقفَهم نشاطٌ سلمي أو حربي رفعاً لشكوى طغيان محلي أو دفعاً لبلوى عدوان أجنبي، حاملين ‏كتبهم المقدسة ورموزهم الدينية في وئام وسلام.. ودون نكير أو استغراب!!

سوابق مؤسِّسة
جاءت رسالة الإسلام -منذ يومها الأول- كونية الخطاب عالمية الدعوة، وسرعان ما أصبحت المدينة عاصمة لدولة الرسول ﷺ المتعددة الشعوب والعقائد، إذ الناسُ فيها كما جاء في ‘صحيح البخاري‘: “أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود”! ثم كان إعلان الرسول ﷺ -بوصفه “إمامَ الأمَّة والمنفرد بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى‘- ‘صحيفة المدينة‘، أي “دستور المدينة” الذي وضع أسس تعايش مشترك صارت بها ساكنةُ هذه المدينة/الدولة “أمّةً من دون الناس”، تبعاً لمبدأ المواطنة لا الديانة أو العِرق.

وقد وضع الرسول ﷺ أسس التعايش السمح بين مكونات “الوطن” الجديد، تمثُّلا للتوجيهات القرآنية عَقَديا ومجتمعيا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} و{لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ وطبق النبي ﷺ ذلك في سنته العملية؛ فكان يزور مرضى اليهود (صحيح البخاري)، ويقوم احتراما لجنائزهم ‏(صحيح البخاري)، ويعاملهم ماليا حتى إنه اقترض من تاجر يهودي‏ فتُوفي ﷺ ودرعه مرهونة لديه (صحيح البخاري).

بل إنه سمح لضيوفه المسيحيين بإقامة شعائرهم داخل المسجد النبوي؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘أحكام أهل الذمة‘- أنه “صحّ عن النبي ﷺ أنه أنزل وفد نصارى نجران (سنة 9هـ/631م وعددهم 14 رجلا) في مسجده ‏وحانت صلاتهم فصلوا فيه”، وأنه “يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين”. وأرشد ﷺ صحابته إلى كيفية الدعاء لـ”أهل الكتاب” مكافأة لمعروف يسدونه إليهم؛ فقد أسند الإمام الذهبي (ت 749هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إلى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: “إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك”.‏

وعلى خُطى هذا الهدْي النبوي الحنيف؛ سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان من منصفي المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الإسلامي، طوال الحقب التي تمتعت فيها الأمة بعافيتها الفكرية وأريحيتها الحضارية؛ فكان قادة الفتوح الإسلامية يعطون لأصحاب الأرض المفتوحة “الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا ينتقص شيء من ذلك ولا يساكنهم أحد من غير ملتهم”. وكان هناك تاريخيا “قاضي النصارى” و”قاضي قضاة اليهود” الذي يسمونه اصطلاحا “الناجد”.

ويحدثنا الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1373م) -في ‘البداية والنهاية‘- عن أن المسلمين والمسيحيين اشتركوا في دمشق مدة سبعة عقود “معْبداً” واحدا لتأدية صلواتهم، فكان نصفه كنيسة ونصفه الآخر مسجدا، و”كان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد…، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمْنةً إلى مسجدهم”. وهذا “المعبد” هو الذي صار فيما بعد مسجدا خالصا للمسلمين حين تراضى الفريقان على ذلك سنة 86هـ/705م، وعُرف تاريخيا وحتى الآن بـ”الجامع الأموي”.

ومع انتكاسة المد القيمي لدى المسلمين أواخر القرن الثاني؛ اختلّ كثير من موازين العدل والفضل، وشاع التظالم المجتمعي تحت وطأة الفتن السياسية والأزمات الاجتماعية وتمزق النسيج الداخلي. ثم عمّق ذلك كلَّه ما استجدّ مع مطلع القرن الرابع من عوامل أجنبية تمثلت في التهديدات الخارجية للعالم الإسلامي بمشارقه ومغاربه، جرّاء هجمات الروم البيزنطيين وحملات الصليبيين الفرنجة وحروب المسيحيين بالأندلس؛ وقد ورُبط أحيانا كثيرة بين تلك التهديدات وأبناء المكوّن غير المسلم داخل المنطقة الإسلامية التي تضررت منها.

تلمذة متبادلة
لعل من أوائل مظاهر التعايش الإيجابي بين المسلمين وغيرهم الأخذَ المتبادل للعلوم والمعارف الذي تواصل عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ ففي صدر الإسلام تلقّى كثير من المسلمين عن أحبار اليهودية والمسيحية ‏معارف مختلفة مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وحقائقه. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘تهذيب التهذيب‘- من أن الإمام المفسِّر مقاتل بن سليمان البلخي ‏‏(ت 150هـ/768م) كان “يأخذ عن اليهود والنصارى علم ‏القرآن الذي يوافق كتبهم”، ورغم ما قيل في مقاتل جَرحاً حديثيا فإن آراءه في التفسير لا يخلو ‏منها أيٌّ من كُتب التفسير المعتمَدة لدى علماء المسلمين!

كما كان ‏إمام المغازي محمد بن إسحق (ت 151هـ/769م) “يحمل عن اليهود والنصارى ‏ويسميهم في كتبه ‘أهل العلم ‏الأول‘”؛ وفقا للنديم (ت 384هـ/1047م) في ‘الفهرست‘.‏ ويفيدنا الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- بأنه لما أصدر الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م) سنة 235هـ/849م قراراته التمييزية بحق غير المسلمين كان منها أنه “نهى أن يتعلَّم أولادُهم في ‏‏‏كتاتيب المسلمين و[أمر] ألا يعلِّمَهم مسلم”. ويدل هذا على أن جميع أصحاب الديانات كانوا يشتركون في أماكن التعليم.‏

ويحدثنا ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن الطبيب المسيحي المرموق يحيى بن جزلة (ت 493هـ/1100م) “كان يقرأ على أبي علي ‏‏ابن الوليد ‏المعتزلي (ت 478هـ/1085م) ويلازمه‏”!‏ وكان أبو محمد الغَنَوي النَّصِيبي الشافعي (ت 660هـ/1262م) “‏منقطِعا في منزله [بدمشق]… يتردد عليه جماعة من ‏المسلمين واليهود والنصارى ‏والسامرة [فـ]ـيُقرئ الجميع”؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) في ‘النجوم الزاهرة‘.‏

ومثله ما حكاه السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘بُغية الوُعاة‘-عن شمس الدين محمد بن يوسف الجَزَري الشافعي القُوصي (ت ‏‏711هـ/1311م) من أن “انتصب للإقراء فقرأ عليه ‏المسلمون واليهود والنصارى، وولي خطابة الجامع الطولوني [بالقاهرة]، وقرأ عليه ‏التقي السبكي (ت 756هـ/1355م) وروى عنه”.‏

وجاء ضمن ترجمة عبد السيد بن إسحق الإسرائيلي (ت 715هـ/1315م) -في ‘الدرر الكامنة‘ لابن حجر- أنه كان “ديّان اليهود (= مرجعهم الديني)، وكان يحب المسلمين ‏‏ويحضر مجالس الحديث وسمّعه [محدّث الشام الحافظ] المزّي (ت 742هـ/1341م)، ثم هداه الله تعالى وأسلم”. ومع شهود “مجالس سماع الحديث”؛ كان بعض ‏المسيحيين واليهود يحضر “جلسات السماع الصوفية” بين المسلمين، ولذا حكى الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن “مقدَّم الطائفة الحريرية” الشيخ أبو الحسن ‏الحريري (ت 645هـ/1262م) ‏”نهى أصحابه عن غلق الباب وقت السّماع حتى عن اليهود والنصارى”.

أزمات جامعة
من الظواهر المتكررة في التاريخ الإسلامي ما كان يقع في مدنه الكبرى من مظاهرات احتجاجية على عسف السلطات وظلمها للناس أو انعدام الأمن والاستقرار، وكان من المعتاد أن تشارك فيها أحيانا كافة الطوائف الدينية في جبهة وطنية لمواجهة الظلم والطغيان. ومن أغرب تلك الوقائع الحادثة التي حصلت في دمشق وحملت فيها كل طائفة كتابها المقدس واشتركوا في الدعاء داخل الجامع الأموي!

فقد ذكر المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘اتّعاظ الحُنفا‘- أنه في سنة 363هـ/974م دخل أبو محمود إبراهيم بن جعفر البربري الكتامي -وهو قائد العسكر ‏المصري الفاطمي- دمشق وهي مضطربة الأمن، وعندما “تفاقم الأمر واشتد البلاء” سيّر أهلُها -بقيادة “مشايخ البلد”- مظاهرات تندد بالاضطراب وتطالب بتوفير الأمن، وفيها “فتح المسلمون المصاحف، والنصارى الإنجيل، ‏واليهود التوراة، واجتمعوا بالجامع وضجوا بالدعاء، وداروا المدينة ‏وهي منشورة على رؤوسهم”!!

وحين اشتدت وطأة الوزير البويهي أبي الفضل الشيرازي (ت بُعيد 362هـ/973م) “كثُـر الدعاء عليه في المساجد الجامعة وفي الكنائس والبِـيَع (= كُنُس اليهود)”. وعندما بالغ خليفة الفاطميين الحاكم بأمر الله (ت 411هـ/1021م) في ظلمه لرعيته بمصر سنة 395هـ/1006م “اجتمع [حلفاؤه] الكتاميّون واستغاثوا إليه، وكذلك سائر الكتّاب والعمال والجند والتجار… والنصارى واليهود، ‏وسألوه العفو عنهم”. ويضيف المقريزي أنه صدر العفو في “سجل كُتب [منه] نسخة للمسلمين، ونسخة للنصارى، ونسخة لليهود”!

وفي سنة 394هـ/1005م تدخّل مسؤول مسيحي كبير في الدولة الفاطمية لرفع الظلم عن أهل الشام المسلمين وغيرهم، واستغل في ذلك علاقته بـ”سِتّ الملك (ت 415هـ/1025م) أخت الحاكم [الخليفة الفاطمي] وله منها رعاية مؤكدة، فكتب إليها ‏يستصرخ بها ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله… من الظلم ‏والعسف والجور، مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها. فلما وصل الكتاب إليها.. دخلت على ‏الحاكم [لإزالة هذه المَظلمة فقبل شفاعتها]، وكان يشاورها في الأمور ويعمل برأيها”؛ طبقا لابن القلانسي التميمي (ت 555هـ/1160م) في ‘تاريخ دمشق‘.

ومن تجليات التلاحم بين أتباع الطوائف الدينية؛ ما أبدَوْه أحيانا من تضامن ومواساة في لحظات الحزن وأوقات الحرب، وصل إلى حد المشاركة في تشييع جنائز الأعيان، والقتال في الحروب وما تقتضيه ظروفها من إيواء وإغاثة.‏ ومن أقدم الشواهد على ذلك وأغربها ما جاء في ‘التاريخ الأوسط‘ للإمام البخاري (ت 256هـ/870م) و‘المصنَّف‘ للإمام المحدّث ابن أبي شيبة (ت 297هـ/910م) روايةً عن الإمام الشَّعبي (ت 106هـ/725م) أنه “ماتت أُمُّ الحارث بن [عبد الله بن] أبي ربيعة [المخزومي ت بعد 69هـ/690م] وهي نصرانيةٌ فشهدها أصحاب محمد ﷺ” ومشوا في جنازتها مشيِّعين لها؛ وأضاف غيرُهما أن اسمها “سبحاء الحبشية” وكانت وفاتها في مكة. وقد روى ابن أبي شيبة أيضا أن “ابن عمر (ت 73هـ/693م) سُئل عن الرجلِ المسلمِ أيتْبعُ (= يشيّعها) النصرانيةَ [حين] تموت؟ قال: يتبعها ويمشي أمامها”.

وفي المقابل؛ عندما توفي الإمام الزاهد منصور بن زاذان الواسطي سنة 128هـ/747م “خرج في جنازته اليهود والنصارى والمجوس يبكون عليه”. وأورد الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أنه سار في جنازة إمام الشام الأوزاعي “أممُ اليهود والنصارى والقبط”. ونقل أيضا بسنده عن “صاحب ستر” الإمام الفزاري (ت 186هـ/803م) -وهو “أحد أئمة المسلمين وأعلام الدين”- قولَه: “لما مات أبو إسحق الفزاري رأيتُ اليهود والنصارى يحثون التراب على رؤوسهم مما نالهم”.

وذكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أنه يوم وفاة الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) “وقع المأتم والنَّوْح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين واليهود والنصارى والمجوس”. وفي الغرب الإسلامي؛ نقل الإمام الذهبي عن المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوال (ت 578هـ/1182م) أن العالم الأندلسي الكبير عُبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي القرطبي (ت 298هـ/912م) “شوهد يوم موته البواكي عليه من كل ضرْب، حتى اليهود ‏والنصارى”!!

وورد عند ابن عساكر أيضا أن “شيخ بلاد فارس في ‏وقته” محمد بن خفيف الضبي الشيرازي الصوفي مات سنة 371هـ/982م “واجتمع في جنازته اليهود والنصارى والمجوس”. وقال الذهبي إنه لما توفي العالم الزاهد ابن أبي نصر الملقب “العفيف” (ت 420هـ/1030م) خرج الناس في تشييعه، فـ”كان بين يديْه جماعةٌ من أَصحاب الحديث يهلّلون ويُكبّرون ويُظهرون السُّنة، ‏وحضر جنازته جميع أهل البلد حتى اليهود والنصارى”.

معارك مشتركة
وفي ساحات الوغى؛ انخرط -في حالات عديدة- مسيحيون في جيوش تابعة لبعض سلاطين المسلمين فشاركوا معهم في حروب عادلة أو ظالمة. ومن النماذج الإيجابية لذلك ما يخبرنا به المؤرخ ابن العبري (ت 685هـ/1286م) في ‘تاريخ مختصر الدول‘؛ فيقول إنه حين واجه السلطان غياث الدين السلجوقي (ت 644هـ/1246م) حركة تمرد بابا التركماني (ت 638هـ/1240م) الذي ادعى النبوة سنة 638هـ/1240م وحشد 6000 فارس لنشر دعوته؛ أرسل السلطان غياث الدين لقتاله “جيشا فيه جماعة من ‏الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم، وكان الجند المسلمون لم يتجرؤوا عليهم وأحجموا عنهم لِمَا توهموا منهم [من القوة]؛ فأخّر ‏الفرنجُ المسلمين وتولّوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طُرًّا” بمن فيهم المتنبي بابا زعيم التمرد.

ولنقارن ذلك بما حدث بعده بخمسة أعوام سنة 642هـ/1244م حين تحالف ملوك دمشق وحمص والكرك الأيوبيون مع الصليبيين ضد أخيهم المسلم وابن عمهم سلطان مصر نجم الدين أيوب بن السلطان الكامل الأيوبي (ت 647هـ/1249م)، فساروا “تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلبان”! حسب تعبير الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘.

وقد أوجبت تعاليم الإسلام حماية المواطنين من غير السلمين “ومنْعَ مَن ‏يقصدهم بأذى من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أُسِر منهم”؛ كما يقول الإمام موفق الدين ابن قدامة الحنبلي (ت 620هـ/1223م) في كتابه ‘الكافي‘. بل إن القرآن الكريم جعل من مقاصد الجهاد الشرعية حماية دُور العبادة لجميع الأديان؛ فقال تعالى: “ولولا دفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لهُدمتْ صوامعُ وبـِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ”.

والغريب أنه في الممارسة العملية حدث أحيانا أن تُرك المسلمون المخالفون فكريا للسلطة المسلمة في أسْر الأعداء عقابا لهم، بينما وفرت الحماية لغيرهم ففُدي جميع من كان أسيرا من “أهل ذمة المسلمين”. فقد أورد الطبري -في تاريخه ضمن أحداث سنة 231هـ/846م- أنه وقع فيها فداء لأسرى المسلمين لدى الروم بالقسطنطينية، وأرسل الخليفة العباسي الواثق (ت 232هـ/847م) ضمن بعثة الفداء مَنْ يمتحن أسرى المسلمين بالقول بخَلْق القرآن “ومن لم يقلْ ذلك تُرِك في أيدي الروم”!!

ويحدثنا العماد الأصفهاني (ت 597هـ/1200م) -في ‘البستان الجامع‘- أنه لما استولى الفرنج الصليبيون -في سنة 541هـ/1246م- على مدينة الرُّها (= مدينة ‘أورْفا‘ بتركيا اليوم) وحصنا بالقرب منها، و”أخذوا من كان فيه من اليهود والنصارى والمسلمين…، فاجتمع [عليهم] عساكرُ المسلمين… فخلّصـ[ـوا] الأسرى جميعهم”. وكما أن المحتل الصليبي لم يفرق بين أصحاب الديانات في احتلاله وظلمه؛ فإن المسلمين لم يفرقوا بينهم في الحماية والفكاك من الأسر.

ومن المواقف العميقة الدلالة في هذا السياق؛ قصة الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في إطلاق أسرى اليهود والمسيحيين الذين أسرهم التتار في هجومهم على دمشق سنة 699هـ/1300م، فقد جاء في رسالته التي بعثها إلى ملك ‏قبرص المسيحي سرجون: “وقد عرف النصارى كلهم أني… خاطبت التتار في إطلاق الأسرى… فسمح [ملكُهم غازان (ت 703هـ/1303م)] بإطلاق المسلمين. وقال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يُطلقون. فقلت له: بل [تُطلق] جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله”.

حماية وإغاثة
ومن صور التضامن ذات الأثر الكبير ما كان يوفره غير المسلمين لإخوانهم المسلمين من إغاثة أو إيواء للهاربين من خطر على حياتهم مصدره سلطة محلية أو أجنبية؛ فحين فرّ الإمام الأندلسي طالوت بن عبد الجبار المعافري (ت قُبيل 206هـ/821م) -الذي جاء عند الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘ وصْفه بأنه “أحد العلماء العاملين”- من ‏ملاحقة أمير الأندلس الحَكَم الأول الأموي (ت 206هـ/821م) “اختفى سنة عند يهودي، ثم خرج وقصد الوزير أبا البسام ليختفي ‏عنده فأسلمه إلى الحَكَم”.

ولم يسكت الأمير الأموي على هذه المفارقة المؤلمة فقال لوزيره: “حفظه يهودي وستر عليه لمكانه من ‏العلم والدين، وغدرتَ به إذ قصدك وخَفَرْتَ (= غدرتَ) ذمَّتَه”!! ثم إن الأمير أقال الوزيرَ الغادر وكافأ اليهوديَّ الوفيَّ “وزاد في إحسانه”، ‏وتقول القصة إنه أسلم متأثرا بذلك الجزاء الحسن، وصارت قصته هي “المضروب بها المثل في الوفاء بالذمة” في الأندلس كلها!‏

ونقل الخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘ -وتبعه القاضي عياض المالكي (ت 543هـ/1148م) في ‘ترتيب المدارك‘- عن الإمام الدارقطني (ت 385هـ/996م) أن قاضي القضاة ببغداد إسماعيل بن إسحق المالكي (ت 282هـ/895م)، وهو الذي “نشر مذهب مالك (بن أنس ت 179هـ/796م) بالعراق” وفقا للذهبي في ‘السِّيَر‘؛ “دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير -وكان نصرانيا- فقام له ورحب به؛ فرأى إنكار الشهود ذلك. فلما خرج [الوزير]؛ قال [القاضي للشهود]: قد علمتُ إنكارَكم، وقد قال الله تعلى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ}، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين [الخليفة] المعتضد (ت 289هـ/902م)، وهذا من البـِرّ؛ فسكتت الجماعة عند ذاك”.

وخلال الصراع مع الصليبيين؛ اشتد في إحدى السنين الحصارُ على المسلمين في عكا، فأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي ‏‏(ت 589هـ/1193م) بتسيير سفينة محملة بالمؤن لنجدتهم، وتعاون في تنفيذ مهمة كسر الحصار “رجال مسلمون ونصارى من أهل ‏بيروت”، قادوا السفينة بتخطيط مُحْكَم حتى دخلت عكا رغم حراسة الصليبيين المشددة. ‏وأخبرنا ابن كثير أنه عندما اجتاح التتار عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 656هـ/1258م اختبأ الناس “في المساجد والجوامع والرُّبط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ‏ومن التجأ إليهم” من المسلمين.

وقبل قرن من الآن؛ كانت الحادثة المشهورة خلال ثورة المصريين سنة 1338هـ/1919م على الاحتلال الإنجليزي، حين دخل القُمُّص القبطي سرجيوس الجامع الأزهر فكان أول مسيحي يعتلي منبره في التاريخ، حيث ألقى فيه -وفي جامع أحمد بن طولون- عدة خطب سياسية بحضور كبار العلماء المسلمين.

أفراح وولائم
لم تكن مواقف الأحزان والأزمات فريدة في توحيدها لأتباع الديانات في الحضارة الإسلامية؛ إذ كان لمناسبات الفرح والاحتفال نصيبها من ذلك التوحيد والتوحّد؛ ومن أمثلة ذلك الاستقبالُ التاريخي الذي نظمته القاهرة المملوكية لأول خلفاء العباسيين في مصر الملقب “المستنصر” (ت 660هـ/1262م)، فلدى وصول موكبه -في 8 رجب سنة ‏‏659هـ/1261م- ركب السلطان الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) للقائه “ومعه الوزير.. وقاضي القضاة.. ‏والشهود والرؤساء، والقراء والمؤذنون، واليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل‎..، وكان يوما مشهودا”؛ كما يخبرنا المؤرخ قطب الدين اليونيني (ت 726هـ/1326م) في ‘ذيل مرآة الزمان‘.

وبعد تحرير مدينة عكا الأخير من الاحتلال الصليبي سنة 690هـ/1291م على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ/1294م)، مُنْهيا بذلك عصر الحملات الصليبية بمفهومها التاريخي؛ دخل الأشرف دمشق “ولم يبق أحد من أهل دمشق.. إلا وقد خرج في موكب اليوم..، وكذلك العلماء والقضاة والخطباء والمشايخ، والنصارى واليهود”.

وتوحي الفتاوى الكثيرة في كتب الفقه الإسلامي المتعلقة بأعياد غير المسلمين بمدى انتشار ظاهرة حضور المسلمين لهذه الأعياد، بمن فيهم النساء المسلمات؛ فقد طالب الفقيه المحتسب ابن عبدون التجيبي الأندلسي (ت 527هـ/1133م) بـ”منع المسلمات من دخول الكنائس” في مناسبات أعياد المسيحيين وأعراسهم.

وأفادنا الرحالة الجغرافي الفقيه المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م) -في ‘أحسن التقاسيم‘- بأن “من أعياد النصارى التي يتعارفها المسلمون ويقدّرون بها الفصول: الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحر، ‏والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار”، ويُشعر ذلك بعلنية احتفالات هذه الأعياد والحرية المتاحة لأصحابها في إقامتها، بحيث صارت ثقافة عامة للجميع بل ويؤرخ بها المسلمون تعاملاتهم.

وهذا التأريخ بأعياد المسيحيين يبدو أنه قديم نسبيا، ولم يسلم منه حتى المحدِّثون؛ فحين أرّخ الإمام الحافظ الخطيب البغدادي لوفاة العالم اللغوي أبي عمرو إسحق بن مِرار الشيباني (ت 210هـ/825م)، وهو أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل؛ قال إنها كانت سنة 210هـ/825م “في يوم السّعانين -بسين مُهمَلة- وهو ‏عيدٌ من أعياد النصارى”.

وشاع تبادل الدعوات لولائم الزواج وغيرها وتبادل الهدايا، كما نجد في قصة الإمام عبد الله بن المبارك (ت 181هـ/798م) مع بهرام المجوسي الذي أوْلَمَ “وليمةً عامة للمسلمين والنصارى واليهود والمجوس”. وقد نقل مفتي الحنفية شهاب الدين الحموي (ت 1098هـ/1688م) -في ‘غمْز عيون البصائر‘- عن فتاوى شيخ الإسلام أبي الحسن السعدي الحنفي (ت 461هـ/1070م) أن “واحدا من المجوس كان كثير المال حسن التعهد للفقراء المسلمين، يُطعم ‏جائعهم ويكسو عاريهم، وينفق على مساجدهم ويعطي دهان سُرُجِها، ويُقْرِض محاويج (= المحتاجين) المسلمين؛ فدعا الناس مرة إلى ‏دعوة… فشهدها كثير من أهل الإسلام، وأهدى إليه بعضهم هدايا”.

وقد شاهد الرحالة والفقيه الأندلسي ابن جبير (ت 614هـ/1217م) لما زار مدينة صور بلبنان عرسا مسيحيا في مينائها، ووصف بدقة تفاصيل ما جرى فيه ملاحظا أن “المسلمين وسائر النصارى من النُّظار قد عادوا في طريقهم سِماطين (= صَفَّيْن) يتطلعون فيهم (= أهل العرس) ولا ينكرون عليهم ذلك”. وفي سنة 1156هـ/1744م أقام المشرف على حسابات ولاية دمشق فتحي أفندي الدفتري (ت بعد 1156هـ/1744م) حفلا بمناسبة زواج ابنته، “وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: […] واليوم الثالث إلى المشايخ ‏والعلماء، […] واليوم الخامس إلى النصارى واليهود”.

وقبل مئة سنة من الآن، وبعد الفتنة الطائفية بحلب في 28 فبراير/شباط 1919 (= سنة 1337هـ)؛ يقول مؤرخ حلب وشاعرها كامل الغزي (ت 1349هـ/1933م) إنه “خطر لبعض عظماء المِلَل الثلاث أن يسعى بتأكيد ما بين هؤلاء المِلَل من المحبة والولاء القديمين؛ ‏تفاديا من أن تكون تلك الحادثة قد شَوَّهت محاسنهما أو أبقت لها أثرَ حقدٍ أو ضغينة في القلوب. فأخذ عظماء الملل ‏من السادة العلماء والكهنة يجتمعون عند أحدهم مرة في الأسبوع، يتبادلون في أثناء اجتماعهم عبارات التوادد ‏والتحابب. وفي ختام الاجتماع يَأْدِبُ (= يصنع مَأدُبةً) صاحب المنزل مَأدُبةً حافلة”.

صدقات وأوقاف
من مظاهر البر المتبادل أيضا تصدُّق المحسنين من أهل كل ديانة على فقراء الديانة الأخرى ورصد الأوقاف لإعانتهم؛ فقد قبـِل النبي ﷺ صدقات غير المسلمين من رعايا دولة الإسلام، بل إن أول وقف في تاريخ المسلمين كان من أموال ثريٍّ يهودي من أهل المدينة، قاتل مع المسلمين في غزوة أُحُد سنة 3هـ/625م دفاعا عن المدينة، ودعا قومه إلى القتال مع المسلمين فقال: “يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌّ”، وهو بذلك يذكّرهم بواجب دفاعهم عن المدينة التزاما ببنود ‘صحيفة/دستور المدينة‘.

فقد ذكر الإمام محمد بن إسحق -في ‘السيرة‘- أن اليهودي مُخَيْرق النضري (ت 3هـ/625م) شهد أحُد ‏وقال قبل المعركة: “إنْ أصِبتُ فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء”.‏ وأسند ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- إلى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) أن “حوائط النبي ﷺ… السبعة التي وقفـ[ـها كانت] من أموال مخيريق” هذا، وروى ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أنها “كانت أول وقف بالمدينة”. هذا مع أن علماء السيرة لم يتفقوا على ثبوت إسلام مخيرق، والظاهر أنه قُتل يهوديا لأن المسلمين عادة لا يذكرون النبي ﷺ باسمه المجرد كما ورد في قول مخيرق “مالي لمحمد”، بل يذكرونه بلقبه فيقولون: “نبي الله” أو “رسول الله”.

ويصف لنا ابن جبير في رحلته -وكانت أيام سيطرة الصليبيين الفرنجة على ساحل الشام- عن المعاملة الرحيمة التي قابل بها سكان جبل لبنان من المسيحيين مجاوريهم من متعبِّدي المسلمين، فيقول: “من العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين [للعبادة] من المسلمين جلبوا لهم القوت ‏‏‏وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم”. وقد تنبه الرحالة المسلم لتلك المفارقة بمنطق زمانه فكتب معلقا: “وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض”؟!

وحين تحدث علامة الشام محمد ‏كرد ‏علي ‏‎(ت 1373هـ/1953م) عن ‘قَصَبة الجبل‘ في لبنان قال إن فيها “إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه ‏أحد أمراء لبنان، ‏ولا ‏يزال ‏الدَّيْرِيُّون (= سكان دَيْر القمر المسيحيون) يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة، وإن لم ‏يكن له من يقيم فيه الصلاة‎‏”!!

وقد أدى التعايش بين هذه المكونات إلى نتائج غريبة من الاقتباس الثقافي وحتى التعبدي، بل والمشاركة في بعض الشعائر الدينية العامة تضرعا إلى الله لرفع البلاء عن الجميع؛ ففي ‘شرح التلقين‘ للإمام أبي عبد الله المازري المالكي (ت 536هـ/1141م) “أنه لا بأس بإخراج أهل الذمة [طوعاً] للاستسقاء مع المسلمين”. بل إن بعض العلماء قال إنه “لا يُمنَع اليهود والنصارى من الاستسقاء والتطوُّف [فيه] بصُلُبهم وشِرْكهم”.

وقد خرجت تلك الفتاوى من حيّز الافتراض النظري إلى الواقع التطبيقي تاريخيا؛ فالمازري ينقل عن إمام الشام الأوزاعي قوله: “كتب يزيد بن عبد الملك (الخليفة الأموي ت 105هـ/724م) إلى عماله أن يُخْرِجوا أهل الذمة إلى الاستسقاء، فلم يَعِبْ عليه أحد من [علماء] أهل زمانه”! وجاء في ‘البستان الجامع‘ للأصفهاني أنه في سنة 288هـ/901م نقص منسوب مياه النيل في مصر عن المستوى المطلوب للزراعة؛ “فخرج المسلمون والنصارى واليهود ليستسقوا”، أي يصلون صلاة الاستسقاء.

وعلى مستوى التدين الشعبي؛ يذكر الإمام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) -في ‘طبقات الشافعية الكبرى‘- أن الشيخ الفقيه الزاهد أبا الطاهر المحلي (ت 633هـ/1236م) كان خطيبا لجامع عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) في مصر، واشتهر بـ”اعتقاد أهل عصره فيه حتى اليهود والنصارى وتبرُّكهم بخطّه”. ومن ذلك شيوع الختان بين مسيحيي مصر والأندلس، وكذلك كتابتهم البسملة في مقدمات كتبهم، وتلقبهم بألقاب دينية تشابه ألقاب علماء المسلمين مثل “موفق الدين” و”شمس الدين”!!

ومن أغرب أمثلة ذلك ما حكاه الرحالة الفرنسي لوران دارفيو (ت 1113هـ/1702م) في مذكراته المضمَّنة في كتابه ‘وصف دمشق‘ المؤلَّف أواخر القرن السابع عشر الميلادي؛ إذ يقول فيما نقله عنه كامل الغزي: “يوجد في زماننا طائفة من الأرمن يسكنون عينتاب (تقع جنوب تركيا اليوم) يقال لهم ‘كيز وكيز‘ أي نصف ونصف، ‏سُمُّوا بذلك لأن ديانتهم مركبة من الإسلامية والمسيحية؛ فهم يقرؤون القرآن العظيم ويعلمونه أولادهم… ويدخلون المساجد ويصلون فيها… كما ‏أنهم يعمّدون أولادهم ويحترمون الصليب ويحتفلون بالمواسم المسيحية”!!‏‏

‏حماية شرعية
من نماذج ضمانات التعايش الديني في التجربة الإسلامية ما كان يُصدره العلماء والقضاة المسلمون من فتاوى لدفع ظلم الحكام عن رعيتهم وخاصة من غير المسلمين، ومن ذلك ما ذكره المؤرخ البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في ‘فتوح الشام‘- من أنه حين حصل تمرد من بعض مسيحيي جبل لبنان على العباسيين وأخَذ أميرُهم على الشام صالح بن علي (ت 152هـ/769م) عامةَ مسيحيي المنطقة بجريرة بعضهم؛ رفض ذلك إمام الشام الأوزاعي (ت 157هـ/769م) مُستنكِرا في “رسالة طويلة” بعثها إلى الأمير “إجْلاءَ أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالِئا لمن خرج على خروجه..، فكيف تُؤخَذ عامةٌ بذنوب خاصة حتى يُخْرَجوا من ديارهم وأموالهم، وحُكمُ اللهِ تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَة وِزْر أُخْرَى}”!!

وكذلك فعل المفتي وقاضي القضاة بمصر الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) استفتاه الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) في قتال أقباط قرية البُشمور (تقع اليوم بمحافظة الدقهلية شمالي مصر) حين تمردوا على سلطته سنة 216هـ/831م، فرفض الحارث قتالهم قائلا للخليفة: “لا ‏يحلّ لك [دمُهم]! فقال له المأمون: أنت تَيْس”!!‏ ‏وذكر ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) -في تاريخه- أنه في سنة 721هـ/1321م وقعت فتنة بالقاهرة حاصر فيها بعض العامة الكنائس “فغضب السلطان واستفتى القضاة فأفتوه بتعزيرهم”.

وفي أوج انتصارات الدولة العثمانية وتمددها؛ اعترض مفتيها شيخ الإسلام علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه ‘زنبيللي علي أفندي‘ (ت 932هـ/1527م) على قرار أراد إصداره سلطانُها القوي سليم الأول (ت 925هـ/1520م) ويقضي بـ”حمْل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعًا، أو [أن] يخرجوا من البلاد”، فما كان من المفتي الجمالي إلا أن وقف في وجهه بحزم “وقال له: لا يحلُّ لك ذلك! وليس لنا إلا أن نأخذ منهم الجزية والطاعة”!!

وحين روى المفكر اللبناني شكيب أرسلان (ت 1366هـ/1946م) هذه الحكاية -في كتابه ‘تاريخ ابن خلدون‘ مؤكدا أن خبرها “مَرْويّ بالتواتر وفي الكتب أيضًا”- علّق عليها قائلا: “ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يَقدِر أن ينفّذ جميع ما يريده بهم، ولذلك نجد ملاحدة الترك ينتقدون دائمًا العمل بالشرع الإسلامي بحجة كونه السبب في بقاء النصارى في السلطنة العثمانية، وأن بقاءهم كان السبب في ضعف تركيا..، ولذلك لما استولوا على الحكم بعد الحرب العامة (= الحرب العالمية الأولى) أخرجوا جميع النصارى من تركيا، ولم يبق إلا النصارى الذين في القسطنطينية فقط” لأن الأوروبيين رفضوا إجلاءهم منها!!

ثم أضاف أرسلان وكأنه يعيش لحظتنا الراهنة التي تتصاعد فيها -رسميا وشعبيا- ظاهرةُ الإسلاموفوبيا في الغرب: “ومن العجب أننا نرى الأوروبيين يعملون بكل قوتهم لمحو الشرعية الإسلامية التي في ظلها -وبسببها لا غير- بقي النصارى في جميع الممالك الإسلامية.. متمتِّعين بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، منذ ظهور الإسلام إلى يوم الناس هذا..، ومن العجب [أيضا] أننا نراهم مع ذلك يفضلون أن تكون الحكومات الإسلامية مُلْحِدَةً ولو كانت تُخْرِج جميعَ النصارى من بلادها! وهذا أقصى ما يتصوره العقل من التحامل والتعصب على الإسلام: يكرهونه ولو حفظهم، ويحبون زواله ولو كان في ذلك زوالهم”!!

بل إن المستشرق السويسري آدم متز (ت 1336هـ/1917م) يقول إنه “كثيرا ما كان رجال الشرطة المسلمون يتدخلون بين فرق النصارى لمنعهم من المشاجرات” فيما بينهم، وذكر نموذجين من تلك الوقائع؛ مشيرا إلى محاولة الخليفة المأمون فرض الحرية الدينية قانونيا لطوائف المسيحيين ولو كان عدد إحداها عشرة أشخاص فقط، لكن رؤساء الكنائس اعترضوا على ذلك فتركه المأمون!

وجه آخر
ختاما؛ فإننا -حين نقف على هذه اللحظات ونتوقف عند تلك المحطات- واعون بالجانب الآخر من التجربة -وقائع ونصوصا- الذي ‏صبغه ‏التشاحن بدلا عن التعاون، والتحارب عوضا من التحاور. ولكننا نعتقد أن صور التراحم والتلاحم -التي نقدم هنا نماذج يسيرة ‏منها مما حفظته سجلات التاريخ المنشورة- ‏كانت رغم قلتها هي الأصلَ الممثـِّلَ للمبدأ القيمي المؤسِّس للعلاقة بين مكونات ساكنة أقطار الإسلام منذ انساحت فتوحه خارج ‏جزيرة العرب، تلك العلاقة القائمة على خضوع الجميع لمبدأ “الإنصاف والانتصاف” وقاعدة “لهم ما لنا وعليهم ما ‏علينا”.‏

وأما ما سواها من صور التظالم -بمختلف ضروبه- فكانت تعكس الممارسة التاريخية للمبدأ القيمي في لحظات ضعفها وانكفائها ‏الأخلاقي، متخليةً عن قيم البر والقسط: توظيفا مطفِّفا لنصوص الدين تسويغا لهضم حقوق الأخوة ‏والعهد والجوار، أو تأثرا ‏بأزمات هموم العيش اليومي ورَهق ‏التعايش المجتمعي، أو انعكاسا لمظالم السياسة والسلطان وحسابات الولاء لحكم محلي ‏داعم أو غزو أجنبي داهم.‏

وآية كل ذلك؛ أن الظلم -مهما كان مصدرُه مُسْلِماً أو غيرَ مُسْلِم- ‏عانى منه الجميع مسلمين وغير مسلمين، والتحيز والتمييز مارستهما كافة ‏المذاهب والطوائف الإسلامية حتى تجاه بعضها بعضا، استجابة لغواية التعصب المذهبي.‏ كما أن التحالف مع الأعداء والاحتلال الأجنبي مارسه المسلمون وغيرهم.

ومن أمثلة شمول ظلم السلطة للجميع بمن فيهم رموزهم العلمية؛ ما رواه ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- من أنه في سنة 791هـ/1389م “قـَـبَض [الأميرُ] منطاش (قـُـتل 795هـ/1393م) على متّى بطرك النصارى وألزمه بمال، و[قبض] على رئيس اليهود وألزمه أيضا بمال… ثم طلب منطاشُ [إحضارَ] الشيخ شمس الدين محمد الركراكي [القاضي] المالكي (ت 793هـ/1391م) وألزمه بالكتابة على الفتوى في أمر [الانقلاب على] الملك الظاهر بَرْقوق (ت 801هـ/1398م) فامتنع من الكتابة غاية الامتناع، فضربه منطاش مئة عصاة وسجنه بالإسطبل”!!

ويكفي أن نذكر من صور التظالم بين المسلمين –بداعي التعصب المذهبي- هذه الأقوال التي صدرت من بعض علمائهم الكبار الذين ينتمون إلى طبقة يُفترض فيها أن تضبط أحكامَها بميزان كفتاه: العلم والعدل؛ فقد كان القاضي شَريكاً النَّخَعي (ت 177هـ/791م) -على ما رواه عنه الخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘- يقول: “لأنْ يكون في كل حي من الأحياء [بالكوفة] خَمّارٌ خير ‏من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة‏ (ت 150هـ/768م)”.

ورأى العالم الحنفي محمد بن شجاع الثلجي (ت 266هـ/879م) أن ‏‏”أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون ‏أن يُذبَحوا‎‏”!! فما بالنا بالمغايرين في المعتقد الديني الذين عُرفوا -في أحيان كثيرة- بـ”ما لهم من الحرية الزائدة والجاه ‏القاطع” في مؤسسات الاقتصاد وأروقة السلطة!!‏

إن هذا التاريخ الطويل والتراث العريض للتسامح الإسلامي مع معتنقي الأديان المختلفة هو ما جعل المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) يستخلص -في نهاية كتابه ‘حضارة العرب‘- أن المسلمين عاملوا “كل قـُطْر استولوا عليه بعطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم…؛ فالحق أن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم”.

وهي الخلاصة نفسها التي توصل إليها اليوم الأديب والصحفي اللبناني الشهير أمين معلوف حين قال في كتابه ‘الهويات القاتلة‘: “لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش المسيحية، بدلا من كونهم مسيحيين في بلد فتحته الجيوش المسلمة؛ [فـ]ـلا أظن أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش -لمدة أربعة عشر قرنا- في مدنهم وقراهم، محتفظين بعقيدتهم؛ [فـ]ماذا حدث فعليا لمسلمي إسبانيا وصقلية؟ لقد اختفوا حتى آخرهم: ذبحوا أو هُجِّروا أو تم تعميدهم بالقوة! يوجد في الإسلام -ومنذ بداياته- قدرة مميزة على التعايش مع الآخر”!!

Original Article