محمد صابر عبيد يتكرّر لفظ "الرؤية" في مستويات كثيرة من التعبير للدلالة على معانٍ متنوّعة بحسب السياق الذي يأتي به اللفظ، فهو في السياق اللغويّ التقليديّ يعني القدرة على الإبصار،إذ يستخدم الإنسان قدراته البصريّة بوساطة "العين"، كي يرى ما تصله طاقة العين من مرئيات عن طريق الرصد والملاحظة والتصوير، وربّما يكون هذا المعنى هو أبسط معاني الرؤية المتداولة والمتعارف عليها في حقل الدلالة، غير أنّ لفظ "الرؤية" في سياقات تعبيريّة ومفهوميّة واصطلاحيّة أخرى يتجاوز هذه المعنى الحسيّ البصريّ، وينفتح على قيم دلاليّة أوسع وأعمق تتّصل بتشكيلات ذات طبيعة أدبيّة أو فلسفيّة أو فنيّة خاصّة، وكلّ رؤية من هذه الرؤيات لها وضع تشكيليّ وتعبيريّ ودلاليّ نوعيّ تختلف فيه عن غيرها، على الرغم من أنّها جميعاً تنضوي تحت فضاء مفهوميّ عام واحد لكنّها تختلف من الصيغة والتكوين وطبيعة الأداء والنتائج. تمثّل الرؤية السرديّة وجهة النظر التي يعتمدها الراوي في مواجهة الحدث السرديّ ومقاربته وعرضه والتدخّل في مجرياته، إذ يقوم الروائيّ أو القاص باستثمار الشخصيّات لتحميلها هذه الرؤية عن طريق شخصيّة رئيسة محوريّة أو توزيعها بين مجموعة من الشخصيّات، بحسب طبيعة الرؤية ومقاصدها السرديّة وهويّتها وحركيّتها ونوعيّة أدائها، إذ تتّصل الرؤية السرديّة بالموضوع أو الأطروحة السرديّة المركزيّة التي ينوي الكاتب طرحها في خطابه، إذ قد تكون رؤية أيديولوجيّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة في المقام الأوّل، ومن ثمّ تخضع لسياق رؤيويّ آخر يتعلّق بالرؤية الفنيّة الجماليّة التي تجعل من الفضاء السرديّ الحامل للرؤية فضاءً أدبياً، يتجاوز عتبة المستوى الحكائيّ التقليديّ الصرف للرؤية في مضمونها الموضوعاتيّ العام. في حين تمثّل الرؤية الفلسفيّة قدرة الفيلسوف على إنتاج طاقة التفلسف عن طريق اللعب العارف والهادف والواعي والمتمرّد والمغامِر باللغة، وتحريضها على الارتفاع بالنسق الفلسفيّ لبلوغ طاقة الاستجابة لهذه الرؤية وتمثيلها في محاور المدوّنة الفلسفيّة، فلا تتوقّف الرؤية الفلسفيّة عند حدود رصد الفكرة وتسجيلها على شكل جمل تعبّر عنها، بل لا بدّ أن تشحن هذه الجمل بما أمكن من الثراء والغنى تتخصّب فيها الفكرة وتنفتح على آفاق لا متناهية، تتيح للمتلقّي تطوير وعيه بحساسيّة رؤيويّة جديدة لا يمكنه العثور عليها في مكان آخر. تحظى الرؤية السينمائيّة التي تقوم باستعارة رواية مكتوبة لتحويلها إلى فيلم بعناية الأدوات السينمائيّة التي تتمركز في النهاية حول رؤية سينمائيّة محدّدة هي رؤية "المُخرِج"، الذي يحوّل الرواية أو السيناريو السينمائيّ إلى مساحة لتنفيذ فكرته بصرف النظر عن رؤية الكاتب الحاضرة في روايته، إمّا عن طريق التركيز على ما يراه ويعتقد أنّه يدور حول فكرته أو تخومها والضغط عليه بقوّة فيكبّره ويوسّع مدياته أكثر من أيّ شيء آخر، وإمّا يختار ممثلاً استثنائياً لدَورٍ معيّنٍ يطغى على الأدوار الأخرى والممثلين الآخرين ويستحوذ على عناية المشاهدين بصرف النظر عن جوهر الفكرة، إذ قد تكون الفكرة شرّيرة لكن الممثل البارع بوسعه أن يغيّب الأفكار الأخرى ويستظهر الفكرة التي يمثّلها، وبذلك تحوز الرؤية الإخراجيّة في الفيلم على مساحة العرض السينمائيّ وينجح المُخرِج في فرض وجهة نظره على العمل، بحيث تكون رؤيته الإخراجيّة رؤية أخرى لا علاقة لها برؤية الكاتب وهي تتقيّد بلغة المكتوب والمدوّن بين صفحات الرواية، لا صورة العرض التمثيليّ على شاشة السينما. قد تمتدّ فعالية الرؤية في نسقها الشامل كي تشمل كلّ نشاط خلاق في الحياة، ولا تكتفي بالعمل في جانب من جوانبها من دون آخر، فالحياة بجوانبها ومفرداتها وحيثياتها كافة لا بدّ وأن تحمل رؤيات خاصّة تجعل من كلّ رؤية منها أداة للمعرفة والفنّ والجمال، وأيّ ممارسة حيويّة على مسرح الحياة تفتقر للرؤية في مجالها فهي بلا قيمة وتندرج في سياق العبث غير المجدي، إذ تتعزّز إنسانيّة الإنسان بالرؤية التي يعبّر فيها عن خطورة وجوده في الحياة، حتى إذا فقد هذه الرؤية أو أهملها ليكون عنصراً زائداً لا تأثير له ولا أثر في ساحة الوجود البشريّ، وعندها يمكن معاينته بوصفه إنساناً ميتاً حتّى وإن لم يمتْ مادياً بينما يوصف بالموت في الحياة. لا يمكن للرؤية أن تكون واضحة وقابلة للتداول من غير أن تُكتَب أو تُصاغ أو تنبني أو تُهندَس بأعلى درجات الوضوح والتبنين والتشكيل، لذا فهي غالباً ما تقترن بـ"المنهج" الذي يستحيل الاستغناء عنه لأجل صوغ الفكرة بطريقة شديدة التماسك والصيرورة، لتكون العلاقة بين الرؤية والمنهج على أشدّها وتقود إلى نتائج يقينيّة يصعب دحضها أو التقليل من علميّتها ومعرفيّتها، كلّما كانت الصلة بين الرؤية والمنهج وثيقة ومتداخلة وعالية التخصيب والتفاعل والتفاهم، فالمنهج هو الذي يمنح الرؤية القوّة المعرفيّة اللازمة للمضي في تنفيذ إجراءاتها على أرض الواقع، وهو الضوء الذي ينير درب الرؤية كي تسير في الطريق الصحيحة المؤدّية إلى نتائج واضحة وذات قيمة في نهاية المطاف. إنّ هذا الاقتران الحيويّ بين الرؤية والمنهج هو أساس تكوين النظريّة على الصعيد العلميّ الرياضيّ، فلا نظريّة بلا رؤية واضحة وشاملة وحيويّة وخصبة ومتماسكة وقويّة، وبلا منهج يعمّق هذه الخصائص والسمات والصفات ويضعها على سكّة العمل الصحيح والمناسب في أعلى درجة من درجات التلاؤم والتفاعل والتطابق.
العراقالمصدر