بايدن سيعيد لأميركا دورها القيادي العالمي

حميد الكفائي

دخل جوزيف بايدن التأريخ من أوسع أبوابه، فأصبح أول رئيس أمريكي يحصل على 79 مليون صوت في انتخابات رئاسية ينافسه فيها رئيس يسعى لتجديد ولايته، وفوز الرئيس الشاغل للمنصب متوقع في العادة، لكن بايدن، خبير السياسة الخارجية المجرب، الذي عركته السياسة وتجارب الحياة، ألحق هزيمة مرة بأعتى رئيس عرفته الولايات المتحدة.

هذا التصويت الشعبي الواسع، والفوز الكاسح، حتى في الولايات الموالية سابقا للحزب الجمهوري، مثل أريزونا وجورجيا، يمنحه تفويضا شعبيا كبيرا لقيادة الولايات المتحدة، ومعها العالم الحر، في أجواء من التنسيق والتعاون لتحقيق الاستقرار والسلام العالميين.

ولم يكن بايدن الأول في عدد الأصوات فحسب، بل أول رئيس يشغل المنصب بعمر 78، إذ لم يعرف التأريخ الأمريكي رئيسا بدأ عهده فوق السبعين، باستثناء دونالد ترامب.

انتخب بايدن عضوا في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير أول مرة عام 1972، وقبل أدائه اليمين الدستورية، تعرضت عائلته لحادث سير مروع قتلت فيه زوجته وابنته، وأصيب ولداه، بو وهنتر، بجروح خطيرة. حينها قرر بايدن أن يغادر السياسة، إذ رفض أن يشغل مقعده في مجلس الشيوخ، بل ظل في المستشفى إلى جانب ولديه الجريحين، وقال حينها “يمكن ديلاوير أن تنتخب سنتاورا جديدا، لكن وَلَدَيَّ لا يمكنهما أن يستبدلاني بأبٍ آخر”. بقي جو بايدن يرعى ولديه حتى جاءه كبار الأعضاء الديمقراطيين إلى المستشفى، وبينهم أدوارد كندي وهيوبرت هومفري ومايك مانسفيلد وأقنعوه بضرورة شغل مقعده في مجلس الشيوخ، وقد أدى اليمين الدستورية في المستشفى.

بقي بايدن في مجلس الشيوخ 36 عاما وأصبح رئيسا للجنة العلاقات الخارجية لسنين عديدة، وكان يعتزم الترشح للانتخابات الرئاسية بعد انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما، التي شغل فيها منصب نائب الرئيس لثماني سنوات، ، لكن مأساة عائلية أخرى ألمت به، إذ مات نجله، جو بايدن الثالث، المعروف باسم “بو بايدن”، بعد إصابته بسرطان الدماغ، فتخلى إثرها عن طموحه الرئاسي، فترشحت بدلا منه هيلاري كلنتن عن الحزب الديمقراطي. كان نجله بو بايدن رئيسا للسلطة القضائية في ولاية ديلاوير، وكان قبل ذلك قد خدم ضابطا في الجيش الأمريكي في العراق، ويعتقد أطباء بأنه تعرض إلى إشعاعات سامة أثناء الحرب تسببت في إصابته بالسرطان.

وبرحيل ولده، الذي كان يعتزم الترشح للرئاسة في فترة ما في المستقبل، وانتهاء ولاية الرئيس أوباما، قرر جو بايدن، الذي بلغ حينها 72 عاما، أن يتقاعد عن العمل السياسي. إلا أن مجيء ترامب وتغييره وجهة السياسة الأمريكية كليا، قد أقنع قادة الحزب الديمقراطي أن جو بايدن هو الوحيد الذي يمكن أن يلحق الهزيمة به. فهو خبير في السياسة الخارجية، وقد خَبَرَ العمل في البيت الأبيض لثماني سنوات، كنائب للرئيس، وفي مجلس الشيوخ لستة وثلاثين عاما، كعضو ورئيس للجنة العلاقات الخارجية، وهو أمريكي أبيض، لكنه كان نائبا لرئيس أسود، وهو في السبعينيات من عمره، ويمكن أن يقنع ناخبي ترامب المسنين بالتصويت له، وهو أبٌ وزوج مخلص، خلافا لترامب، ذي العلاقات النسائية المتعددة، ويمكنه أن يقنع النساء المستاءات من ترامب بالتصويت له.

كلفت قيادة الحزب الديمقراطي أحد قادة الحزب، جيمز كلايبيرن، بمهمة إقناع بايدن بالترشح. تمكن كلايبيرن من إقناعه بأن هذه المَهمة لا يرقى لها سواه. وافق بايدن وترشح في الانتخابات وفاز فوزا كاسحا، إذا حصل على 306 صوتا مقابل 232 لمنافسه. لكن ترامب لم يعترف بفوزه حتى الآن، والأسوأ أنه لم يسمح لدوائر المخابرات والجيش والأمن ووكالة الخدمات العامة (GSA) أن تتعاون معه وتطلعه على آخر المستجدات، في سابقة خطيرة في السياسة الأمريكية. في العادة، يقدم الرئيس الحالي التسهيلات المطلوبة للرئيس المنتخب، لكن ترامب برهن على أنه مختلف كليا عن الرؤساء والسياسيين كافة، فثقافة الانتصار التي نشأ عليها، كونه ورث ثروة هائلة عن أبيه، ونرجسيته المفرطة تمنعانه من الاعتراف بالهزيمة. وحتى في انتخابات عام 2016 التي فاز فيها، فإنه رفض الاعتراف بهزيمته في ولاية آيوا مثلا.

لكن بايدن سيتغلب على هذا الحظر المعلوماتي والمالي، فالرجل أمضى 44 عاما في المناصب السياسية العليا، ويعرف المسؤولين التكنوقراط جميعا بل إن بعضهم، ممن عمل مع الرئيس الحالي، كطاقم وزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس، قد تعاون معه. وبالإضافة إلى امتلاكه السلطة السياسية، فإن بايدن يمتلك سلطة معنوية أيضا، كونه حصل على أعلى عدد من الأصوات في التأريخ الأمريكي، وكان زاهدا بالمنصب، وقد رشح له بناء على مطالبات زعماء الحزب الديمقراطي.

لقد جاء به الرئيس السابق باراك أوباما نائبا له عام 2008، كي يسد ثغرة في خبرته السياسية، وتحديدا في السياسة الخارجية، فأوباما، البروفيسور في القانون والسناتور عن ولاية إلينوي، والشاب الحاذق والمتحدث اللبق، والأمريكي الأفريقي والمسيحي المنحدر من عائلة مسلمة، قليل الخبرة في العمل السياسي والحكومي، لذلك احتاج إلى خبير مجرب كي يقتنع به الناخبون الأمريكيون ويطمئنوا إلى أن سياساته تتخذ عن دراية وخبرة، اللتين وفَّرهما له جو بايدن. لقد واجه أوباما خصما سياسيا مجربا هو السناتور جون مكين، وعلى الأرجح، ما كان ليفوز في الرئاسة لولا وجود بايدن إلى جانبه. بإمكان بايدن الآن أن يضع كل هذه الخبرة الطويلة موضع التنفيذ، وقد جاء في وقته، فهناك جائحة تسببت في موت ربع مليون أمريكي خلال بضعة أشهر، ومازالت تصيب أكثر من 150 ألف أمريكي يوميا، وهي تتطلب إجراءً عاجلا لإيقافها. وهناك اقتصاد يتراجع، وعلاقات متأزمة مع الكثير من بلدان العالم، وسوف يحتاج إلى العمل عليها فورا.

مازال الرئيس ترامب يرفض الاعتراف بفوز بايدن، متمسكا بأكذوبة التزوير في الانتخابات لصالحه، والتي لم يصدقها إلا بعض أتباعه اليمينين المتعصبين، الذين تظاهروا السبت في واشنطن احتجاجا على “سرقة” الانتخابات. لكن ترامب سوف يخرج من البيت الأبيض بحلول العشرين من يناير المقبل، فالمؤسسات الأمريكية أقوى من أن يستحوذ عليها فرد، مهما أوتي من قوة ونفوذ.

وقد علق انتوني ساكاروجي، مدير الاتصالات في البيت الأبيض في عهد ترامب، ساخرا من ادعاءه التزوير أن “عدد الإصابات بكوفثيد 19 في طاقم ترامب أكبر بكثير من حالات التزوير في الانتخابات الأمريكية”! في كل الأحوال، فإن تنازل الرئيس الحالي للرئيس المنتخب ليس مطلوبا من الناحية القانونية، لكنه مهم أخلاقيا من أجل التأكيد على أن السيادة هي للشعب فقط وليس لرغبة الزعماء في البقاء في المنصب. وكما قال الرئيس أوباما، فإن على ترامب أن يعلم أن منصب الرئيس مؤقت، وأنه ليس فوق القانون، وعلى زعماء الحزب الجمهوري ألا ينساقوا مع ادعاءات يعرفون جيدا بأنها عارية عن الصحة.

وتعتبر رئاسة ترامب استثناء للقاعدة المتبعة في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وهي ممارسة الدور الريادي في العالم وقيادة العالم الحر عبر التشاور والتعاون مع حكوماته، واتخاذ مواقف موحدة أو متقاربة من القضايا الدولية. لكن هذا التقليد ضعف كثيرا في ظل رئاسة ترامب، لكنه سيعود في عهد بايدن.

تتميز العلاقات الخارجية الامريكية بقدر من الاستقرار، فتحالفاتها بقيت ثابتة ولم تخرج أي دولة من هذا التحالف، سوى إيران، بينما العكس قد حصل فقد انضمت العديد من دول أوروبا الشرقية وآسيا والشرق الأوسط إلى المعكسر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، مغادرةً المعسكر الشرقي بقيادة روسيا سابقا والصين حاليا. مصر مثلا خرجت من المعسكر الشرقي في ظل الرئيس السادات، ودخلت في المعسكر الغربي. وكذلك العراق الذي دخل في معاهدة الإطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة عام 2008، رغم عدم استقرار هذه العلاقة بسبب تأثير إيران التي لا ترغب أن ترى العراق دولة قوية ومستقرة.

بينما تميزت دول الخليج العربي بالثبات في سياساتها الخارجية وتحالفها مع المعسكر الغربي بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، ومثل هذه العلاقات القوية لا تتغير بتغير الإدارات الأمريكية. وقد رأينا عمق الالتزام الأمريكي بالعلاقة مع دول الخليج عند احتلال النظام العراقي السابق للكويت عام 1990 وتهديده المملكة العربية السعودية، إذ أرسلت الولايات المتحدة جيشها بدعم من دول غربية وعربية لإخراج العراق منه وإعادة النظام المطاح به إلى الحكم.

وكان الدور الأمريكي فاعلا في مناطق عديدة من العالم. الحرب الأهلية في البلقان مثلا، والمذابح التي تعرض لها أهالي البوسنة والهرسك مطلع التسعينيات، لم تنتهِ إلا بعد تدخل الولايات المتحدة التي أرسلت طائراتها عبر الأطلسي لردع القوميين المتعصبين الصرب.

مخطئ من يظن بأن العلاقات الامريكية مع دول الخيج العربي تتعلق بالنفط وشراء السلاح، فهذا الأمران لا يشكلان اعتبارا مهما في الحسابات الامريكية. النفط متوفر في بلدان كثيرة، والولايات المتحدة من أكبر منتجيه وهي ستكتفي ذاتيا من الطاقة بحلول عام 2030، وفي كل الأحوال فهي تشتري النفط من الأسواق العالمية حسب الأسعار السائدة، وتسورد النفط من المكسيك وكندا وروسيا وكولومبيا وفنزويلا بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية. ولو شكل النفط عاملا أساسيا في تقرير العلاقات الخارجية الأمريكية، لكانت قد حاولت أن تتحالف مع فنزويلا القريبة منها والتي تعاني من مشاكل سياسية واقتصادية كثيرة رغم ثرائها. وكان يمكن الولايات المتحدة أن تأتي بنظام موال لها في فنزويلا لكنها لم تفعل.

أما فيما يتعلق بالسلاح، فإن الولايات المتحدة لا تبيع السلاح إلا لحلفائها. وحتى الدول الحليفة تحتاج أن تبرهن على حاجتها إلى السلاح لأغراض دفاعية، وطالما ألغت صفقات سلاح كانت قد أبرمتها مع بعض الدول بمليارات الدولارات لإدراكها بأن السلاح سوف يستخدم خارج الأهداف المعلنة، أو أنه سوف يستخدم ضد حلفائها أو بما يعرض مصالحها للخطر، وخير مثال على ذلك هو إلغاء صفقات السلاح المتفق عليها مع إيران بعد عام 1979، واضطرار إيران لشراء قطع الغيار لأسلحتها الأمريكية من وسطاء، بينهم إسرائيل. كما ألغت صفقات أسلحة ومساعدات عسكرية لباكستان بعد إخلالها بوعدها بعدم تصنيع السلاح النووي، وسماحها لجماعات إرهابية منها جماعة حقاني وطالبان، بالعمل على أراضيها، وقد حصل هذا في عهد ترامب عام 2018، بل وحتى عندما أعلنت الحرب على الهند عام 1971، لأنها أرسلت جنودا من قواتها إلى الهند بصفة مجاهدين! وقد حصل هذا على الرغم من أن باكستان كانت حينها، وبقيت وما تزال، دولة حليفة للولايات المتحدة.

العلاقات الأمريكية مع إيران في ظل رئاسة بايدن لن تتغير حتى يغير النظام الإيراني الحالي سياساته، أو يتغير من الداخل، عبر قناعة سياسية أو انقلاب أو ثورة شعبية. والسبب هو أن النظام الحالي يعادي الولايات المتحدة كدولة ونظام سياسي وثقافة، ويعادي معها كل حلفائها، بما في ذلك معظم الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة أو المنسجمة معها.

كثيرون يتوهمون بأن بايدن سوف يعود إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015 في ظل رئاسة أوباما، لكن هذا لن يحصل لأن إيران خالفت الاتفاق، وأنتجت كميات أكبر من المنصوص عليها في بنود الاتفاق، وتدخلت كثيرا في شؤون دول حليفة للولايات المتحدة كالعراق، وواصلت تأسيس المليشيات المسلحة، وأخذت تعبث بالأمن العراقي وتعتدي على المصالح العراقية والأمريكية وتطلق الصواريخ على السفارة الأمريكية، في خرق صارخ للقانون الدولي، وهذا الأمر لا يمكن أن تغفله الولايات المتحدة. إيران في ظل نظام ولاية الفقيه هي الدولة الوحيدة التي تعتدي على البعثات الدبلوماسية الأجنبية، سواء على أراضيها أو في دول أخرى، بتحريض مسلحيها على مهاجمتها، ويعتبر هذا بمثابة إعلان حرب على الدول المعنية، بل حتى أثناء الحرب بين دولتين، فإن البعثات الدبلوماسية تبقى محمية، كما حصل خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما بقيت سفاراتا البلدين تعملان. إيران تنتهك القانون الدولي مستغلة التزام الدول الأخرى به.

أمام بايدن مهامٌ عسيرة تحتاج إلى معالجات سريعة وأولى هذه المهام هي التعامل مع أزمة كوفيد 19 الخطيرة التي ترعب الشعب الأمريكي وتعطل اقتصاده، والتي عجز الرئيس الحالي عن تقديم أي حلول لها. سيحاول أيضا إصلاح العلاقة مع الصين، رغم أن هذا الأمر سيكون صعبا لأن الصين أصبحت منافسا اقتصاديا لأمريكا وأي تعاون يجب أن يعود بالمنفعة عليها أولا ولا يشكل خطرا عليها مستقبليا. كما سيعزز من علاقات بلاده مع أوروبا التي تدهورت في عهد سلفه، وكذلك دول الشرق الأوسط، كمصر وإسرائيل والأردن ودول الخليج العربي، وأخيرا السودان، وهذه تحالفات استراتيجية طويلة الأمد لا تتأثر كثيرا عند تغير الإدارات الأمريكية.

المصدر