جذور ظاهرة الإسلاموفوبيا في الأندلس

من المعروف بين المهتمين بالدراسات التاريخية المقارنة أن تجربتيْ الحروب الصليبية بالمشرق الإسلامي والتعايش الديني بالأندلس كانتا خطوط تماسّ ساخنة بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية، وأن الكثير من مواريث الصور النمطية والذهنية المتكوّنة حديثا عن الإسلام -ولاسيما عند الأوروبيين- لها ظلال تاريخية وجذور داخل ذلك اللقاء الصاخب، الذي تمّ سِلْما في لحظات كثيرة من تاريخ الأندلس الإسلامية، أو في خضمّ الحروب الطاحنة التي دامت قرنيْن في أكناف بيت المقدس.

وإذا كانت الحضارة الإسلامية اشتهرت بأنها تضع التعارف الحضاري سمة بارزة في منهجها؛ فإن التعرف على مواضع الخلل التاريخي تظلّ أولية كبرى داخل سمات هذا التعارف، فمن المفيد معرفيا أن ندرك أن الكثير من جذور الظواهر الحالية التي تدعو إلى الصدام بديلا عن الحوار والتعايش لها جذورها القديمة، وأن بعض الحركات المسيحية المتطرفة التي نشأت ببلاد الأندلس قد تكون إحدى الحواضن الثقافية التي يستمدّ منها فكرياً اليمينُ المسيحي المتطرف المنتشر اليوم بأوروبا، خصوصا على صعيد التصورات والموقف العدائي من المختلف.

ثم إن استقراء تلك التجربة قد يكفينا عناء تكرار الأخطاء والمصائر الدامية بين الحضارات؛ فجزء كبير من وحشية محاكم التفتيش الكنسية تجاه المسلمين -بل واليهود أيضا- كان سببه تلك الصور الشائهة عن الآخر المختلف دينيا، وبمعنى أوضح لعبت فيه الاسلاموفوبيا المبكرة حينها دورا كبيرا تحريضا وتسعيرا.

وهذا المقال يسعى لتسليط الضوء على تجربة الأندلس المسلمة مع نمط من الإسلاموفوبيا تبنّته حركات مسيحية متطرفة؛ فاعترض عليها طيف واسع من مرجعيتها الكنسية والقيادات الرعوية المسيحية، وعدّها مساسا بتجربة التعايش السلمي الأهلي في البلاد بين مكوناتها المسلمة والمسيحية واليهودية، فدعا لتجفيف منابع هذه الكراهية.

وقد رأى فيها كذلك المشرِّعُ الإسلامي الأندلسي ضررا بالغا بالأمن الاجتماعي؛ فوضع لذلك نظاما جزائيا يناسب عصره ويُجرِّم الإساءة إلى المقدسات والرموز الدينية لكل الأديان، ولا يفرق في العقوبة بين مسلم يسيء أو مسيحي يزدري. وهو أمر تفتقده الكثير من الدول حاليا مما يجعل الفراغ التشريعي الرادع عن ازدراء الأديان مدخلا لأي محاولات فردية منفلتة تضر أكثر مما تنفع. كما سنتطرق لإبراز مدى تنكُّر متعصبي المسيحيين الأندلسيين لإرث ذلك التسامح والاحترام -الذي قابلهم بهم المسلمون- إثر استعادتهم حكم البلاد، ونرصد سبل انتقال هذا الإرث إلى الجوار الأوروبي الذي وجد فيه بلسما لعلله المجتمعية وحروبه الدينية البينية.

إننا -في هذا المقال- لا نبحث عن التطابق بين الماضي والحاضر في نموذج الإسلاموفوبيا، ولا ندعو لتكرار ردود الفعل بين المسلمين والمسيحيين عبر تلك النقاط الساخنة؛ بل كلّ ما نأمله هنا هو التعلم من التاريخ من أجل دعم حوارِ الحضارات وتعارفِها بدلا من الاحْتراب والصراع، وتجنب ازدراء الأديان والمقدسات التي تؤجج هذه الحروب العسكرية والصراعات الاقتصادية التي تستنزف طاقات بالجميع!

تعايش مستفِزّ
شكَّل الموقع الجغرافي للغرب الإسلامي عموما مرتعا خصبا لتلاقح الحضارات والديانات وموطنا لتعارف الشعوب والأعراق؛ فكانت أرض احتكاك وساحة لاصطدام أو تعايش هؤلاء وأولئك، ولاسيما الأندلس التي كانت طوال ثمانية قرون عبارة عن مزيج خلّاق من الأديان والأعراق، فسادَها التسامح الديني والفكري في أغلب عهود الوجود الإسلامي فيها.

وقد أسال ذلك التسامح والتعايش مداد الكثير من الأدباء والفلاسفة عبر التاريخ، حيث أسهبوا في الحديث عن أنواعه وتجلياته. ويكاد المؤرخون -الأوروبيون والإسبان- يُجمعون على أن حكام الأندلس تبنوا مقاربة جديدة عَزَّ نظيرها في التعامل مع هذه التعددية منذ ظهور المسيحية في تلك البقاع. ولعل من أجمع ما ورد في ذلك مقولة المستشرق الفرنسي الكونت هنري دي كاستري (ت 1346هـ/1927م) في كتابه ‘الإسلام.. خواطر وسوانح‘ الذي أصدره قبل نحو 150 سنة: “لقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس حتى ساروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم قدماء الجرمانيين”!!

وكما رأينا في مقال سابق عن التأثير الأندلسي في الثقافة الإسبانية والأوروبية؛ فإن جهود التصدي لحركة التعريب التي تفشّت بين مجتمعات المسيحيين بالأندلس لم تقتصر على رجال فرادى من أعيان المسيحيين؛ بل انخرطت فيها جماعات مسيحية منظمة كانت إحداها حركة “الشهداء المتطوعين” التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وكان من قادتها القسّ يولوخيو القرطبي (Eulogius of Córdoba المتوفى 244هـ/858م)، لكن جهودها باءت بالفشل في صدّ مدّ التعريب والأسلمة؛ طبقا للمستشرق الفرنسي ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م) في كتابه ‘الحضارة العربية في إسبانيا‘، وأيضا كما سنرى من عرضنا هنا لأحداث هذه الحركة ومصيرها.

ففي غمرة اتساع نطاق الحريات الدينية بالأندلس التي ظلت -منذ الفتح الإسلامي سنة 92هـ/711م- مصونة بعهود مكتوبة؛ وجد المسيحيون واليهود الفرصة سانحة للاغتراف من معين الثقافة العربية الإسلامية، وليس أدل على ذلك من شكوى الأسقف ألفارو/ألبارو القرطبي (Alvaro de córdoba المتوفى 240هـ/854م) الذي كان أحد رجال الدين المسيحيين الذين نددوا بشدة بهذا الوضع، إذ استنكر لجوء الشبان المسيحيين إلى تعلم اللغة العربية وما دُوِّن بها من علوم إنسانية، كما جاء في وثيقة “الدليل المنير” (Indiculus Luminosus) التي كتبها سنة 240هـ/854م في ذروة أحداث “حركة الشهداء”!!

اعلان

وقد أورد شكاوى ألفارو هذا من تغلغل الثقافة العربية الإسلامية في أوساط المسيحيين -وخاصة شبابهم- المستشرقُ الإسباني آنخل غونثالث بالنثيا (ت 1368هـ/1949م) في كتابه ‘تاريخ الفكر الأندلس‘، وكذلك ذكره المؤرخ والمستشرق الإسباني خوان برنيت (ت 1432هـ/2011م ) في كتابه ‘فضل الأندلس على الغرب‘.

وخلال تلك الشكاوى؛ وجّه ألفارو انتقادات لاذعة للإسلام ونبيه محمد ﷺ، وكان من السهل على هذا القس معرفة الشريعة الإسلامية نظرا لمعرفته بالعربية، لكنه أبى ذلك وكان باولو ألفارو رمزاً من الرموز الثقافية عند المستعربين وصديقا للزعيم الأبرز للحركة القسّ يولوخيو (Eulogio de Córdoba المتوفى 244هـ/858م).

وبعد فشل كل الجهود المبذولة لثني الشباب المسيحي عن تعلم الثقافة الإسلامية الأندلسية، لاسيما من قبل القسّيْن يولوخيو وألفارو؛ سلك هذان الرجلان طريق مهاجمة الإسلام بعينه، فبادروا إلى تأسيس ما أصبح لاحقا يُعرف بـ”حركة الشهداء”، فأخذوا يحرضون الشباب المسيحي ضد الإسلام ويسبّون نبيه محمدا ﷺ في الأمكنة العامة وفي المساجد والساحات.

نشأة غاضبة
ويحدثنا المستشرق دي كاستري عن ظروف نشأة هذه الحركة اليمينية المتطرفة، وما دفع مؤسسيها لإطلاقها من مشاعر إحباط بسبب ثقة أتباعهم المسيحيين في تسامح المجتمع المسلم من حولهم وعدالته؛ فيقول إن “الكنيسة الأندلسية تخيَّلتْ سنة 851م (237هـ) أنها على شفا جُرُف الاضطهاد من المسلمين، بينما عامة المسيحيين في قرطبة يقيمون شعائر دينهم مطمئنين ولا يشّكون في حكومة العرب. كان القليل منهم يتميز من الغيظ ضدهم بما هيّجه القُسُس والرهبان في صدورهم من الغِلّ وما ملؤوا به ضمائرهم من الحقد والبغضاء”!

ثم يذكر تحديدا دي كاستري دور القس يولوخيو خاصة في هذا التجييش الديني، وأنه “كان يجتمع دائما بمبغضي الإسلام ويخطب فيهم حتى أهاج ضمائمهم (= عواطفهم) لقوة بيانه، وهاموا جميعا يطلبون الموت فداءً لدينهم”!

ويبدو أن أسباب نشأة هذه الحركة اليمينية المتطرفة كانت متعددة؛ فوفقا لما يراه المؤرخ المصري المتخصص في تاريخ الأندلس محمد عبد الله عنان (ت 1407هـ/1986م) -في كتابه ‘دولة الإسلام بالأندلس‘- فإن العوامل الدينية لم تكن وحدها مبعث هذا التحامل الذي يضطرم به نصارى قرطبة نحو الحكومة الإسلامية، بل كان للعوامل الاجتماعية أيضا أثرها في إذكائه. ذلك أن القسس والمتعصبين كان يُحْفِظُهم (= يُغضبهم) ويثيرهم ما يحيط بالحكم الإسلامي من مظاهر الإعزاز والسؤدد، وما تبديه الهيئة الحاكمة من مظاهر الأبّهة والفخامة، وما ينعم به المجتمع الإسلامي من حياة رغدة رفيعة”.

ولا يستبعد عنان الدافع السياسي الحافز لمشاركة مسيحيي قرطبة بأي شكل في الثورات التي كانت بدأت في أماكن أخرى للإطاحة بالسلطة الإسلامية في البلاد؛ فيقول إنه “كان في وسع أولئك المتعصبين في المدن البعيدة عن قرطبة -مثل طليطلة وغيرها- أن يرفعوا علم الثورة وأن يقاتلوا حكامهم وجها لوجه، ولكن الثورة في قرطبة كانت أمرا عسيرا فحاولوا عندئذ أن يبثّوا بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينية والاجتماعية، وأن يحاولوا الاستشهاد بطريق الاشتباك والتحدي. وعَمَدَ القُسُسُ والمتعصبون إلى تحقيق غايتهم بوسيلة بسيطة خطيرة معا وهي المجاهرة بسبّ النبي العربي ودينه”.

وفي هذا السياق؛ يجدر بنا ذكر الكتاب الذي ألفه يولوخيو فعنونه بـ‘الذكريات المقدسة أو ذكريات الشهداء‘ (Memoriales de Los Santos/ Memoralis Sanctórum)، وكان هدفه منه مواجهة انتقادات أعيان المسيحيين -من رجال دين ومسؤولين سياسيين- لهذه الأفعال المتطرفة التي بدأت تنتشر بين شبابهم، ونجاح تلك الانتقادات في تقليص دائرة انتشارها. ويُعَدُّ كتابه هذا المصدر الوحيد الذي يوَّثِّق تلك الأحداث التي أهملتها المصادر العربية كلية.

ووفقا للباحثة الإسبانية صونيا أغيلار غوميث في ‘ذكريات قديسي قرطبة للقديس يولوخيو القرطبي‘؛ فإن يولوخيو ألّف جزءًا من هذه الذكريات في السجن حين اعتقُل بسبب نشاطه التحريضي المتطرف، ووجّه رسالة طويلة بشأنها إلى أسقف مدينة بنبلونة الواقعة شمالي إسبانيا، كما أنه أهداها للفتاتين المسيحيتين “فلورا” (Flora) و”مارية” (Maria) اللتين سنورد لاحقا لمحة عن نشاطهما في هذا الحراك اليميني المعادي لرسالة الإسلام ونبيه ﷺ.

تحرض شامل
وحسب ما أخبرنا به القسّ يولوخيو في مذكراته طبقاً لدراسة غومث؛ فإنه يدعي عثوره على سيرة للنبي محمد ﷺ في “دَيْر ليري” الواقع بمنطقة نائية بمدينة نفّارة/نبّارة شمال شرقي إسبانيا على الحدود مع فرنسا. وكان هدفه من ذلك النيل من النبي ﷺ، وتحريض شباب المسيحيين ضد كل ما له علاقة بالإسلام.

ومما يلاحَظ هنا أن “حركة الشهداء” المسيحية الأندلسية تلك اتخذت من “الاستشهاد المسيحي” وسيلة للتحريض وبث الكراهية في المجتمع الأندلسي المتعدد القوميات والديانات؛ فالحركة كانت تقوم على فكرة “التَّطْويب” المسيحية بإضفاء القداسة على أعضائها الذين يتحدوْن القوانين الأندلسية السارية، والتي كانت تجرِّم ازدراء المقدسات الدينية بشكل عام دون تفرقة بين الأديان.

ومن ثَمّ كان أعضاء الحركة يعرِّضون أنفسهم لسلطان القانون حيث كان عقوبة القتل هي المعتمدة في ذلك العصر لمعاقبة مرتكبي جريمة سَبِّ الأنبياء جميعا، وكانوا يوّظفون هذا النمط من النهاية “الاستشهادية” لاسْتجاشة عواطف المسيحيين بالأندلس وأوروبا، فتشتعل صراعات دينية مدمرة بين الديانتين الكبيرتيْن في المنطقة.

وقد خضع المسيحيون واليهود في الأندلس لبنود “عهد الذمة” الذي تتضمن التزاماتُهم بمقتضاه احترامَ المقدسات الدينية ومشاعر أهلها الاعتقادية؛ وفي المقابل سُمح لهم بممارسة عقيدتهم واحترام مقدساتهم، والاحتكام إلى شريعتهم بكل حرية طالما أنهم لم ينالوا من الإسلام بأي شكل من الأشكال. وبذلك اعتُبرت إهانة المقدسات الإسلامية جريمة مغلّظة العقوبة قانوناً.

فقد قال الإمام عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) -في كتابه ‘الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ‘- إن علماء المذهب المالكي -الذي كان به العمل حينها بالأندلس- يرون أن “مَنْ شَتَمَ الأنبياءَ من اليهود والنصارى -بغير الوجه الذي به كفروا [من عدم التصديق بنبوَّتهم]- ضُرِبت عُنُقُه، إلا أن يُسْلِم..؛ وكما لم يُحَصِّن الإسلامُ مَنْ سَبَّه (= النبي ﷺ) من القتل كذلك لا تُحصّنه الذمةُ” إن كان السابُّ غير مسلم.

وما يقوله هذا النص الفقهي هو أن هناك قانونا عامًّا يُجَرِّم سبَّ الجميع -مسلمين وغيرهم- للأنبياء عموما دون تفرقة بينهم، ويحرّم التهجم على الرموز الدينية والمقدِّسات لكل الديانات، دون أن يحول ذلك دون المناقشات العلمية للعقائد تثبيتاً أو تفنيداً كجدل ديني منضبط بقواعد المناظرة، وأما ازدراء الأديان فأمر آخر لا يسمح به لأي كان وضد أي كان.

وهذا ما ينقص عصرنا هذا الذي تعوزه القوانين المجرِّمة لازدراء الأديان ووضع تشريعات دولية معاصرة ورادعة لمنع ذلك، وبحيث تحول دون ظهور ردود فعل منفلتة لدى بعض المتشددين بذريعة الدفاع عن المقدسات. ويُحمَد للجمهرة العامة من المسلمين اتخاذهم سبيل المقاومة المدنية السلمية القانونية للرد على تلك الأنشطة اليمينية المسيئة إلى مقدساتهم.

التاريخ الإسلامي – المساجد والكنائس – تراث (الجزيرة)

مزاعم متعددة
يرى المؤرخ الفرنسي بيير غيشار -في كتابه ‘إسبانيا المسلمة: الأندلس الأموية.. خلال القرن الثامن والحادي عشر الميلادي‘- أن البذرة الأولى لحركة “شهداء قرطبة المتطوعين” تعود إلى عام 825م الموافق لسنة 210هـ، لما حوكِم شخصان كانا يطعنان في الإسلام ونبيَّه ﷺ.

ويخبرنا أيضاً أنه في سنة 213هـ/828م قام ملك الفرنجة لويس الأول الملقّب بـ”الورع” (ت 225هـ/840م) بإرسال كتاب إلى مسيحيّي مدينة مارِدة غربي الأندلس يحرضهم فيه على مقاومة الوجود الإسلامي بالأندلس. ووفقاً لبيير غيشار؛ فإنه بعد عَقدين نمت تلك الجذور لتظهر في شكل حركة أكثر شدة وتطرفا.

فاسم “شهداء قرطبة” إذن هو العنوان الذي عُرفت به مجموعة من المسيحيين المستعربين -يقدر عددها بنحو خمسين شخصا- اختاروت “الاستشهاد الطوعي” في تحدٍّ سافر للشريعة الإسلامية خلال حكم الأميرين الأموييْن عبد الرحمن الثاني (ت 238هـ/852م) ومحمد الأول (ت 273هـ/886م)، وتحديداً بين عاميْ 235هـ/850م و244هـ/858م.

لقد زعم يولوخيو أن مستعربي قرطبة كانوا “يواجهون الموت” وبالتالي فعلى إخوانهم المسيحيين أن يقفوا إلى جنبهم لمواجهة “أخطاء الإسلام”، حتى ولو “استشهدوا” في سبيل ذلك. وفي أعقاب ذلك؛ رفضت السلطات الكنسية المُستعرِبة -التي حافظت على موقف ودِّيٍّ تجاه السلطة الإسلامية- حينها منح صفة “الشهداء” لأولئك الذين ماتوا في سبيل ذلك، لأنهم -حسب قولها- لم يكونوا ضحايا أي اضطهاد، بل إنهم ضحّوْا بأنفسهم من خلال تحدي العقيدة الإسلامية، لكن أصبح لاحقا زعماؤهم “قديسين” لهم أعياد يحتفل بها بأسمائهم ومقبرة خاصة بهم تدعى “حديقة الشهداء”!

دافع يولوخيو -في كتابه ‘ذكريات الشهداء‘ (Memorial de los Santos)- بشدة واستماتة عن أولئك الذين هاجموا الإسلام و”استشهدوا” على أيدي المسلمين؛ فيقول: “سأخرج لأواجه أولئك الذين لم يكتفوا فقط بإنكار إملاءات الشهداء عليهم، بل حتى أولئك الذين غطَّوْهم بسبِّهم وتجديفهم؛ سأخرج لأدافع عن ذكرى المؤمنين بالمسيح اللامعة، الذين سيحكمون في السماء تاركين لنا أرقى نموذج للفضائل”.

وقد أصر هذا القديس على إثبات شرعية أفعال من سماهم “الشهداء” لأنه في ذلك الوقت كانت هناك أصوات مسيحية أدانت بشدة أولئك الذين استلهموا تلك الأعمال من عقيدتهم المسيحية “واتبعوا أهواءهم”.

إدانة مسيحية
وحسب مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في ’قصة الحضارة’؛ فإنه لما اشتدت هذه الحركة المعادية للإسلام واستَشرتْ دعايتها انتاب قلق كبير “كثيرين من المسيحيين -من رجال الدين وغير رجال الدين- لم يرضوا عن هذا التسابق للموت، وقالوا لتلك الفئة المتحمسة: إن السلطان يسمح لنا بأن نمارس شعائر ديننا ولا يضطهدنا، فما الداعي إذن إلى هذا التعصب الشديد؟”.

ووفقا لما ينقله عنان عن المستشرق دوزي؛ فإنه “لم يعترض المجلسُ على مبدأ الاستشهاد في ذاته، ولكنه أصدر قراره باستهجان مسلك أولئك المتطرفين، وتحذير النصارى المخلصين من حذو مسلكهم، ووجوب اعتقال كل مخالف”!

ويبدو أن أول “شهيد” من أعضاء “حركة شهداء قرطبة” كان راهبا؛ فوفقاً للمستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1300هـ/1883م) -في كتابه ‘المسلمون في الأندلس‘- فقد حكم القضاء القرطبي بـ”إعدام أحد المتعصبين المسيحيين وكان يدعي ‘پيرفيكتو‘ (Santo Perfecto)..، كان يسب الإسلام ونعت نبيَّهُ بالجنون وأقبح الصفات، [فأعدم] يوم عيد الفطر سنة 235هـ/850م”؛ فتأثر بعض مؤيديه من رجال الكنيسة لموته وأعلنوا ترقِيَّته من مرتبة “راهب” إلى “قديس”.

وعقِب حادثة پيرفيكتو؛ استغل يولوخيو ذلك ليؤجِّجَ نار الحقد في صدور المستعربين ضد السلطات الأموية، “فتألفت جماعة من المتعصبين المسيحيين بزعامة يولجيوس/يولوخيو وجعلت هدفها سبَّ النبي علنا، والترحيب بالقتل اعتقدا منها بأن مصير من يقتل من أفرادها هو الجنة”؛ طبقا للمؤرخ ديورانت.

ويفيدنا دي كاستري بأنه كان ضمن “الشهداء” رجل دين مسيحي يُسمَّى “إسحق”، وهو سليل عائلة قرطبية مسيحية نبيلة وكان يتحدث اللغة العربية بطلاقة مما أهَّلهُ لتولي منصب “كاتب” لدى سلطات قرطبة. فقد جاء ذات يوم “إسحق” هذا إلى القاضي معلنا إسلامه، فلما طلب منه هذا الأخير أن ينطق الشهادتين أطلق وابلا من الشتائم على النبي محمد ﷺ وسبَّ الإسلام سباًّ مقذعا.

ويروي دي كاستري مشهد محاكمة إسحق وزملائه قائلا: “كان القاضي يصمُّ الأذن كي لا يحكم عليهم بالإعدام، وكان عقلاء المسيحيين يرون هؤلاء قوما متعصبين يسعون إلى الانتحار”. ورغم أن القاضي تردد بداية في الحكم على الرجل ملتمسا له العذر بكونه قد يكون مصابا بمرض عقلي؛ فإن إسحق أصرَّ على الشتم والإساءة إلى الإسلام مما دفع بالقاضي مُكْرَهاً إلى الحكم عليه، وكان موته في 5 يونيو/حزيران 851م (236هـ).

ويذكر المستشرق دوزي أيضا ممن “استشهدوا” فتىً يقَالُ له “سانتشو” (Sancho) كان يعمل جنديا في الحرس الأميري، وقد أدى به تشبُّعُه بأفكار المتطرف يولوخيو إلى حالة من الحماس الهستيري، فأخذ يصيح بأعلى صوته داخل قصر الإمارة وهو يسبّ الإسلام ونبيّهُ.

مشاركة نسوية
لم تكن عضوية “حركة الشهداء” -أو “حزب المتطرفين من المستعربين” كما يسميها بروفينسال- حكراً على الرجال؛ بل كان للنساء إسهام كبير فيها ولاسيما من الفتيات اللاتي تشربت عقولهن بالفكر المتطرف للقس يولوخيو. فقد ذكر المستشرقان دوزي ودي كاستري كلًّا من الفتانين “فلورا” (Flora) و”مارية” (Maria) باعتبارهما عضوتين متحمستين في هذه الحركة اليمينية المتطرفة.

كانت الفتاة “فلورا” من بيت قرطبي شريف ومختلط الديانة فأبوها مسلم وأمها مسيحية، وكانت تلتقي بالقسّ يولوخيو فيحثها على الثبات على موقفها و”الاستشهاد” في سبيله. ولما علم أخوها المسلم بصلتها بالحركة سلَّمها إلى قاضي المدينة، فلما سألها عن أمرها انهالت عليه وعلى الإسلام بوابل من الشتائم، غير أن القاضي أشفق عليها لكونها تنتمي إلى بيت مسلمٍ، آخذا في الحسبان عنفوان شبابها، فأمر بتأديبها وسجنها عسى أن تتراجع عن موقفها المسيء.

وحسب رواية كاستري؛ فإن يولوخيو كان يلتقي فلورا في السجن من حين لآخر -لكونه سجينا هناك أيضا- فيبث في قلبها فكره المتطرف، ويضعف في نفسها قرار العزوف عن هذه الأعمال التي ندمت -تحت ضغط السجن- على الانخراط فيها. ويبدو أن القسّ نجح في مسعاه هذا؛ إذ بمجرد ما أُفرِج عن فلورا عاودت ديدنها في سبّ النبي محمد ﷺ، فجيء بها مجددا إلى القاضي الذي لم يجد مفراَّ من الحكم عليها -على مضض- بالردة باعتبارها أصلا من عائلة مسلمة، فالتحقت بركب “الشهداء” يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 853م (239هـ)، ولُقِّبت بـ”القديسة فلورا” (Santa Flora).

وقد لقيت زميلتها الشابة المسيحية “ماريا” -التي كان أبوها مسيحيا وأمها مسلمة تنصّرت- المصير نفسه بحكم قضائي جرَّاء الإساءة إلى الإسلام ونبيه؛ وكان من شأنها أنها كانت تصلي في “كنيسة سان إثيسكلو” -حيث التقت بفلورا- داعيَةً الله أن يُلهمها الصبر لتتحمل قسوة “الاستشهاد”.

وحسب رواية ديورانت للأحداث؛ فإن “استشهاد” فلورا ومارية “شجع.. يولوخيوس/يولوخيو فأخذ يطالب بضحايا جدد، فأقبل على المحكمة قساوسة ورهبان ونساء يسبّون النبي ويطلبون أن يُعدموا”!! وتذكر المصادر الإسبانية من النساء اللَّواتي “استُشهدن” كلٌّ من “لاورا” (Laura) التي صارت راهبة بعد وفاة بعلها، و”لوكريثيا” (Leocricia) التي ارتدت عن الإسلام نتيجة أفكار يولوخيو.

تهديد وتصعيد
قُبَيْل وفاة أمير الأندلس عبد الرحمن الثاني اقتحم موالون لهذه الحركة المتطرفة جامع قرطبة العظيم، وهو ما زوّد القسّ يولوخيو بذريعة جديدة دفعته إلى الإصرار على شحذ همم أتباعه واستنهاض روح الحماسة الدينية في نفوسهم.

حينها رأت السلطة الأندلسية في تلك الحركة اليمينية خطرا كبيرا على السلم الأهلي والاجتماعي؛ فاستدعت أكابر القساوسة الإسبان، وطالبتهم بعقد “مجمع كنسي” لدراسة المشكلة وإيجاد سبل ناجعة لثني أعضاء الحركة عن الإساءة إلى مقدسات ورموز الدين الإسلامي، درءا لما يهدد تعايش المجتمع.

وكان من بين القساوسة الذين حضروا المجمع فنددوا بتلك الأفعال الطائشة -حين فطنوا إلى حقيقة هذا الاستشهاد المزعوم وخطورته- أسقفُ إشبيلية جنوبي البلاد ريكافريدو (Recafrido)، والمسؤول السياسي الرفيع في القصر الأموي الكونت غوميث أنطونيانو (Gomez Antoniano – تسميه المصادر العربية: قومس بن انتنيان وتوفي بعد 246هـ/860م)؛ وكلاهما انتقد يولوخيو بسبب ميوله المتطرف معتبريْن ما يقوم به هو وأنصاره انتحاراً تحرِّمه التعاليم المسيحية.

وعن ذلك يقول المستشرق الفرنسي دي كاستري: “ولما أحنق ذلك الكنائسَ وساد القلق؛ جمع الأمير عبد الرحمن الثاني أكابرَ القُسُسِ في قرطبة عام 237هـ/852 م بزعامة أسقف إشبيلية ريكافريدو..، وقد نددوا بأفعالهم تلك. وما كان من يولوخيو وألڤارو القرطبي [وأتباعهما] إلا أن رموْهم بخيانة دين المسيح”.

وما إن تولى الأمير محمد مقاليد الحكم في الأندلس -خليفةً لوالده عبد الرحمن الثاني- حتى أمر باعتقال زعيم “حركة الشهداء” يولوخيو، فزُجَّ به في السجن ثم أطلق سراحه على أساس أن يخرج من قرطبة ليصبح مطرانا لطليلطة، بيد أنه ما لبث أن عاد ليواصل ثورته المعادية للإسلام، مما دفع بالأمير محمد إلى الأمر بالقبض عليه ثانية، فتمت محاكمته وأعدِم يوم السبت 2 ذي الحجة 244هـ/الموافق 11 مارس/آذار 859م.

وبنهاية القس يولوخيو؛ طُويت صفحة إحدى أشد حركات اليمين المسيحي تطرفا خلال الحكم الإسلامي بالأندلس؛ فوفقا لديورانت فقد “خمدت الفتنة بعد سبع سنين من موته (= يولوخيو) فلم تُسمع بين عاميْ 859-983م (244-372هـ) إلا حادثين من حوادث السب والقتل، ولم نسمع [بعد ذلك] عن حوادث أخرى من هذا النوع في أثناء الحكم الإسلامي في إسبانيا”، والذي شكّل البذرة الأولى لظهور الإسلاموفوبيا في أوروبا أوائل القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.

تأثير عابر
ذاع صيت “حركة الشهداء” بالأندلس ثم فاض عنها منتشرا في الأنحاء المسيحية من أوروبا محركا مشاعر التعاطف والغضب. وحسبما ينقله الدكتور سهيل طقوش -في ‘تاريخ المسلمين في الأندلس‘- عن المستشرق ليفي بروفينسال وغيره؛ فإن هذه الحركة اتخذت “بُعداً صليبيا لأول مرة على المستوى الخارجي”، فقد قام راهبان من دَيْر سان جيرمان في فرنسا بزيارة لقرطبة والتقيا سرا بالزعيم الروحي للحركة، ثم حملا معهما “رفات هؤلاء القديسين الشهداء” لتوجيه أنظار أوروبا صوب قرطبة وبالتالي إلباس الحركة لباسا دينيا سياسيا، بغية تقويض وإضعاف أركان الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس.

ورغم تأكيد ديورانت اختفاءَ حركة “شهداء قرطبة” نهائيا منذ نهاية القرن الثالث/العاشر الميلادي؛ فإن المستشرق دي كاستري يخبرنا أن نيران هذه الحركة لم تخمد تماما بدليل انبعاثها مجددا في حركة مشابهة لها، ظهرت أيام دولة الموحدين في ثانية حواضر الأندلس أهمية وهي مدينة إشبيلية.

فقد قام القديس فرانسيسكو الأزيسي (San Francisco de Asís المتوفى 623هـ/1226م) -مدفوعا بالانتصارات العسكرية المسيحية المتتالية على المسلمين- بِحَثِّ موالين له على نشر المسيحية بين المسلمين، فكان أول ما قاموا به أنهم “دخلوا جامعا في إشبيلية والمسلمون يصلون، وجعلوا ينشرون الإنجيل ويعظون الناس بالدين المسيحي”!!

وما كان من المسلمين إلا أن طردوهم من الجامع، لكنهم بدلا من التخلي عن نشاطهم المستفز للرأي العام المسلم في المدينة؛ اتجهوا إلى “سراي (= قصر) الملِك وجعلوا يطعنون على القرآن” الكريم، فحُكم عليهم بالسجن فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في نشاطهم، “فلم يَرَ السلطانُ بدًّا من نفيهم فأرسلهم إلى مرّاكش” عاصمة الموحدين بالمغرب التي كانوا يحكمون منها الأندلس. وحسب دي كاستري؛ فإن القديس الأسيزي كان قد أرسل في وقت سابق بعض الرهبان الفرانسيسكان إلى المغرب لتنصير المسلمين!!

وقد شهد شاهد من أهلها على أن التسامح الإسلامي وحسن المعاملة لغير المسلمين كان -ويا للعجب- أحد عوامل تفجر تلك الحركات المسيئة إلى مقدسات الإسلام؛ فهنري دي كاستري يقول: “إن مبالغة المسلمين في الإحسان إلى خصومهم هي التي مهدت للثورة عليهم، إذ أتاحت للمتعصبين أن يجمعوا أمرهم على العصيان، وأن يستغلوا الفرص للقضاء على الدولة التي منحتهم حق الحياة وحرية التدين”!!

سلاح جديد
بعدما بلغت الأندلس أوج نهضتها وعمّ البذخ والترف معظم أطرافها؛ استيقظ شيطان التفرقة والنُّعرة والحميّة الجاهلية في نفوس أهلها، فتفرقوا طرائق قِدداً وتمزقت الأندلس ممالك وإماراتٍ بين “ملوك الطوائف”، وإن عرف بعضها فترات سلم وهدوء كانت عبارة عن ومضات خاطفة في ليلٍ داجٍ.

ونتيجة لذلك، ونظرا لسمة التسامح السائدة وقتذاك؛ استغل المسيحيون واليهود الوضع فجعلوا ذلك مطية للطعن في الإسلام وأهله. ورغم أن جهود “حركة شهداء قرطبة” لم تنجح في تحويل تلك المطاعن إلى نشاط علني في فجاجته وسماجته؛ فإنه لم يكن ممكنا قطع الطريق على ظهورها في تيار ثقافي فكري يتّسم بالشعوبية والشعبوية ويُكنّ الحقد والبغضاء للمسلمين، ويتمثل أساسا في قساوسة ورهبان كانوا يوغرون صدور الشباب المسيحي ضد الإسلام ونبيه ﷺ.

وقد ظهر ذلك في الأدب الشعبي المسيحي وخاصة القصائد والأناشيد والأساطير، ويبدو أن ذلك كان نتاجاً للحرية الدينية التي استغل بعض المسيحيين المتعصبين ظلالها الوارفة لنسج أساطير حول الإسلام وشخصية رسوله الكريم، قائلين إن المسلمين يُجلّون “وَثَناً” يُدعَى “ماهوما Mahoma”. وقد أشار المستشرق الإسباني برنيت -في دراسته السابقة الذكر- إلى “أنشودة رولان” الفرنسية التي تتحدث عن الإسلام والقرآن، وهي قصيدة ملحمية تتكون من آلاف الأبيات كُتبت في نهاية القرن الحادي عشر بالفرنسية القديمة.

وصل الاستعراب الإسباني -في موجته الأولى- إلى أوْجه ما بين القرنين السابع والتاسع الهجرييْن/الـ13 والـ15م، حيث ألّف الإسبان أعمالا على شاكلة مناقضات جدلية لمهاجمة الإسلام، وكانت تلك المؤلفات -وفقا لمزاج تلك العصور المسيحية- مرتكزة على تصورات فردية، وعلى خرافات وأساطير مستمدة من المخيال الجماعي الإسباني أكثر منها مستندة إلى حقائق ووقائع يمكن الدفاع عنها.

ونذكر من تلك المؤلفات: ‘تاريخ إسبانيا‘ لملك قشتالة الملك ألفونسو العاشر (ت 683هـ/1284م) المعروف بـ”الحكيم” (El Sabio)، الذي خصص فيه لحياة النبي محمد ﷺ حيزاً كبيرا تراوحت مضامينه بين التحامل المتعصب وغياب الدقة العلمية في كثير من المعطيات. وقد ازدهرت في عهد هذا الملك العالِم -كما يقول المستشرق بالنثيا- حركة الترجمة من العربية إلى الإسبانية، حين أمر بترجمة كتب العلوم والتراث العربي الإسلامي -في الآداب والفيزياء والفلك- إلى الإسبانية واللاتينية.

بيد أن هذا الاستشراق سيشق طريقا آخر عبر أعمال الترجمة والجدل الديني ومحاولات التنصير، حيث نجد أن مصادر إسلامية غزيرة -في صدارتها القرآن الكريم والسنة النبوية- ستتم ترجمتها إما إلى القشتالية أو اللاتينية، وكذا معالجتها بالدرس والتحليل، مما سيساعد في انتقال هذا التراث إلى أوروبا التي أحسنت لاحقا الاستفادة منه في بناء ثقافة تعايش ديني دائم كما سنرى.

مسار مختلف
ولعل مَرَدُّ الانخراط في تلك الأعمال هو عودة التوسع الإسلامي القهقرى في الأندلس، وسيطرة المسيحيين على أهم المدن الأندلسية الشمالية عامة وخاصة طليطلة التي سقطت نهائيا سنة 478هـ/1086م، حيث أصبحت البؤرة الحيوية لهذا النشاط الاستشراقي عبر “مدرسة طليطلة” التي هي أول مدرسة للترجمة في الغرب الأوروبي، وقد أسسها اللاهوتي الكتالوني رايموند لول (ت 716هـ/1316م).

ويخبرنا الكاتب الفرنسي المتخصص في الأدب الكاتالوني القديم أرموند ليناريس (ت 1418هـ/1997م) -في بحثه ‘إقامة رايموند لول في بجاية‘- بأن لول هذا عند زيارته لبجاية في الجزائر خاطب الناس فيها بالعربية، مبينا لهم صدق المسيحية ومهاجما عقيدة الإسلام! ولم يألُ جهداً في تنصير المسلمين نظرا لسبره غور الثقافة العربية الإسلامية. وقد تقاطر على مدرسته بطليطلة القساوسة والرهبان الأوروبيون أفواجا وخصوصاً من فرنسا وإنجلترا.

وأدى ذلك إلى اختلاف الأفكار والحركات داخل مدرسة طليطلة، مما عزز الدفع بالاستشراق الإسباني في منحى الجدل الديني مع الآخر في غمرة اشتداد لهيب نار الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي، وتواصل النسخة الإسبانية منها المتمثلة في “حروب استرداد” الأندلس من المسلمين. وهنا برز مفهوم “سلاح الكلمة” والحجة والقلم متقدما -أحيانا كثيرة- على سلاح النبال والسيوف، وذلك بسبب اختلال ميزان القوى حينها لصالح المسلمين.

وقد عبّر عن هذا التحول أحد كبار رجال الكنيسة الإسبان خلال حكم دولة المرابطين، وهو بطرس المبجَّل (ت 551هـ/1156م) -الذي كان وراء إنجاز أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية (اكتملت سنة 538هـ/1143م)- بقوله: “إنني لن أهاجمكم (= المسلمين) كما يفعل الكثيرون منا بالسلاح، بل سأوجّه إليكم فقط كلمات ملؤها الهدوء والتعقل لا العنف”؛ وفقا للمؤرخ ريتشارد سوذرن (ت 1422هـ/2001م) في كتابه ‘صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى‘

ويستشف من كلام بطرس المبجَّل هذا أن الصراع الديني عند المسيحيين اتخذ مسارا آخر في العهد الثاني لرسوخ حكم المسلمين بالأندلس طوال القرن السادس/الثاني عشر الميلادي، وذلك بعدما فشلت الآلة العسكرية والخرافات والأساطير في تنصير المسلمين؛ إنه أسلوب جديد يمكن أن نطلق عليه “التنصير الناعم”.

تنكُّر مقيت
رغم كل الهجمات والثورات الدينية، ومحاولات التنصير، ومنهجية السب والشتم للنيل من الإسلام ونبيه الكريم التي تبناها قساوسة ورهبان؛ فقد قابلت أغلبية مسلمي الأندلس ذلك بمزيد من التسامح والاحتواء، واعتمدوا لذلك علم المناظرات الدينية مستلهمين نهجها من قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، ومن الخبرة النبوية المدوَّنة في كتب السنة والسيرة.

لقد كانت ظاهرة الجدل الديني من العوامل التي دفعت غير المسلمين في الأندلس إلى تعلم اللغة العربية والثقافة والعلوم الإسلامية؛ ولذا يذكر بالنثيا -في كتابه ‘تاريخ الفكر الأندلس‘- أن “الإعجاب بالثقافة العربية لم يكن السبب الوحيد لدراسة كتب المسلمين في جميع الأحوال، لكن بعضهم درسها من أجل التعلم وجمع الأدلة لمواجهة الإسلام وأتباعه”.

ولم يقتصر الأمر على غير المسلمين من سكان الأندلس بل شمل سواهم من أبناء جوارها الشمالي؛ فخلال الفترة الممتدة ما بين القرنين الخامس والثامن الهجرييْن/الـ11 والـ14م حضر العديد من الطلاب الأوروبيين إلى مراكز العلم الإسلامية بالأندلس والمغرب، فنهلوا واغترفوا من معين الطب والفلسفة والرياضيات وعلوم أخرى، وعايشوا ما كانت عليه البلاد من تعايش ديني لم يألفوه في عموم قارتهم الأوروبية. وبالإضافة إلى ما تقدم ذكره عن طلاب مدرسة طليطلة؛ نشير هنا إلى قساوسة وملوك توافدوا على “جامعة القرويين” في مدينة فاس -وهي عاصمة المغرب العلمية- لتعلم اللغة العربية.

وعلى مستوى الاستفادة العملية من تلك المعارف والخبرات؛ يفيدنا المؤرخ البرتغالي أدالبيرتو آلڤيش -في كتابه ‘البرتغال: أصداء ماضٍ عربي‘- بمحاولة بعض الممالك المسيحية الإسبانية تقليدَ النظام الإسلامي الخاص بأهل الذمة بعد انتهاء المسار الرئيسي من “حروب الاسترداد” منتصف القرن السابع/الثالث عشر الميلادي، وذلك لحماية الأقليات المسلمة ومنْحها حق المسكن وممارسة الشعائر الدينية والتجارة.

ويبدو أن الحكام المسيحيين غربي الأندلس (البرتغال) قد تأثروا بدورهم بالنموذج الأندلسي المتّسم بالتسامح الديني، إذ أقرَّ البرتغاليون الأوائل نظاماً قضائيّا شبيها بذاك الذي نظّم شؤون أهل الذمة في أحضان الدولة الإسلامية بالأندلس، وهو النظام الذي استلهمته أوروبا لاحقا لحل معضلة حروبها الدينية الداخلية بين الكاثوليكية والبروتستانتية، كما سنرى.

لكن هذه السابقة المستلهِمة للخبرة الأندلسية الإسلامية سرعان ما تحولت إلى نقيضها تعصبا دينيا واستئصالا للمخالفين للعقيدة من أبناء الوطن الواحد، بعد اكتمال “حروب الاسترداد” بإسقاط آخر معقل إسلامي في الأندلس الإسلامية وهو مملكة غرناطة سنة 897هـ/1492م، لمّا نقض ملِكا إسبانيا والبرتغال -إيزابيلا (ت 910هـ/ 1504م) وزوجها فرناندو الثاني الأرغوني (ت 922هـ/ 1516م)- اتفاقَ تسليم مفاتيح غرناطة، الذي نصت بنوده على عدم إجبار المسلمين على اعتناق المسيحية.

وقد شرح المؤرخ والأنثروبولوجي الإسباني خوليو كارو باروخا (ت 1416هـ/1995م) -في كتابه “مسلمو غرناطة بعد عام 1492م”- ذلك عبر تسليط الضوء على الدور الرئيسي فيه لأبرز رؤوس حركة التنصير القسري بالأندلس، وهو القسّ فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس (ت 922هـ/1517م) الذي تزعم التيار اليميني الكنسي الاستئصالي للمسلمين، فاتخذ التنصير القسري في عهده منحىً عنيفا كان المسلم معه يُخَيَّر بين التنصير أو السجن والتعذيب!!

ونتيجةً لتلك السياسة الشعواء؛ تمرد بعض المسلمين على جور حكام إسبانية المسيحية وكنيستهم الاستئصالية، فهاجر خلق كثير منهم إلى الشمال الأفريقي فتوطن الحواضر الكبرى بالغرب الإسلامي كتطوان وفاس وسلا والرباط وتلمسان ووهران والجزائر وتونس وطرابلس، وصولا إلى الإسكندرية بمصر وسواحل الشام. بينما “تنصرت” أغلبية المسلمين الذين اضطروا إلى البقاء ببلادهم، والذين أبدعوا -فيما بعدُ- لغة سرية خاصة بهم تُسمَّى “الإلْخمْيادو” (الأعجمية)، وهي لغة إسبانية مكتوبة بالحرف العربي.

وبتلك النتائج تنصيرا جبريا أو تهجيرا قسريا؛ يتضح مدى تنكُّر الملوك المسيحيين الإسبان ورجال كنيستهم -عندما تمكنوا مجددا من إحكام سيطرتهم على الأندلس- لإرث ثقافة التسامح الديني والتعايش السلمي التي رسّخها المسلمون على ثراها طوال ثمانية قرون، ليصدق عليهم بذلك قول أبي الفوارس التميمي البغدادي (ت 574هـ/1178م):
حَكْمْنا فكانَ العدلُ منّا سَجِيَّةً ** فلمَّا حَكَمْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أبْطَحُ!
فَحَــسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْــنَنا ** وكلُّ إناءٍ بالــذي فيه يَنْضَحُ

إرث ملهم
بالنظر إلى الشهادات التي أدلى بها المستشرقون الأوروبيون العارفون بأدق تفاصيل تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب، والتي سنورد مزيدا منها لاحقا؛ فلا عجب أن توصل باحثون في الدراسات الأندلسية -مثل حسين مؤنس (ت 1417هـ/1996م) في كتابه ‘فجر الأندلس‘ والدكتور أحمد شلبي (ت 1421هـ/2000م) في ‘موسوعة التاريخ الإسلامي‘- إلى أن التسامح والحرية الدينية اللذيْن عمّا أرجاء الأندلس كان لهما الأثر البالغ في ظهور الأفكار والفلسفات التنويرية وحرية التعبير الدينية في أنحاء أوروبا.

فقد وجدت أوروبا “عصر الأنوار” -في نموذج التسامح الديني الأندلسي ونظيره الإسلامي المشرقي الذي خبرته خلال حقبة الحروب الصليبية (491-690هـ/1096-1291م)- حلًّا نهائيا لمعضلة حروبها الدينية. وقد سبق ما أوردناه عن آلڤيش من حديث عن جذور ذلك التأثير الأندلسي التي قال إنها تعود إلى لحظة انتهاء “حروب الاسترداد”، ومحاولة بعض الممالك المسيحية تقليدَ النظام الإسلامي الخاص بأهل الذمة لحماية الأقليات المسلمة ومنحها حق المسكن وممارسة الشعائر في دُور الدينية والتعاطي المفتوح لأنشطة التجارة.

وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، أثيرت النقاشات عن ظاهرة التسامح الإسلامي بالأندلس لأول مرة من قبل فلسفات “عصر الأنوار”، وذلك بغية تشويه سمعة الملكية الكاثوليكية الإسبانية التي قامت بطرد سكانها من أصل مسلم غداة محاكم التفتيش الرهيبة؛ فقد فرضت إسبانيا المسيحية -حسب آلڤيش- قانونا قاسيا يعكس تطرفها ومفاده: “إمّا أن تدخل في ملتنا وإما أن تموت”!!

ورغم إثارتهم لتلك النقاشات في ذلك الزمن المبكر؛ فإن المفكرين الأوروبيين كانوا حينئذٍ يفتقرون إلى معلومات كافية عن الأندلس تمكنهم من خوض غمار البحث والتنقيب في هذه الظاهرة الفريدة بالنسبة لهم، وكان من الضروري انتظار عام 1178هـ/1765م حين ازدادت رفوف المكتبة الأوروبية بمصنف جديد اختار له صاحبه دينيس دومينيك كاردون (ت 1197هـ/1783م) عنوان: ‘تاريخ أفريقيا وإسبانيا تحت حكم العرب‘.

وفي عام 1203هـ/1791م -وفي عز الثورة الفرنسية- أتبعه كلاريس دي فلوريان (ت 1206هـ/1794م) بكتابه ‘خلفية تاريخية عن مسلمي إسبانيا‘ عن تاريخ الأندلس والوجود الإسلامي فيها، مقدما فيه ذخيرة تنويرية مهمة بشأن تجربة التسامح الديني في الأندلس الإسلامية، وذلك في وقت لا تزال فيه أوروبا في أشد حاجتها إلى مثل هذه التجربة.

مقارنة معبّرة
فقد كتب دي فلوريان في كتابه هذا قائلا: “علينا أن نلاحظ أن هؤلاء المورو (= المسلمون) -الذين يقدمهم لنا العديد من المؤرخين على أساس أنهم متوحشون ومتعطشون للدماء- تركوا معتقداتهم وكنائسهم وقضاءَهم للشعوب التي احتلوها”. ولم يفوّت دي فلوريان فرصة المقارنة بين الطريقة التي تُعُومِل بها مع المسلمين بعد إسقاط الإسبان غرناطة، والطريقة التي عُومل بها المسيحيون تحت الحكم الإسلامي حين كانوا سادة البلاد.

إن هذا التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية في جوارها الأوروبي -بما في ذلك أبعاده القانونية في معاملة المختلف دينيا أو طائفيا- هو الذي جعل فرناندو بيسووَا (ت 1354هـ/1935م) -وهو أحد جهابذة الأدب البرتغالي خلال القرن العشرين- يؤكد أن البرتغال شعب لاتيني/عربي، ويصدح بمقولته الذائعة: “إن العرب والمسلمين هم مَنْ علمونا”!

ومثل بيسووَا؛ يرى جاره الإسباني أميركو كاسترو (ت 1392هـ/1972م) -في كتابه ‘الواقع التاريخي لإسبانيا‘- أن إسبانيا الكاثوليكية قد “جحدت بموروثها الأندلسي الإسلامي واليهودي على حد سواء”، مشيراً إلى أن بلاده “كانت تنعم بالرخاء والتسامح خلال العهد الإسلامي أكثر من أي وقت مضى”!

وينقل المؤرخ آلڤيش -في كتابه السابق ذكره- عن المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي جاك أوغيستن بيرك (ت 1416هـ/1995م) -الذي كان يدرّس في جامعة الجزائر- قولَه: “أدعو إلى حوارات -وإن سادتها خصومات- على أن تتسم بالموضوعية، عوض الجهل المتبادل. كما أنني أدعو إلى أندلسيات بروح متجددة، تنقل إلينا منها -في الآن نفسه- الأطلال المتراكمة والأمل الذي لا ينكسِرُ”!!

كما يروي آلڤيش عن المؤرخ والشاعر البرتغالي المعاصر بورجيس كويلو قوله: “إن تحليل مسار إسبانيا والبرتغال -دون استحضار آثار الإسلام فيه- يُعد رغبة جامحة في تزوير الحاضر عبر نسيان الماضي”. ثم يخبرنا آلڤيش عن تحامل أوروبا الدائم على الإسلام وأهله قائلا: “ما فتئت أوروبا -على مَرّ الأزمان- تنظر إلى العالم الإسلامي بنظرة التعصب والهيمنة! ومن هناك تكوّنت لديها روح الحروب الصليبية، ثم الرغبة الجامحة في الهيمنة الاستعمارية”!!

تجاهل وتحامل
ورغم ما كُتب عن خبرة التعايش الديني والتسامح الاجتماعي التي شهدتها بلاد الإسلام، وخاصة الأندلس وما لها من فضل في تقديم العلوم والمعارف والخبرة الحضارية الراسخة لأوروبا فأسست عليها نهضتها الكبرى، بشهادة كبار المؤرخين الغربيين أنفسهم كما نقلنا نماذج يسيرة منه هنا؛ فإن هناك من المستشرقين من ينكر على المسلمين ذلك، ويتهمهم بعرقلة تقدم إسبانيا خلال العصر الوسيط، محملا إياهم مسؤولية الويلات التي كانت تتخبط فيها إسبانيا آنذاك. وتُقدِّم الرؤى المتحاملة لهؤلاء المستشرقين زادا مستمرا لتغذية نزعة الإسلاموفوبيا لدى تيارات اليمين الديني المتطرف بالجزيرة الإيبيرية وعموم أوروبا.

يقول خوان غويتيسولو غاي (ت 1438هـ/2017م) -في كتابه ‘في الاستشراق الإسباني‘- متحدثا عن عداء بعض المستشرقين الإسبان للإسلام: “لا ينبغي أن تندهش من العداء وجملة الأحكام المسبقة التي يبديها أغلب مؤلفينا حيال الإسلام”، وهم الذين وصفهم بأنهم “أصحاب المسلمات المركزية العرقية”. ولذا فلا غرابة أبداً أن يكتب الباحث الإسباني مارثيلينو مينينديث أي بيلايو (ت 1330هـ/1912م)، معقبا على طرد المسلمين من الأندلس: “إنني لا أتردد في اعتباره تحقيقا لقانون تاريخي حتمي، بل إنني لشديد الأسف لكونه قد تأخر إلى هذا الحد”!!

وينقل خوان غويتيسولو عن الروائي التشيلي خوسيه دونوسو (ت 1417هـ/1996م) أن “حضارة المسلمين الزائفة لم تكن أكثر من همجية”!! كما أن المُنظّر والفيلسوف الإسباني خوسيه أرْتيغا إي غاسيت (ت 1355هـ/1955م) حكم على الحياة الثقافية الإسلامية بكونها “جافة وعقيمة”!! ونفى أن يكون العرب قد شكلوا عنصرا أساسيا في الهوية القومية الاسبانية”.

ويضيف غويتيسولو أن مؤلفين من قبيل المستشرق الإسباني فرانشيسكو خافيير سيمونت (ت 1315هـ/1897م) “إنما يكتبون ويتصرفون وينطقون باسم المسيحية في مواجهة حضارة أخرى يعتبرونها حضارة متدنية”؛ فقد وصف سيمونيت الإسلام بأنه “الكابح الكبير لكل تقدم”. كما نذكر من بين هؤلاء الجاحدين المستشرقَ الإسباني المؤرخ كلاوديو سانتشيث ألبورنوث (ت 1405هـ/1984م) صاحب كتاب ‘إسبانيا: لغز تاريخي‘، الذي يُبخِّس فيه إسهام الأندلس الإسلامية في بناء حضارة إسبانيا.

وهكذا فإن وجود المسلمين واليهود بالنسبة ألبورنوث جعلت من الصعب تكوين “كيان إسبانيا”؛ فالنضال الطويل ضد المسلمين و”حروب الاسترداد” استنزفت كلها الكثير من الطاقة التي كان من الممكن تكريسها لأهداف أخرى مثل التنمية الاقتصادية. أما بالنسبة لليهود؛ فهو يصف دورهم في تاريخ إسبانيا بأنه كان سلبيا للغاية “إذ كانوا مرابين يعيشون على بؤس الناس”، ولذا رأى أنه كان من المفروض طردهم قبل سقوط غرناطة بكثير، كما فعلت دول أوروبية أخرى مثل إنجلترا.

اعتراف وإنصاف
وعلى النقيض من ذلك النفَس الجاحد لجميل الأندلس الإسلامية الحضاري على إسبانيا والغرب بأجمعه؛ تَصْدع كوكبة لامعة من المستشرقين الغربيين بشهاداتها مقرّة بالامتنان ومقدمة الشكر الجزيل لهذا الجميل. ففي معرض حديثه عن التسامح الإسلامي في الأندلس؛ كتب المستشرق الهولندي دوزي في كتابه ‘ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام‘ قائلا:

“إننا نرى أن الإسلام قد انتشر بسرعة مدهشة بين تلك الشعوب التي غزاها، وهذه ظاهرة لم يَرَ لها العالم مثيلاً من قبلُ، وهي تبدو لأول وهلة لُغزًا مُسْتَسِرًّا (= خفياً)، لا سبيل إلى حله وتعليله، لا سيما إذا عرفنا أن هذا الدين لم يُكرِه أحدًا على الدُّخول فيه! وقد كان محمد يأمر بالتسامُح والإغضاء [تجاه اليهود والمسيحيين]..، فمنحهم حريتهم الدينية على أنْ يدفعوا ما فرضه عليهم من الجزية، وزاد في تسامُحه معهم”.

ويقول دوزي أيضا: “إن المسلمين قد أبقوا سكان الأندلس على دينهم وشرعهم وقضائهم، وقلّدوهم وظائف حتى كان منهم موظفون في بلاط الخلفاء”. وبعده جاء الفرنسي هنري دي كاستري ليعترف بأنه في الأندلس “كانت حرية الأديان بالغة منتهاها؛ لذلك لما اضطهدت أوروبا اليهود لجؤوا إلى خلفاء الأندلس في قرطبة، لكن لما دخل الملك كارلوس مدينة سرقسطة أمر جُنده بهدم معابد اليهود ومساجد المسلمين”!

ويضيف في إحدى مقارناته التاريخية الجامعة: “ونحن نعلم أن المسيحيين إبان الحروب الصليبية ما دخلوا بلادا إلا وأعملوا السيف في يهودها ومسلميها. وذلك يؤيد أن اليهود إنما وجدوا مجيراً وملجأً في الإسلام؛ فإن كانت لهم باقية حتى الآن فالفضل فيها راجع إلى مُحاسنة المسلمين ولين جانبهم”!!

ثم يقرر دي كاستري -في خلاصة أوصلته إليها أبحاثه التاريخية- أن الدارس المنصف لا بد أن “يتحقق أن الدين الإسلامي لم ينتشر بالعنف والقوة، بل الأقرب للصواب أن يقال: إن كثرة مُسالمة المسلمين ولين جانبهم كانا سببا في سقوط المملكة العربية” في الأندلس وصقلية وغيرهما من المناطق الأوروبية!!

_________________________

* تنويه: نورد هنا العناوين الأصلية للمصادر الأجنبية -غير المعرَّبة- المذكورة في المقال بترجمة غير رسمية تسهيلا على القارئ غير الملمّ بلغاتها؛ وهي مرتبة حسب ورودها في النص:

1- Ángel Gonzales Palencia, Historia de la literatura arábigo-española.
2- Henri de Castro, L’Islam : impressions et études.
3- Juan Vernet, lo que Europa debe al Islam de España.
4- Sonia Aguilar Gómez, Memorial de los santos de Córdoba de san Eulogio de Córdoba.
5- Pierre Guichard, La España musulmana:Al-Andalús omeya (siglos VIII-XI).
6- Memoralis Sanctorum, Liber primus, edición de Córdoba.
7- Reinhart Dozy, Historia de los musulmanes de España.
8- Lévi-Provençal, La civilisation arabe en Espagne.
9- Llinarès, Dominique, Le sejour de Armond Lulle a Bougie. Et, Dominique Urvoy, Ramon Llule et L’islam.
10- Fernando de la Granja Santamaría, Estudios de la Historia de Al-Ándalus.
11- Julio Goytisolo Gay, Crónicas sarracinas.
12- Francisco Javier Simonet , Historia de los mozárabes españoles.
13- Julio Caro Baroja Los Musulmanes de Granada.
14- SÁNCHEZ-ALBORNOZ, Claudio, España: Un enigma histórico.
15- AMÉRICO CASTRO, La realidad histórica de España.
16- Adalberto, Alves, Portugal, um eco de um passado arabe.
17- Cardonne, Denis Dominique, Histoire de l’Afrique et de l’Espagne sous la domination des Arabe.
18- Jean-Pierre Claris de Florian, Précis historique sur les Maures d’Espagne.

Original Article