بالدينار الرخيص يُريد هواة سياسة باسم الإصلاح الاقتصادي … الفتك بالناس والاقتصاد والدولة؟!

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي
بالدينار الرخيص يُريد هواة سياسة باسم الإصلاح الاقتصادي …
الفتك بالناس والاقتصاد والدولة؟!

تلجأ الدولة أحيانا إلى سياسة خفض قيمة عملتها الوطنية أمام العملات الأجنبية لضمان المنافسة السعرية لمنتجاتها الوطنية في الأسواق الخارجية، والحدّ من الواردات عند خسارة منتجاتها الوطنية المنافسة السعرية أمام المنتجات الأجنبية في الأسواق الداخلية. هذه السياسة ستكون ناجحة إذا توفر شرطاها: الأول وجود فائض كاف من مُنتج محلي يجري تصديره ولا يُقلل من عرضه في السوق وبالتالي ارتفاع أسعاره (في العراق لا يوجد هذا المُنتج، ناهيك الحديث عن الفائض منه)، والثاني وجود بديل محلي للمُنتج المستورد في حال انقطاع توريده أو ارتفاع أسعاره (في العراق لا يوجد هذا البديل، خاصة وأن الحديث بالأساس يجري عن الغذاء والدواء). إذا فُقد هذان الشرطان أو أحدهما، فستكون سياسة خفض قيمة العملة الوطنية ذات آثار كارثية، وإليكم تسعة منها.

أولا. خطة “الرجل العبقري!” … الذي أذل وأفقر وقتل شعبه:
في سيرته الذاتية لتوزيره، يدعي علي علاوي وزير المالية أنه “رابع رجل عبقري” في العالم، وعلى أساس هذه القناعة توجه لصديقه محافظ البنك المركزي مصطفى مخيف حاملا حقيبة دولارات نفط قليلة، وفي مُخيلته خطة لإنقاذ غذاء ودواء وكساء شعبه، لقيت تجاوبا غير مشروطا من صديقه:
1. يبيع علاوي دولاراته النفطية القليلة لمخيف بدنانير كثيرة.
2. يقوم مخيف بطبع دنانير ورقية كثيرة، مقابل دولارات نفط علاوي القليلة.
3. يقوم علاوي بدفع رواتب مواطني حكومة شعبه بدنانير مخيف الورقية.
4. يهرول المواطن بدنانيره الورقية صوب التاجر لشراء حاجاته، ولكنه يجدها مرتفعة الثمن.
5. نسى علاوي أن جميع مفردات احتياج المواطن مستوردة، وهذا الاحتيال فضحه.
6. سقطت خطة علاوي في فخ عبقريته: لا يوجد مُنتج محلي لتصديره بالدينار الرخيص.
7. يهرول التاجر بديناره الورقي صوب مخيف لشراء الدولار لاستيراد حاجات المواطن.
8. يُحيل مخيف التاجر إلى مصارف أحزاب السلطة لشراء الدولار ويجده مرتفع الثمن.
9. يرفع التاجر من أسعار حاجات المواطن المستوردة لكي يشتري الدولار الغالي.
10. رجع المواطن إلى بيته حاملا بجيبه مفردات ذلّه وجوعه وإفقاره وقتله المتناقصة.
11. يجد المواطن أهل بيته في حالة عوز وانكسار وغضب وتأهب لما هو قادم.
12. تدارس المواطن وأهله الحال وبان أنهم ضحية، وعلى عرش مصارف الأحزاب يتربع جلادهم.
… يقال أن الناس خرجت هائمة على وجهها للبحث عن سبب إذلالهم وقتلهم البطيء، وعثرت بالصدفة على علاوي بصحبة مخيف متلبسان برقصة “التانغو” على حلبة … مصارف السلطة!

ثانيا. تقول “أنا أفترض، وعندي قناعة، وأشتغل بالسر … إذن أنا فاتنة ومرغوبة”:
“ذكر بيان لوزارة المالية أنها تدرك تماما أن هناك عددا من التدابير الداعمة التي يتعين اتخاذها لزيادة الآثار الايجابية لتعديل سعر الصرف، ولكنها لم تستطع القيام بذلك علنا بسبب حساسية الموضوع” (“صوت العراق”، 11/1/2021). نحاول ترجمة لغة البيان إلى لغة الواقع:
1) الآثار الايجابية: تفترض الوزارة خطأ بوجود آثار ايجابية لخفض سعر صرف الدينار، فهو يُقوّض قوته الشرائية الداخلية والخارجية، ولا يشجع على تصدير المُنتج المحلي لعدم توفره، ويزيد من أسعار السلع المستوردة، ويقود إلى إفقار الناس!
2) زيادة الآثار الايجابية: لدى الوزارة قناعة بوجود إمكانات لزيادة الآثار الايجابية المُتخيلة، ولكنها لم تَدُلنا على مصادرها وآليات استخدامها ومن سيستفيد منها: المواطن أم الاقتصاد الوطني!
3) التدابير الداعمة للآثار الايجابية: تفترض الوزارة امتلاكها تدابير زيادة الآثار الايجابية، ولكنها ترفض الإعلان عنها وستستخدمها سرا!
4) إعادة قراءة البيان بعد ترجمته: أجزم وبثقة عالية أن بيان الوزارة موجه للبرلمان عشية مناقشته مشروع الموازنة المالية لتمريرها، بعرضها الكثير من مفاتنها المخفية عن أشعة الشمس!
… المشتهية والمستحية … تحصل دائما على ما تريده وترغب بفعله!

ثالثا. التذاكي والتغابي … سلاح منْ لا مهنة تخصصية له في إدارة الاقتصاد الوطني:
وصف الاقتصادي العراقي البارز الدكتور صبري إسماعيل زاير رئيس الحكومة المستقيلة بـ “التذاكي” في إدارته للاقتصاد الوطني، وقد استعرت منه هذا التوصيف في تحليلي للاختلال المنهجي الفاضح في إدارة تطوير صناعة النفط بالمنهاج الوزاري لتلك الحكومة للسنوات 2018-2022. وعلى المنوال نفسه سأطلق توصيف “التغابي” على وزير المالية علي علاوي، في محاولته لتبرير خفض سعر صرف الدينار، حيث يقول في بيانه الملحق بمشروع قانون موازنة 2021 (ص9): “إن أفضل الحلول في الوقت الحاضر هو سعر (1450) دينار للدولار الواحد كونه يخدم القطاعات الاقتصادية المختلفة حيث تأثرت القدرة التنافسية الاقتصادية تأثرا خطيرا بسبب المغالاة في انخفاض سعر الصرف، مما أثر أيضا على تدفق الاستثمارات الأجنبية خارج قطاع النفط”. يفترض “علاوي”، أن انخفاض سعر صرف الدينار هو سبب “بلاوي” اقتصادنا الوطني:
1) “القدرة التنافسية الاقتصادية”: منذ بداية الثمانينات ولغاية يوم علاوي هذا، أكلت الحروب الخارجية والداخلية وبؤس وفساد الإدارة هذه القدرة، والدينار ليس بريء من هذه الجريمة الاقتصادية فحسب، وإنما أيضا ضحية لها. أيها “المتغابي” عليك أن تفهم إحدى بديهيات الاقتصاد: عندما لا يوجد إنتاج سلعي (صناعي وزراعي) كبير في البلاد، ستكون القدرة التنافسية لاقتصادها معدومة!
2) “تدفق الاستثمارات الأجنبية”: لا تأتي الاستثمارات الأجنبية إلى بلد طارد بنفسه لرأسماله الوطني، ولا يوجد يقين بمستقبله الاقتصادي والسياسي، وتحكمه شلة من المتذاكين والمتغابين، ولا يشجع تدفقها خفض سعر صرف الدينار مادامت هذه الأسباب قائمة (وهذه بديهة اقتصادية ثانية)!
3) الدينار الرخيص: في ظروف انعدام الإنتاج السلعي، وما يصاحبه من بطالة واسعة وتدني أجور العمل، سيجعل الدينار الرخيص البضاعة المستوردة غالية الثمن لا تطالها يد الغالبية العظمى من شعبنا، والعكس صحيح (وهذه بديهة اقتصادية ثالثة)!
… أوجه نداء للبرلمان وللطامحين بالفوز في الانتخابات القادمة: أوقفوا المتغابي عند حدّه، بإطلاق سراحه من مهنته غير التخصصية الحالية كوزير للمالية!

رابعا. ابشروا … النعيم قادم … مع المشتقات الفيزياوية:
التحق وزير الصناعة بركب الهواة والطامعين ببركات مشتقات الهندسة المالية لصاحبها وزير المالية، وأن استخدامها بمعية “المشتقات الفيزياوية” (تحصيله العلمي بكالوريوس فيزياء) سيُجدي نفعا في تطوير الصناعة الوطنية، ووضع خطته الإستراتيجية الآتية (“الأخبار”، 17/1/2021):
1) “المنافسة”: “إن تغيير سعر صرف الدولار أتاح الفرصة للمنتج العراقي أن يكون منافسا حقيقيا”. أولا عليك أن تُنتج هذا المُنتج، وثانيا عليك التحقق من إمكانية كسبه المنافسة، وثالثا عليك أن تُقرر الأسواق الخارجية أو الداخلية التي ستتنافس فيها، ورابعا عليك قراءة حكاية الراعي وجُرّة الدهن!
2) “الجدوى الاقتصادية”: “هناك شركات أجنبية وإقليمية تبدي رغبتها للدخول والتعاون بالسوق العراقي بسبب وجود هذه الزيادة في أسعار السوق مما يؤدي إلى نوع من الجدوى الاقتصادية في إنشاء هذه المصانع داخل العراق”. أولا أنت حيرتني بما تُريده من استخدامك لمُشتق تغيير سعر صرف الدولار: هل تريد الجدوى الاقتصادية لمصانعك أم لمصانع دول إقليمك؟، وثانيا إن جلبك لمصانع دول إقليمك سيُشعل الحرائق في المنافسة التي اكتسبها مُنتجك الوطني بفعل استخدامك لهذا المُشتق المالي، وثالثا عليك قراءة حكاية البدوي وجرو الضباع!
3) الخصخصة: تتضمن ورقة مشتقات الهندسة المالية وموازنة 2021 استخدام مُشتق خصخصة صناعة النفط ومؤسسات شركات القطاع العام. أخبرنا أيها المُختص بعلم المشتقات الفيزياوية، أولا متى ستستخدم هذا المُشتق قبل أو بعد تطوير مصانعك الوطنية باستخدام مُشتق تغيير سعر صرف الدولار؟، وثانيا منْ هم المشترون لثروة النفط وهذه المصانع؟ وثالثا أين سيذهب العاملون في هذه المصانع؟ ورابعا عليك قراءة حكاية خصخصة المصانع الروسية في تسعينات القرن الماضي (إذا رغبت سأُزودك بها)!
… يكتب وزير الصناعة في سيرته الذاتية لتوزيره: “حاصل على شهادات عالمية في مجال التخطيط الإستراتيجي للشركات وإدارة المخاطر والأزمات”. اللهم أحفظ العراق وأهله من مشتقات الخطط الإستراتيجية للفيزياوي، وراعي الغنم وجُرّة دهنه، والبدوي وضبعه، والروسي وخصخصته!

خامسا. مدّوا رجليكم على كّد غطاكم … وإلا سيخطفه ويَفُرُّ به … “الصياد”:
“طالب (113) نائبا، في وثيقة موقعة من قبلهم، بتخفيض سعر صرف الدولار إلى (1300) بدلا من (1450) دينارا، المُعتمد في موازنة 2021” (“صوت العراق”، 27/1/2021). أُخاطب قادة الكتل السياسية البرلمانية، وأدعوهم لمد أرجلهم (طموحهم السياسي) على قدر غطاهم (رصيدهم الانتخابي) الحالي، لأن الصياد (وزير المالية) قد نصب لكم فخاخا مُحكمة ستسقطون فيها، وسَيَفُرُّ هو بغنائمه وتبقون مع … خيبتكم تندبون حظكم العاثر.
سيتضرر ناخبكم من فخ خفض قيمة الدينار (ارتفاع أسعار غذاءه ودواءه المستوردة)، ولا يوجد مُنتج وطني يمكن تصديره بالدينار الرخيص لكسب المنافسة في الأسواق الخارجية، ولا أتوقع أبدا أن يرى هذا المُنتج النور خلال سنة الموازنة أو بعدها بأي مقدار يُبرر خفض قيمة العملة الوطنية. أما عن مكاسب الصياد من هذا الفخ، فاسألوه عنها تحت قبة البرلمان، وعلى الرغم من أنني لم أكن يوما ناخبا لكم، ولكني كباحث علمي وطني أرى إن إسقاطكم الصياد في فخه سيكون انتصارا سياسيا لكم، وللمنطق الاقتصادي السليم، ولمصالح ناخبيكم الفقراء الذين هم أهلي:
عندما يكون قرار خفض قيمة الدينار بدون مبرر اقتصادي عقلاني ومُضّر بالمواطن ولا يستفيد منه الاقتصاد الوطني، عندها سيكون صاحب القرار متواطئا مع الغير لجني مكاسب غير مشروعة من هذا القرار!
إن قرار خفض قيمة الدينار لن يجعل من الأصول الرأسمالية لشركات القطاع العام، التي يُزمع الصياد خصخصتها، ذات جاذبية للمستثمر الأجنبي. ربما يريدها رخيصة بالدولار لنفسه ولشركائه المستثمرين الداخليين، لتفصيخها إلى خردة وبيعها في الأسواق الخارجية!
ربما لا هذا ولا ذاك، كل ما في الأمر أن الصياد رجل فاقد للرشد الاقتصادي … هو لا يريد لنفسه شيئا من الدينار الغالي أو الرخيص … هو يريد العبث به ليس إلا!
… في الانتخابات القادمة، إن لم توقفوا الآن الفساد المُحتمل و/أو العبث الشاخص للعيان، سيصعب على ناخبيكم الحاليين وقتها فَهّمَ واستيعاب وقبول تبريركم لهزيمتكم أمام صياد واحد … وأنتم (329)، أو على أقل تقدير الــ (113) شجاعا منكم … مضروبا في عدد ناخبيكم!

سادسا. بؤس العلم … الذي يُبرر تجويع وموت الناس:
يستخدم علم الاقتصاد سياسة خفض قيمة العملة الوطنية لتعديل الميزان التجاري للدولة إذا كان مُختلا لصالح الواردات: تشجيع الصادرات إذا كان هناك فائضا من المنتج المحلي، والحَدَّ من الواردات إذا كان لها بديلا محليا، وكل هذا من خلال آليات المنافسة السعرية.
في قرار خفض قيمة الدينار، لا يوجد مُنتج محلي يمكن تصديره، ولا يوجد بديل محلي للمُنتج الأجنبي المستورد، وبالتالي ستكون نتيجة هذا القرار تجويع وموت الناس إما بارتفاع أسعار المستورد وإما بانقطاعه، وهذا المستورد بالأساس هو غذاء ودواء الناس. أراد وزير المالية إنقاذ حكومته من الإفلاس المالي بتجويع وقتل شعبه باسم علم الاقتصاد، وباسم هذا العلم “القاتل!” يُريد البعض تبرير سياسات التجويع والقتل، بوقوفهم بوجه المطالب المشروعة (ومنها مطالب ثلث عدد أعضاء مجلس النواب) بالعدول عن هذه السياسة غير المسئولة:
عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر: “من الصعب إعادة سعر الصرف لوضعه السابق.. وأن الأسواق المالية ستستقر بعد تمرير الموازنة… واعتماد سعر الصرف الجديد بشكل رسمي سيزيل المخاوف وينعش الأسواق” (“صوت العراق”، 28/1/2021).
مستشار رئيس الحكومة مظهر صالح: “الحديث عن وجود مخاوف من حدوث قفزة بسعر صرف الدولار بعد إقرار الموازنة… مبالغات لا وجود لها” (المصدر نفسه).
رأي لاقتصادي أكاديمي: “إن التراجع عن السعر الجديد للدولار، سيفقد الدينار الثقة من قبل المتعاملين” (وسائل التواصل الاجتماعي).
كتب أحد رجال الأعمال الشباب في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي: “لعب بينا طنب الوزير.. دمرنا بهذا القرار. أنا شخصيا صاحب عمل حر في قطاع الدواجن، لن أتمكن من العمل بسبب صعود الدولار أصبح عملي خسارة قاتلة لأن جميع المواد العلفية مستوردة ولا يوجد لها بديل محلي”.
… دكتور بَشّرْ شنهي نتيجة العملية الجراحية؟ “العملية نجحت … ولكن المريض انطاكم عمره … إثباتا لصحة نظرية الوزير علي علاوي وصحبه من مُنظري العلم الزائف للاقتصاد”!

سابعا. قصة “دينار ودستور وبرلمان” … في ماراثون خفض القيمة:
1) الدينار: كان عَلَمَا اقتصاديا لبلادنا، وكان يذبح الطير كما قال أهلنا، وكان وزنه يساوي وزن (3,6) “رئيس أمريكي!” كما شهدنا، حتى جاء “صخام” العراق ووضع صورته عليه، بحيث إذا أردنا شراء “رئيس أمريكي!” واحد علينا أن نزن حزمة كبيرة من الصخامات. في حكومات المُتحاصصين، عَلت قامة علمنا بعض الشيء وأكتسب ثقة الفقراء، حتى أتي هاوي حبال الهندسة المالية ليقوم … بكسر كبرياءه وثلم قيمته!
2) الدستور: كان مدنيا والسيادة فيه للقانون، حتى جاء الصخام وحوله إلى نظام داخلي لحزب واحد شبه عسكري. بعد ذهاب الدستور الصخامي، حصلت البلاد على دستور متوازن بتنوعه، والسيادة فيه للشعب وللقانون، حتى جاء “مختار العصر وقاضيه” ليقوما … بشق ثوبه وثلم قيمته!
3) البرلمان: كان ديمقراطيا نسبيا، والتمثيل فيه محصور بالنُخب والعائلات السياسية، حتى جاء الصخام وحوله إلى سيرك يصرخ هواته بُكرة وأصيلا “صخامي … شكَد أنت رائع … صخامي”. في برلمان حكومات المُتحاصصين، شغل المُتحاصصون أماكنهم الأبدية فيه، ولا يُسمح لغيرهم بالجلوس تحت قبته، وفَرّْخ “بيوض الميزان”، وأبقى سيف مختار العصر وقاضيه مُسَلَّطا على رقاب ساكنيه لمنعهم من … رتق ثوب دستورنا أو تجبير سارية العلم الاقتصادي لبلادنا!
4) القيمة: وجدت نفسي ليلة رأس السنة الجديدة 1975 مُفلسا لتدبير عشاءها، وتذكرت احتفاظي بورقة واحدة حمراء فئة (5) دنانير عند مغادرتي العراق للدراسة. ذهبت بها مُتوجسا إلى أسواق المواد الغذائية بالعملات الأجنبية الصعبة في موسكو، لاكتشف مقبوليتها العالية وأن لها قيمة كبيرة، ودبرت عشاءا فاخرا. أُريد سؤالك يا هاوي الحبال المالية: هل افتخرت وتمتعت يوما بهذه … القيمة؟
… طاب ثُراك شاعرنا الكبير معروف الرصافي، وعذري عن عبثي السياسي بمفردات قصيدك، هو تعبنا من عبث الركض الطويل المُحَرّْف صوب معاني “علم ودستور ومجلس أمة” من بعدك:
“دينار ودستور ومجلس نواب … كل عن الرقم الصحيح مُخَفّضُ”!
ثامنا. عاف المستشار مهنة الاستشارة … ودخل على خط تسويق التجارة:
بدلا من أن يُشغل الكاظمي البلاد والعباد ونفسه بالتحضير للانتخابات المبكرة خلال بضعة أشهر من تشكيل حكومته، قام بإبعاد هذا المطلب الشعبي المغموس بدماء شباب العراق، وأشغل الجميع بموازنة لا يقبلها العقل أو المنطق الاقتصادي السليم. واجهت هذه الموازنة عاصفة من النقد العلمي والسياسي، وطالب أكثر من ثلث نواب الشعب بتخفيض نفقاتها إلى النصف، وفي خضم هذا الجدل الحامي الوطيس، ينبري مستشاره الاقتصادي مظهر محمد صالح ليعظ الناس:
لا تخافوا من قرار خفض قيمة الدينار، إذ سيستقر سعر صرفه بعد اعتماده رسميا في الموازنة (“صوت العراق”، 28/1/2021). الناس يا الكاظمي لا تخاف من صعود أو هبوط سعر الدينار في السوق … الناس أفقرها هذا القرار وأوقف ودمر أعمالها!
لا تخافوا من قرار فرض الضرائب على الرواتب، فهو إجراء مؤقت (“الأخبار”، 2/2/2021). الناس يا الكاظمي لا تخاف من هذا القرار … الناس تخاف من تاريخ سلوك وزير ماليتك الموّلع بالإفلاس المتعمد والدائم لأعماله التجارية الخاصة!
ليس لديّ من تفسير لسلوك المستشار المُضلل للناس سوى القول:
باع نفسه للشيطان (الحاكم) بدوافع سلوك انتهازي أو تخريبي محض، وتاريخه الوظيفي شاهد على خدمته لجميع حكومات ما قبل 2003 وما بعدها!
ربما يعلم المستشار أن هذه الموازنة غير المعقولة ستقصم ظهر الكاظمي وحكومته سياسيا، سواء عن طريق الانتخابات أم بطريق آخر … وهو يريد حصته منها!
… يا لبؤس واعظ يفتي بحلال … سرقة وإفقار وتدمير قوت وأعمال الناس؟!

تاسعا. دينار الفقراء … منْ سينصره؟
أفضى قرار خفض الدينار إلى إفقار الفقراء وإفلاس وتوقف الأعمال الصغيرة والمتوسطة، جراء ارتفاع أسعار الغذاء والدواء ومستلزمات الإنتاج المستوردة بأكثر من 30%. وقد واجه هذا القرار معارضة سياسية قوية من قبل (113) نائبا، وكتلة الفضيلة وكتلة الفتح، والأخيرة هددت بعدم تصويت جميع نوابها على موازنة 2021 “ما لم تُضف عدة مواد إليها، منها جعل سعر صرف الدولار في الموازنة (1119) دينارا مقابل الدولار” (“صوت العراق”، 10/2/2021).
ومع ذلك، مازال أصحاب القرار (رئيس الحكومة ووزير المالية ومحافظ البنك المركزي) مصرون على قرارهم المُجحف بحق المواطن الفقير وأصحاب الأعمال المُنتجين في الاقتصاد الحقيقي. وقامت اللجنة المالية النيابية بنصرة أصحاب القرار، عندما قام عضوها جمال كوجر (كتلة حزب الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) بتحدي المعترضين على إفقار الناس بقوله: “إن سعر الدولار سيبقى على ما هو عليه الآن (1450 دينارا) لحين مجيء موازنة أخرى… لأن التغيير المفاجئ سيربك السوق وسيتسبب بالقلق للناس من قرارات البنك المركزي” (المصدر نفسه).
مناصرو خفض قيمة دينار الفقراء يريدون “رتق” ثوب الموازنة بمقص “شق” ثوب المواطن وثوب الاقتصاد وثوب الدولة. إلا منْ ناصر ينصر دينار الفقراء والاقتصاد … ويُلّبسه ثوب العافية المتين؟
… قال الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري: “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه! وقال إمام الفقراء علي بن أبي طالب مُعقبا على قول رفيقه الغفاري: “لا خير فينا إن لم نقلها … ولا خير فيكم إن لم تسمعوها”!
……………………………………………………………………………………
د. جواد الكعبي، 14 شباط 2021
[email protected]

المصدر