بهاء الدين نوري… و”ألم” تشيخوف

عبد الحسين شعبان

غادرنا قبل أيام الرفيق بهاء الدين نوري عن عمر ناهزَ الثالثة والتسعين عامًا، قضاها في معمعان النضال؛ وحسنًا فعل المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي حين نعاه ببيان أصدره بالمناسبة، وكم كان مناسبًا الاعتذار له في حياته وتكريمه بما يستحقّه وما قدّمه من أعمال وتضحيات خلال أكثر من سبعة عقود من الزمان تحت اسم “الشيوعيّة”، علمًا بأنّ إدارة الحزب الحالية غير مسؤولة بصورة مباشرة عمّا لحقه من أذى وإساءات واتّهامات تتحمّلها إدارات سابقة لقُصر نظر وضعف ثقة وعدم قبول للرأي الآخر، دون أن يعني ذلك أنّ بهاء الدين نوري لا يتحمّل قسطه من المثالب والعيوب والسياسات الخاطئة والممارسات السلبيّة في حياة الحزب، سواء في فترة إدارته أو في فترات لاحقة.

وقد سبق لي أن نوّهت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، وكان آخرها في المادّة الموسومة “مع بهاء الدين نوري في صومعته” (المنشورة على ثلاث حلقات في صحيفة “الزمان” العراقية بتاريخ 1 و2 و3 حزيران/يونيو2020)، إضافة إلى حوار مباشر بيني وبينه امتدّ لسنوات وكان آخر لقاء بيننا خلال زيارتي لمدينة السليمانيّة للمشاركة في المهرجان الذي أقيم احتفاءً بـ مظفّر النوّاب (شباط/فبراير/2020)، وحسبما أعتقد أنّه آخر حوار له قبل رحيله.

وإذ أستعيد مع القرّاء بشكل عام وجمهرة المعنيين بشكل خاص بعض صفاته ومواقفه، فالغرض إضاءة جوانب مهمّة من حياته وتاريخ مهمّ للحركة الشيوعيّة واليساريّة والوطنيّة العراقيّة، بما فيها ما يتمتّع به من مواصفات “القائد” من كاريزميّة وجُرأة وصلابة واجتهاد وقدرة على اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته بالخطأ أو الصواب، وهو ما جعله “مسؤولاً” للحزب وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين، فالفارق كبير بين من يحمل مؤهّلات قياديّة وبين مَن يكون في موقع المسؤوليّة ضمن نطاق مسلكي أو إداري أو روتيني.

من أهم مزايا بهاء الدين نوري:

أولًا – شجاعته غير المحدودة، فالشجاعة ليست بتحدّي العدوّ أو مواجهة الخصم فحسب، بل في عدم قبول الخنوع أو الاستكانة لمشيئة الإدارات الحزبية تحت ما يسمّى بالطاعة العمياء، وبالطبع فهناك فرق بين القناعة الواعية والناقدة والمسؤولة، وبين الطاعة الراضخة والمستسلمة والمتلقّية. وبغضّ النظر عن صحّة موقفه أو خطأه، فقد رفض كتابة رسالة “النقد الذاتي”، بل “الجلد الذاتي” حين عوقب في العام 1962، وظلّ مصرًّا على موقفه هذا لقناعته من جهة واعتزازًا بكرامته من جهة ثانية، خصوصًا وإن تلك الرسائل المذكورة، لا سيّما رسالة الراحل زكي خيري لا يمكن للمرء إلّا أن يشعر إزاءها بالحزن والفداحة لكثرة تقريعه لنفسه لدرجة “الافتراء” عليها، وهو ما كانت تفرضه التقاليد الحزبيّة البيروقراطيّة الأوامرية السائدة؛ وبتقديري أنّ المسألة ستكون خارج النطاق الفكري أو السياسي أو التنظيمي بقدر تعلّقها بالكرامة الإنسانية، فكيف إذا كانت “اغتصاباً” للقناعة خارج إرادة الحرّية؟

وثانيًا – استقلاليّته في رأيه، فقد كان باستمرار صاحب رأي، أخطأ أم أصاب، وكان يعبّر عن رأيه ويدافع عنه، حيث كان ضدّ عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدّمية مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1973، وظلَّ على موقفه هذا، في حين كان آخرون لا يستعذبهم حديث إلّا عن “الجبهة” (إظهار محاسنها وكبت كل صوت معترض عليها أو على أدائها) بمن فيهم بعض من تحوّل من الضدّ إلى المبالغة في التأييد، ثم الانقلاب عليها لاحقًا.

كما كان مقتنعًا بعدم الدخول في صراع مع الاتحاد الوطني الكردستاني، خلال فترة ساد فيها التوتّر والذي توّج في الهجوم الغادر الذي شنّه (أوك) ضدّ أنصار الحزب الشيوعي وراح ضحيّته أكثر من 60 رفيقًا، ولذلك وقّع مع ملّا بختيار القيادي “الأوَكي”، الذي تمّ تجميده مؤخراً بسبب نشره لمذكّراته التي تحدّث فيها عن جريمة قتل الأسرى الشيوعيين، اتفاقية ديوانه على الرغم من جريمة بشتآشان في حين كان الرأي السائد في إدارة الحزب عكس ذلك، وظلّ متمسكًا بموقفه بعدم توسيع رقعة الصراع، ولا سيّما فيما يسمّى بشتآشان الثانية التي سقط فيها بضعة عشرات آخرين من الرفاق وفي ظروف ملتبسة للتداخل الخارجي الإيراني.

وكان رأي بهاء الدين نوري بعد تدهور العلاقات الجبهويّة مع حزب البعث وشنّ الأخير حملات اعتقال دموية ضد الحزب الشيوعي وأصدقائه، الانسحاب والمواجهة ووضع خطة مع آراخاجادور وصالح دكلة لتشكيل تنظيم موازٍ للحزب باسم “حزب العمل” وبمنهج يساري على حدّ تعبيره، وبالطبع كانت مثل تلك الخطوة بمعرفة سكرتير الحزب عزيز محمد وتأييده المستتر لها، وهي مسألة أثارت التباسات بسبب غموضها وعدم وضوح توجّهها.

ولم يستسلم بهاء الدين نوري حين تمّ طرده من دون محاسبة وجاهيّة والتشهير به خارج ما يسمّى بالنظام الداخلي (الموضوع باستمرار على الرفّ)، بل حاول أن يطرح وثائق كان قد أعدّها للمناقشة وهي لتقويم السياسة خلال سنوات ما بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 ولغاية الثمانينات، وطالت لاحقًا المؤتمر الرابع للحزب (1985)، كما أصدر صحيفة باسم “القاعدة” وظلّ يحاول طرْقَ الحديد الحار خلال تلك الفترة الحرجة من حياته ومن حياة الحزب، وبإمكانات شحيحة ومحدودة جدًّا.

وثالثاً – اجتهاداته ومبادراته، فقد كان مجتهداً ومبادراً، ففي فترة إدارته حاول أن يتمايز، بل يميّز نفسه وإدارة الحزب عن برنامج الكونغرس الأول والمؤتمر الأول بقيادة الرفيق فهد في برنامجه المعروف باسم “ميثاق باسم”، خصوصاً بطرحه لأوّل مرّة في العراق شعار الجمهورية، فضلاً عن مبادراته العديدة. فعلى يده أُعيد إحياء تنظيم “اتحاد الطلبة”، وتأسّس تنظيم “الشبيبة الديمقراطية” وتنظيم “رابطة المرأة العراقية” و”حركة السلم” التي اكتسبت مديات بعيدة وواسعة لاحقاً، خصوصاً بُعيد انتفاضة العام 1952.

وكان بهاء الدين نوري من الشيوعيّين القلائل الذين عبّروا عن عدم تأييدهم لسياسة غورباتشوف والحزب الشيوعي السوفييتي المعلنة في مؤتمر الحزب السابع والعشرين العام 1986 بشأن البريسترويكا، واعتبرها منذ وقت مبكّر تقود إلى الانحلال، وذلك في كرّاس أصدره في حينها، وضمن هذا التوجّه كان رأي الرفيق خالد بكداش” الأمين العام للحزب الشيوعي السوري.

وبالمناسبة، إذا كانت قيادة فهد تعتبر بمثابة قيادة تأسيسيّة”، فإنّ قيادة بهاء الدين نوري تعتبر “استكماليّة” للتأسيس، خصوصاً بعد فترة هجوم شنّته شرطة التحقيقات الجنائية وبهجت العطيّة ضدّ الحركة الشيوعيّة، مثلما تعتبر قيادة سلام عادل “تطويريّة وانفتاحيّة وتسامحيّة” بعد فترة تشدّد وتزمّت وتخلّف سادت الأوساط الشيوعيّة، وكان للكونفرنس الثاني المنعقد في أيلول (سبتمبر) 1956 والتقرير الصادر عنه والموسوم “خطّتنا السياسية في سبيل التحرّر الوطني والقومي…” دوره الكبير في إرساء هذا التوجّه بالمؤهلات القيادة الفريدة التي امتلكتها قيادة سلام عادل وبمساهمة متميّزة من عامر عبدالله وجمال الحيدري.

ورابعاً – إرادته الصلبة التي لا تلين، ولعلّه من نمط الأشخاص الذين لا يعرفون معنى المستحيل أو الاستسلام، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد العملي والتنظيمي، وهكذا بدأ حياته الحزبية، فهذا الريفي المحدود الثقافة وابن البيئة الدينيّة المحافظة، جاء إلى بغداد وحمل مسؤولية إعادة بناء الحزب بعد إعدام الرفيق فهد ومحمد زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي ويهودا صديق وساسون دلال، واعتقال عدد من إدارات الحزب ومراكزه القيادية التي تشكّلت حينها، ليأخذ على عاتقه تلك المهمة الصعبة والقاسية، متحدّيًا شرطة التحقيقات الجنائية ومن ورائها المخابرات البريطانية وفي ظرف انتكاسة الحركة الشيوعية ونكوصها بعد موقفها من القضية الفلسطينية وتأييدها لقرار التقسيم.

وإذا كان بهاء الدين نوري وقع بأخطاء وارتكب حماقات تنظيمية عديدة قادت إلى انشطار الحزب، إلى “القاعدة” و”راية الشغّيلة” وكتل أخرى، فقد كان قلّة تجربته وشحّ خبرته من جهة، والتقاليد الشيوعية البيروقراطية السائدة آنذاك، يضاف إليها ضيق أفق ونقص معرفة، فضلًا عن ظروف العمل السرّي القاسية، هي وراء تلك الأخطاء الصميميّة والاجتهادات المغلوطة والتطبيقات البيروقراطية.

وفي أواسط الستّينات لعب بهاء الدين نوري دوراً مهمًّا وبارزاً في حياة الحزب، فقد عاد إلى بغداد سرًّا بعد انقضاء فترة عقوبته وإعادته إلى طاقم إدارة الحزب في العام 1964، وساهم مساهمة كبيرة في إعادة بناء التنظيم، ومِثل هذا الدور مشهود له أيضاً في نهاية العام 1971

ومطلع العام 1972 بقيادة باقر ابراهيم ورفقة آخرين، بعد أن تعرّض الحزب إلى حملة بوليسيّة شنّتها السلطة في العام 1970 إثر بيان 11 آذار (مارس) بين الحركة الكردية والحكومة العراقية.

وبعد فصله لم يترك الساحة ولم ينزوِ كما فعل بعض المخلوعين، بل عمل على إقامة صلات وعلاقات مع العديد من الكتل والمجموعات الشيوعية، حتى وإن اختلف معها بالرأي مثلما أجرى لقاءات مع العديد من القوى السياسية المعارضة. وبعد عمليّات الأنفال وإثر قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي ( 17 آذار/مارس 1988)، ولشعوره بثقل المهمّة واختلاف الظروف وتبدّل الأوضاع حاول التوجّه إلى المنفى والحصول على اللجوء في السويد، ومن هناك سعى لـ”تأسيس تنظيم ديمقراطي”، لمواصلة كفاحه في ظلّ المتغيّرات التي حصلت في العالم، وخصوصًا بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي.

وفي التسعينات نشر مذكّراته (طبعة أولى محلية في كردستان) عبّر فيها عن رؤيته إزاء تطوّرات الحركة الشيوعيّة ومواقفه منها بما فيها نقده لنفسه لتأييده خط آب اليميني 1964، كما انتقد إدارة عزيز محمد ومواقفها من الجبهة الوطنية والمؤتمر الرابع، وتعرّض لعمليّة طرده، وقبلها محاولة “اعتقاله” في كردستان أو “حجزه”، وقد سبق لي أن تناولت بعض القضايا الشخصية والإساءات الفرديّة التي وردت في المذكّرات والتي ذكرتها له، ولعلّها جزء من أمراض الحركة الشيوعية وجميع التنظيمات الآيديولوجيّة، حين يتم شخصنة الاختلاف وابتذال النقد وتشويه السُمعة، وتبقى آراؤه الفكريّة والسياسيّة جميعها تندرج في باب الاجتهاد والأخطاء الإنسانية، فالبشر خطّاؤون على حدّ تعبير فولتير، لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.

وإذا كانت الأهداف نبيلة، فينبغي أن تكون الوسائل كذلك، لأنّ الوسيلة جزء من شرف الغاية، وهل يمكن لوسائل خسيسة أو قبيحة خدمة هدف شريف أو غاية جميلة، وحسب المهاتما غاندي: “الوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة”، لترابطهما العضوي.

الأخطاء بحدود الاجتهاد تبقى مقبولة ولا عمل دون أخطاء، لكن هناك شطحات خارج الاجتهاد، لا سيّما حين تدخل في تعارض صميم مع ما يؤمن به المناضل، وكم استغربت حين قرأت تصريحاً لبهاء الدين نوري عشيّة الغزو الأمريكي للعراق، بدعوة الولايات المتحدة إلى تسليح 5000 آلاف عراقي معارض سيكون بإمكانهم الزحف إلى بغداد لإسقاط النظام الديكتاتوري.

وأظن أنّ تلك اللقطة الفاقعة لا تندرج في جدول الاجتهادات السياسية، وبكل الأحوال لا ينبغي أن تكون مثل تلك الشطحة المعيار الذي نقيس به نضال بهاء الدين نوري ومواقفه، فبعض من تغادرهم الأضواء تضيع بوصلتهم أحياناً، في هذا الموقف أو ذاك.

لقد ترك بهاء الدين نوري بصمةً مشرّفة في النضال الشيوعي والوطني وكان قامةً شامخة في الرجولة الشيوعيّة والاعتداد بالنفس والكرامة الإنسانية والجُرأة والشجاعة وتحمّل المشاق، ناهيك عن أنّه عاش ومات فقيرًا ، بقدر ما حاول أن يغنّي حياة الناس ويسعدهم بوطن حرّ، أخطأَ أم أصاب.

وإذا كنت أنسى، فلا أنسى (أبو سلام) يوم زرته في منزله بالسليمانية في العام 2008، ووجدته ممدّداً وبحالة يُرثى لها وهو يكتب لهذا وذاك طالباً “استحقاقه” في العلاج، وتلك مسألة إنسانيّة، وهو ما كتبته عن آرا خاجادور الذي ظلّ يعاني، بل ينزف في منفاه في براغ، وأكتب ذلك خارج دائرة السياسة والصواب والخطأ في المواقف، فالمسألة تتعلّق بالسلوك الإنساني السويّ لرفاق درب باعدت بينهم السُبل “ومضى كلٌّ إلى غايته … لا تقلْ شئنا فإنَّ الحظّ شاء” حسب الشاعر ابراهيم ناجي في قصيدة الأطلال بصوت أم كلثوم وألحان رياض السنباطي.

لا أدري كيف قفزتْ إلى ذاكرتي قصّة “الألم” للروائي الروسي المبدع أنطون تشيخوف، فقد ظلَّ بطلها غريغوري يعذّب زوجته ويسومها صنوف الألم والإساءة والتقريع، وحين داهمها المرض أسرع بنقلها إلى الطبيب على زلّاجة في جوّ شتائي عاصف ولمسافة نحو 20 ميلاً،

وفي الطريق حاول أن يطيّب خاطرها وظلَّ يُغمغمُ طوال الوقت مع نفسه مخاطباً ماتريونا: لا تبكي يا عزيزتي وقليل من الصبر… وسيكون كل شيء على ما يُرام…

ولم يتوقف من الحديث المتواصل لإظهار مشاعر الندم الحاد، في حين كانت زوجته في القسم الخلفيّ من العربة، وكرّر عليها الأسئلة من دون أن يحصل على جواب، فاستدار نحوها وتحسّسها فوجدها باردة وسقطت كقطعة خشب؛ حينها ندّت منه صرخةً: يا للمصيبة أنّها ميّتة…

هكذا مات بهاء الدين نوري في ضبابِ وعتمة، وقد ظلّ بعضهم مثل غريغوري يودّ أن يقول له شيئاً آخر كما قال لزوجته وهي تحتضر: سامحيني فأنا حزين وحزين جدًّا؛ ولكن لا جدوى من أشياء تؤجّل أو تأتي متأخّرة، فقُبلة اعتذار في جبين راحل لا تكفي، والمواساة بعد فوات الأوان لا قيمة لها.

لذكراه السلام…

ولإسمه البهاء الذي يستحقه…

فالإنسان هو مقياس كلّ شيء على حدّ تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.

المصدر