د. كريم شغيدل
شهر محرم الحرام له خصوصية عند عموم المسلمين، فمنهم من يعده شهر فرح وسرور على وفق روايات معينة، لكننا في العراق نعده شهر أحزان، فغرته التي تعد بداية للتاريخ الهجري يعدها البعض ميلاداً لدولة الإسلام، ولا علاقة لها بهجرة الرسول(ص) من مكة إلى المدينة، والسؤال لماذا إذاً سمي التاريخ نسبة للهجرة؟ وهل تهجير الرسول واجتماع سيوف العرب عليه ليضيع دمه بين القبائل، ومبيت علي بن أبي طالب(ع) في فراشه، بعد تهجير أتباعه للشعاب وتحريم التعامل معهم، ومن ثم تتبع أثره في الصحراء حتى لجوئه للغار وقصة الحمامة والعنكبوت، هل هذه الحوادث المروعة تصلح أن تكون موضع فرح واحتفال؟ على أن بعض الروايات تحدد هجرته في شهر ربيع الأول وليس في محرم.
ونستحضر في العاشر منه مسيرة الإباء الحسينية، وهي أيضاً هجرة مماثلة من مكة إلى الكوفة، كما كان مفترضاً لها، ووقائع هذه المسيرة أصبحت معروفة للقاصي والداني، بما انطوت عليه من بطولات وإصرار على الحق ومقارعة الاستبداد والظلم والفساد، بمواجهة إرهاب السلطة ووحشيتها وبشاعة أفعالها في ارتكابها أشنع جريمة إبادة طالت آل بيت الرسول(ص) الحسين وأهله وأصحابه وأتباعه وهم قلة خذلهم من بايعهم وطلب قدومهم ترهيباً وترغيباً، وعد ذلك اليوم نصراً لبني أمية على رسالة السماء، طالبين من أتباعهم الصيام وإقامة طقوس الفرح، وبقيت هذه العادة متوارثة في بعض الأمصار، كما يرى البعض، ثم جاء (وعاظ السلاطين) ليبتكروا وينتحلوا الأحاديث والروايات لتبرير الاحتفال.
ليس غايتي أن أبحث في الروايات، لكنني أبحث عما تنطوي عليه بعض السرديات التاريخية من أنساق مضمرة، تسللت من دون إدراك لخطابنا الثقافي والديني، فأنْ نحتفل بتهجير نبينا أو يوم قتل سبطه الذي لا يقوى أحد على المزايدة على مكانته من الرسول، فهذا يعني أنَّ خطابنا لا يزال يحتفظ بنسق بداوة الأولين الذي عدُّوا هروب الرسول(ص) ومقتل الحسين(ع) انتصارات، لا سيما أنَّ السلطة الأموية قد كرست ذلك بصورة قبلية، وفرضته بشتى أساليب القمع، بالمقابل فإنَّ ثورات التوابين التي أعقبت واقعة الطف قد رفعت شعار(يا لثارات الحسين) وكان شعاراً إجرائياً في حينه، أي معاقبة الجناة، أما اليوم فوجوده لا يقل بداوة عن بداوة المحتفلين، ذلك أنَّ ثورة الحسين(ع) غايتها الأساسية الإصلاح، والبداوة هنا نعني بها الأنساق الخفية المضمرة، التي تسللت إلى الوعي الجمعي لدى الجماعات المتناقضة عقائدياً.
الاحتفال والفرح في شهر محرم يضمر أنساق الشماتة والكراهية والعنف وإقصاء الآخر، والمطالبة بالثأر من أعداء وهميين أو لنقل عقائديين يضمر الأنساق ذاتها، وكلا الطرفين لم يستفد أو يتعظ من دموية التاريخ، المتعصبون المتزمتون المتطرفون هم أنفسهم، عبدة السلطان وعبيد الاستبداد ممن يؤيدون شرعية الاستبداد، مقابل من حوَّل ثورة الإصلاح إلى مجرد ثأر، وهو مجرد رأي الغاية منه الخروج من أنساق البداوة إلى (الإصلاح).
المصدر