أطباء العراق والمواطنين وأزمة الأخلاق!

علاء كرم الله

قبل الدخول في صلب الموضوع لا بد الى أشارة مؤلمة وحزينة باتت تشكل وصفا للعراقيين وحياتهم وتهدد مستقبل هذه الأمة بكاملها!، وهي أنهيار المنظومة الأخلاقية والتربوية لدى الكثير الكثير من العراقيين، وكلما يتقادم الوقت وتستمر ظروف الحياة العراقية على حالها بلا أية تغيير على المستوى السياسي والأقتصادي تزداد رقعة الأنهيارالأخلاقي والقيمي لدى العراقيين. ان أخطر أزمة يعيشها العراقيين دون أن ينتبهوا أليها، هي أزمة الأخلاق!، فأزمة الكهرباء يمكن حلها بعقد مع احدى الشركات العالمية الكبرى وكذلك باقي الأزمات الأخرى يمكن حلها أذا توفرت الهمة والجدية والنوايا الحسنة والوطنية الصادقة لدى المسؤول. ولكن قل لي وأجبني كيف سنصلح وكم من الوقت سنحتاج لكي نعيد بناء المنظومة الأخلاقية والفكرية والتربوية للأنسان العراقي التي أنهارت وضاعت منذ عقود، حتى صار من الصعب بل ومن المستحيل أعادتها!. فليس جديدا أو مستغربا ما يتعرض له الأطباء في العراق من أعتداءات مباشرة بالأيدي وبالضرب أو أسماعهم الكلمات المعيبة والسب والشتم، فالأمر أصبح متوقعا ويمكن أن يتعرض له الطبيب العراقي في أي وقت وفي أي مستشفى أو صرح طبي ما دام هو يعمل في العراق وفي هذه المهنة وفي ظل هذه الظروف!، كما أن الطبيبات لسن بعيدات عن مثل هذه الأعتداءات وعن السب والشتم (والفشار) حتى!، وكثير ما نقلت لنا الفضائيات مشاهد وصور من الأعتداء على الطبيبات بالضرب القاسي من قبل المراجعين وبلا أدنى درجة من الأنسانية وعدم الرجولة!. ولا بد هنا من التوضيح بأنه (بقدر ما أظهرت وبشكل جلي جائحة كورونا عن تدني الوضع الصحي وأنهيار الخدمات الصحية في العراق فأن جائحة كورونا أظهرت أيضا أنهيار المنظومة الأنسانية والأخلاقية للكثير ممن يعملون في المستشفيات من الكوادر الطبية والتمريضية، حتى وصل الأمر بهم بالمتاجرة بالوباء وبالمتوفيين بسببه!، وكذلك أظهرت جائحة كورونا عن سوء العلاقة بين الطبيب والمريض وأزمة أخلاقهم على السواء!). نعود بالقول بأن مشهد الأعتداء على الطبيب لم يعد أمرا مستغربا بالعراق فقد حدث كثيرا ومازال يحدث وسيحدث أكثر!، فأنهيار المنظومة الأخلاقية وأزمة الأخلاق التي أشرت أليها أطاحت بكرامة المواطن العراقي ومرغتها بالوحل. فعلى المواطن العراقي أن لا يتصور بأن كرامته مصانة بالعراق مهما على منصبه وموقعه الوظيفي والمهني!، وأيا كان ومن يكون، طبيب، مهندس أستاذ جامعي، معلم، مدرس، قاضي، فنان، أديب، شاعر، رياضي وغيرهم، وقد سمعنا الكثير الكثير من حوادث الأعتداءات المؤلمة على هؤلاء. فالمواطن العراقي عليه أن يفهم ويعرف بأن كرامته مهدورة بأي لحظة رجل كان أم أمرأة، مثلما هدر دمه منذ عقود!. فالعراقي طالما أشعرته الحكومات التي قادته بأنه مشروع دائم للموت والذل والأهانة وأمتهان الكرامة، وأزداد هذا الشعور أكثر وبوضوح وبقصد معلوم منذ الأحتلال الأمريكي البغيض للعراق في 2003. أن أنهيار المنظومة الأنسانية وأزمة الأخلاق وأساءة الأدب التي صارت ومع كل أسف أحد صفات مجتمعنا وأمتنا العراقية!، هي نتاج طبيعي للشعور بل واليقين التام بعدم وجود دولة! فبات العراقي يشعر وكأنه يعيش في غابة لها شريعتها، فأما أن يكون قويا فيها، أو يعرف كيف يستقوي وألا فهو يؤكل ويداس ويهان وتمرغ كرامته بالأرض في أبسط مشكلة قد تواجهه!. أن غياب صورة الدولة وهيبتها، والتي معها غاب القانون والنظام والتي أتبعتها غيابات كثيرة، وبروز سلطة العشيرة وسماتها وعاداتها، كبديل عن سلطة الدولة وقوانينها، هي أحد الأسباب الرئيسية في كل ما يحدث منذ 2003 ولحد الآن من أنهيار في المنظومة الأخلاقية والقيمية للمواطن العراقي!، ناهيك عن سلطة الأحزاب والفصائل المسلحة. نعود الى موضوع الطب والطبيب العراقي، فالمعروف أن مهنة الطب بالعالم هي المهنة الأكثر أنسانية بين المهن الأخرى وعليه فالطبيب يحظى بمكانة أجتماعية مرموقة ومحترمة لأنه على تماس مع حياة المواطن، ويمكننا أن نقول وبتعبير آخر أن الطبيب هو الوسيط بين الله عز وعلا وبين الشخص المريض، ولهذا سميت مهنة الطب وكل العاملين بها بأنهم ملائكة الرحمة. وللعودة الى الوراء والى أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي نجد بأن سمعة الطب والطبيب العراقي كانت لها طنة ورنة، بل هناك الكثير من الشواهد والقصص التي أثبتت وأكدت على تفوق الطبيب العراقي ليس على أقرانه من الأطباء في دول المنطقة بل وحتى على الأطباء الأجانب أنفسهم الذين درس وتعلم على أيديهم!، وكان الطبيب العراقي عملة نادرة تفتح له كل أبواب ومستشفيات العالم وكليات الطب وفي أية دولة يذهب أليها. ومن المفيد أن نذكر هنا بأنه وبعد الأحتلال الأمريكي للعراق وأسقاط النظام السابق أنتاب القلق وزارة الصحة البريطانية من أنهيار الوضع الصحي في بريطانيا! ، خوفا من عودة الأطباء العراقيين العاملين في بريطانيا الى العراق!!، وهذه حقيقة تحدثت عنها الصحف البريطانية حينها ونقلت على لسان وزير الصحة أنذاك!. لكون الأطباء العراقيين يشكلون العمود الفقري لغالبية المستشفيات في بريطانيا، بل وللصرح الطبي والصحي في بريطانيا عموما، ليس لكثرتهم فحسب بل لكفائتهم!. ألا أن الظروف القاهرة وغيرالمتوقعة!، التي مرت بالعراق والمؤامرات التي حيكت ضده من أجل تدميره منذ ثمانينات القرن الماضي ولحد الآن وما مر بالعراق من مأسي وحصار فترة التسعينات، وما حل به من كوارث بعد أحتلاله من قبل الأمريكان، كان للأطباء نصيبهم وحظهم الأسود والحزين من ذلك! حيث قتل الكثيرمنهم وهاجر القسم الآخر الى بلدان العالم لينفذوا بجلودهم. فأهتزت مهنة الطب بالعراق كثيرا بسبب ذلك وفقدت الكثير من جوانب تألقها العلمي والأنساني. كما أستطاعت آفة الفساد التي أكلت الأخضر واليابس بالعراق، أن تنفذ عبر جدران هذا الصرح الأنساني الكبير، فتصدعت وتشوهت الكثير من القيم الأنسانية التي كانت تشكل العنوان الأبرز والأكبر لهذه المهنة الجليلة. من جانب آخر ليس كل طبيب طبيب!، فالقلة القليلة من الأطباء من بقى محافظا على القسم الأنساني الذي قسمه وحلف به عند التخرج. فالكثير من الأطباء أساؤا الى مهنة الطب وشوهو الكثير من جمالها وبنيانها الأنساني عندما أفرغوها من محتواها القيمي والأخلاقي بجشعهم الذي صارعنوان بارز للكثير من الأطباء!، ونفس الشيء يقال وأكثر الى جشع الصيادلة وعدم أنسانيتهم، وبشكل عام يمكن أن نقول بأنه لم يبق من أنسانية هذه المهنة وبكل تفرعاتها من أطباء وصيادلة وممرضين و و و ألا الأسم فقط. الشيء المحزن أن الأطباء والصيادلة ومن يعمل في هذه المهنة بالعراق لا يكترثون لما وصلت أليه سمعتهم وعلى كل ما يقال عنهم وعن جشعهم وطمعهم وعدم أنسانيتهم!!. لا شك أن موضوع الأعتداء على الأطباء مرفوض أجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا ( حيث لا يجوز الأعتداء غلى الموظف أثناء أداء واجبه) والطبيب هو موظف في الدولة، ولأنه لا توجد دولة!، بل توجد بدلا عنها وعن النظام والقانون قبائل وعشائر وأفخاذ، لهذا أصبح موقف الطبيب ضعيفا، والأعتداء عليه أصبح أمرا واردا!،لأنه يعمل في أجواء من الخوف والرعب فلا أحد يحميه من سطوة المراجعين الذين يتكلمون بلغة العشيرة والمذهب والطائفة!!، فأصبحت كرامته وحياته على كف القدر الذي ينتظره فأن مات المريض المراجع أو تدهورت حالته الصحية فالطبيب يعتبر هو المسؤول الأول والأخير عن ذلك!، وعليه أن يتحمل كل النتائج، والتي لا تقف الى حد الأعتداء عليه بل يتبعها الفصل العشائري بكل تفصيلاته!. ومن المعروف أن أطباء وطبيبات الخفر والطواريء المساكين!! هم أن أكثر الأطباء عرضة للأعتداء والوقوع في المشاكل مع المراجعين، لكونهم خط الصد الأول ولأنهم على تماس مباشر مع المريض وذويه. فالأطباء ومن جانبهم ونتيجة كل هذه الأجواء التي يعيشونها صاروا يتعاملون بلا أنسانية وبلا أحترام مع المريض، وصاروا ينظرون للمريض بشيء من التعالي وبنظرة دونية وكأن المريض بالنسبة لهم حيوان وليس أنسان!، وماذا يعني أن مات أو عاش؟. أن الطبقة السياسية التي حكمت العراق وقادته من بعد الأحتلال الأمريكي البغيض للعراق هي مسؤولة مسؤولية مباشرة لما وصلت أليه الأوضاع بالعراق من سوء وتدهور ليس له أول ولا آخر وفي كل نواحي ومناحي الحياة، ومنها المشهد الطبي هذا بكل تفاصيله. أخيرا نقول يبقى ملف الأطباء وجشعهم وأستغلالهم للمريض ، وعلاقتهم مع المواطنين مثار جدل ونقاش كبيرعندما يفتح، كما ويبقى ملف الأعتداء على الأطباء مفتوحا أيضا!، ما دامت أزمة الأخلاق تستفحل يوما بعد يوم في العراق وتسير الى أنحدارات اكثر خطورة، في ظل أزمة اللادولة التي نعيشها وأنهيار المنظومة القيمية والأنسانية والتربوية والأخلاقية لدى المواطن والطبيب على السواء!. ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم.

المصدر