الطب والشعر / ذكريات حلوة ومرّة

الطب والشعر / ذكريات حلوة ومرّة
د. حسن كاظم محمد
المشهد الأول
في ستينيات القرن الماضي كنت طبيبا عاما ممارسا في قضاء قلعة دِزه، من منطقة بشدر. كان أول تعيين لي بعد التخرج من كلية طب بغداد. المدينة كانت قريبة من الحدود العراقية الإيرانية وأغلب سكانها يتعاملون بتجارة التبغ كون قراها مشهورة بهذه الزراعة.
تعرّفت على أهالي المنطقة الطيبين بمختلف مشاربهم. أحد شيوخها الأفاضل أصبح صديقا لي وكنت أزوره في ديوانه وقت الفراغ، والذي كان مكتظاً بأهل المنطقة والمارة. كان يتجاوز عمره الأربعين عاما، كريماً، خلوقاً ذا هيبة، يحب الأطباء والمثقفين ويتكلم العربية.
في إحدى الجلسات سألني هل ترغب بشئ نزوده لك لتوصله إلى الأهل كالعسل والمكسرات الطازجة، شكرته على كرمه وأخبرته أن كل شيء متوفر في بغداد.
بعد فترة وجيزة زارني الشيخ في داري مع ثلاثة من جماعته، وبعد الترحاب والضيافة، قدم لي لفة من القماش “تفضل دكتور أتمنى أن توافق ذوقك أنت عزيز”. وعند فتحها، فإذا هي بجلد نمر ناعم وجميل ومدبوغ بمهارة جيدة. دُهشت لهذه المفاجأة وشكرته كثيرا، وسألته كيف حصلتم عليه. أجاب بعض الحيوانات المفترسة في المنطقة المحيطة تقوم بمهاجمة قطعان الماشية أحياناّ. وأشار إلى أحد الجالسين “هذا الشاب هو الصياد وجد أن نمرا يراودها ليلا ليشرب الماء من النهر المار في القرية، وفي إحدى الليالي المقمرة أنجز عملية صيده وما يحتاج بعدها وحتى دباغة الجلد”. شكرتهم جميعا، ولجمالية الهدية واعتزازا بمهديها احتفظت بها مع ما يتطلب من عناية بها لحد الآن حافظا للذكرى.
المشهد الثاني
بعد فترة وجيزة أصيب الشيخ الكريم بمرض الملاريا من النوع الخبيث، تسمى الدماغية، وكنت طبيبه المعالج. ولتدهور حالته الصحية، أرسلت الحكومة العراقية طائرة هليكوبتر لأخذه إلى بغداد للعلاج. ودّعته عند باب الطائرة متألما فقد يكون آخر توديع له. مع الأسف الشديد توفي بعد بضعة أيام في بغداد وجُـلب جثمانه إلى مدينته وكنت في مقدمة المستقبلين، رحمة الله عليه.
المشهد الثالث
مرت على الحدث المذكور أكثر من أربعين عاما، وكنت أعمل في أربيل كاستشاري في جراحة الكسور والعظام. دعاني أحد شيوخها الكرام لدعوة غداء في إحدى القرى خارج أربيل، وقد كان مدعواً إليها من أحد معارفه والذي لا أعرفه شخصياً، ولكنها عادة متبعة أن يدعو من يرغب بدعوتهم.
وصلنا القرية بعد ساعتين بالسيارة عبر منطقه ذات طبيعة خلّابة. أثناء الجلسة جلس بجنبي شيخ القرية وصاحب الدعوة وبعد الترحيب والتعريف، سألني ” بلا زحمه أنت دكتور حسن كاظم من بغداد الذي كنت طبيب قلعة دزه وعالجت شيخها؟” أجبته متعجبا “كله تمام بس إنت احچيلي شنو القضية؟”
قال “أنا الإبن الأصغر لذاك الشيخ المرحوم وإخواني الكبار قالوا لي الكثير عن علاقتك الطيبة والحميمة مع الوالد”. صافحته، قبّلته وقبلني مع علامات الألم والأسى على تباشير الوجهين وأصبح صديقا خلال فترة وجودي في أربيل لحين عودتي إلى بغداد، وكان نعم الصديق ولا عجب إن الولد على سر أبيه. يا حلاوة الصدفة والدنيا تدور ومعها أحداثها.
القصيدة
الزمن يمشي وْيمر يِـنطينه دَرْس وعِـبـَر
بالـقريه مَـر الـنمر وحصّل غَـنيمه وظُـفر
يـوم ويـجـي باچـره يكـررهه وَزْوَد وَمَـر
صـيّـاد حَـل الـوضع بْلـيله ضواها الگُـمر
تْـقَـدَّم هـديّه الجِـلـد مـن صاحبي الـمُعـتَبر
∞ ∞ ∞ ∞
هِـيّه بعـوضه وْبَـله تـنقـل مرض لـلبـشر
لو صابـتـك تِـبـتـلي يا ويـل مِـنِّ الخـطَــر
تْـمـص دمّـك وتِـعـتدي وِنـته عليك الحذر
ما مِش عَـجَـب بالحَـدث هيّه طبيعة حَشَر
∞ ∞ ∞ ∞
دِنيه وچنهه مجرشه مطحون بيهه بْـحَجَر
محـلاها لحـظة صدف جابـت الراح وعُـبر
عَـرّفني هـوّه الإبن الذاك الشهِـم والـفَـخَـر
واسـيـته وِبْـكل أسـف دِنـيانه تِـنهه بسفَـر
وإلى اللقاء

المصدر