اللغة العربية وواقعية ادب العصر (اقتباس)

اللغة العربية وواقعية ادب العصر (اقتباس) د. رضا العطار

كلمة الواقعية مشتقة من الواقع, وهي معالجة للأشياء والناس والمشكلات وايجاد الحلول وفق الواقع وليس وفق الخيال. هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال, وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية. ولا يستطيع احد منا ان يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من اهواء واغراض وبين واقع الحال في الاشياء والناس والمجتمع والفن.

بل ليس هذا ضروريا او حسنا لأننا لا نجد موضوعا ما في هذه الدنيا الا ونحن خلفه باحساسنا وعيننا وضميرنا. وجميع هذه الكلمات تلابس الذاتية اكثر مما تلابس الموضوعية. ولكن هناك اشياء تجنبها المذهب الواقعي ونجح في تجنبها وادى هذا التجنب الى زيادة في الفهم واخصاب في الفن.

وان اول ما تجنبه المذهب الواقعي هو ذلك الاسلوب الموروث بشأن اختيار الكلمات المذهّبة وتأنقات الفصاحة والبلاغة. تجنب الجملة الزاهية والكلمة اللامعة كما كان اسلوب العصر الماضي قبل الواقعية, بل كما كان اسلوب الكتاب عندنا في اللغة العربية أبان القرون الوسطى. وكما رفضت الواقعية الكلمة المذهبة والجمل المتأنقة كذلك رفضت الاستسلام للغيبيات . فليس الفقر مثلا حكم الاقدار على الناس, وانما هو مرض يمكن معالجته. وليس الانسان اسيرا في هذا الكون يخضع للطبيعة, انما هو سيد الكون يغير الطبيعة. وليس الانسان عاجزا يحب ان يرضى بعجزه انما هو قادر على ان يحيل عجزه الى علم ومعرفة يسيطر بهما على حظوظه.
واخيرا ليست الواقعية هي طراز فني للتفكير والتعبير تهدف الى المحال انما هي تهدف الى خدمة الانسان في معالجة مشاكله الاجتماعية كالفقر والجهل والمرض وكذلك السياسية كمشاكل الرق والحرب والاستعمار. ليست الواقعية ممارسة الفن للفن. الواقعية هي اسلوب الاديب الجديد. ادب العلم والانسانية معا, هي ممارسة الفن لخدمة الانسان.

عندنا في البلاد العربية كتاب يصفون شعراء العرب في القرون الوسطى بأسمى الاوصاف. وانهم البلاغة كلها والادب كله. ليس افصح من البحتري ولا اعجب من ابن الرومي ولا اعظم من المتنبي. اجل, ويصفون خلفاء المسلمين ويتغنون ببذخهم و ترفهم, كان هارون والمأمون يعيشان في ظل خمسة الاف جارية يرفلن في ثياب السندس والاستبرق ويختلن في الجواهر النفيسةعلى حساب قوت الشعب الفقير, وبرهانا على العظمة وسمو العيش , يصفون لنا بركة ماء قد وضع المسك بدلا من الطين على حافتها. وكل هذه الاشياء يصفونها بكلمات متأنقة كلها فصاحة وبلاغة.

لكن في العراق ( والكلام لسلامه موسى ) يوجد كاتبا واقعيا يدعى دكتور علي الوردي .
هذا الكاتب قد وضع مؤلفاته موضحا فيها ان شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة. وكانوا سببا في شن القتال بين القبائل. يحرضون على الثأر والانتقام ولا يدعون الى السلام. وقد ذمهم القرآن ووصفهم بالغواية.
ثم كان شعراء العرب ايام الخلفاء في دولة الاسلام متسولين. يبيعون اشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم. يمدحون بلا سبب ويقدحون بلا حق. كانوا قد نزلوا بلاء على المجتمع العربي ولم يشذ منهم ويسمو عليهم سوى ابو العلاء المعرّي الذي كان ينبه الشعوب العربية الى ضلال الحاكمين والدجالين من المتدينين. ومن مكرهم جميعا، انهم كانوا يخطفون لقمة العيش من افواه الفقراء المساكين – – – ما زال معظم كتابنا رومانسيون يتبعون الخيالات الكاذبة والاحساسات البدائية عندما يكتبون.
لكن الباحث العراقي الدكتور الوردي رجل موضوعي و واقعي, يقول ان الخلفاء المسلمين كانوا يظلمون شعوبهم – ويجدون من الشعراء مؤيدين لهم مادحين لظلمهم.

الواقعية تعني ان التأليف الفني ليس هو البراعة في محاكاة القدماء في اسلوبهم وافكارهم وكلماتهم واهدافهم انما هي النظر الموضوعي الى المجتمع ومحاولة الوصول الى كنه حقائقه والتعرف الى اسباب سعادته وتعاسته. والكاتب الواقعي لا يستسلم للاوهام بان يكون موضوعه فخما يتناول اميرا او قائدا ويكتب الاضاليل والاكاذيب عنه. لأن واقعيته قد نقلت اهتمامه من هذه الموضوعات الفردية الى الموضوعات التي تخص مئات الالوف من الكادحين من ابناء الشعب، الى الانسانية.

فهو مثل تولستوي , يعالج الحرب كما هي في واقعها ونتائجها ودمائها وامراضها واغراضها العليا اذا كانت حرب نضال ضد العدوان او اغراضها السفلى اذا كانت حرب استعمار وعدوان. وهو يسأل : ما هي القيمة الانسانية في اية حرب ؟ .

عندما يتحدث احد عن عبقرية المتنبي, الذي وقف حياته على مدح الامير سيف الدولة الحمداني, ان اسأل : اما كنا نحب المتنبي ونعجب به اكثر لو انه كان قد الف قصيدة في وصف حياة عبد قد اشتراه سيده وهو في العاشرة من عمره, ثم خصاه كي يعيش مع حريمه طيلة عمره ؟ واحب شوقي اكثر لو ان الشاعر الذي وقف حياته على مدح الخائن عباس الخديوي, كان قد الف قصيدة عصماء في حق عرابي الذي دافع عن استقلال مصر ودفع حياته مكافحا حكم الاستبداد ؟

ولا تزال اثار هذه اللمسات موجودة لحد الان في بعض بلداننا العربية. فشؤون الادب العربي ليست بمستوى الادب العالمي الذي اوجد الاسلوب الواقعي في الادب. لكن ظهر في مصر في القرن الماضي طائفة من الشباب المتنور, قد اوجدوا الاسلوب الواقعي في الكتابة بعد ان امضوا بعض سنين حياتهم في السجون, فكانت مدارسهم التي اختمروا فيها مصدر الانفجار.

الانسان العادي في نظامنا الطبقي : العامل والعاملة والزوج والزوجة والطالب والشاب والشيخ والمعلم واليتيم والارملة, كل هؤلاء وغيرهم يكدحون كي يعيشوا بعيدين عن خطر المرض والجوع والفقر والحرب. ولا يمكن ان يعرف الكاتب في عصرنا مشكلات هؤلاء الا اذا درس الاقتصاد والاجتماع.

ألا يدخل علم الاقتصاد بيت الزوجة عندما تشتري رغيف الخبز في الصباح ؟
ألا يدخل علم الاجتماع بيت الزوجة عندما يرميها الزوج بالطلاق ؟
ألا يدخل كلاهما السجن عندما يتعطلان عن العمل ويسرقان ؟
ألا يدخل كلاهما القبر عندما يجوعان هما وابنائهما حتى الموت ؟

الادب الواقعي هو الذي يعطي الجواب لأنه يعرف الاصل والفصل والاسلوب والهدف. ان النظرة الواقعية للكون والطبيعة والانسان هي نظرة التطور. كان الكاتب النرويجي ابسن هو اول كاتب واقعي ظهر في القرن التاسع عشر لكن اليوم عندنا كتاب واقعيين اعمق منه, فقد فتحوا الابواب السرية للمجتمع واوقفونا على ما فيه من خبث ولئم واوهام وخرافات وعذاب وهوان . كما اوقفونا على احلام جديدة, اكاد اقول انها رومانسية جديدة. تبشر بمستقبل زاهر الذي ينتظر الشعوب.

الرومانسية الجديدة هي رومانسية برناردشو , حين يرسم لنا خيالا عن – السبرمان – اي الانسان الاعلى . او حين يهدف الى مطامع انسانية جليلة. مؤكدة على التربية الشخصية. ولو انه عاش الى زماننا، لألّف درامة عن السفر الى المريخ.
ان العلم يعلمنا رومانسية جديدة ولكن هذه الرومانسية لن تنسينا واقعنا الاليم بل تحتم علينا الاخذ بنظام العدل الاجتماعي الذي يكفل القضاء على الفقر والجهل والمرض.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامة موسى.

المصدر