ما العمل ..؟

ما العمل ..؟

في هذه المقالة لا أود التطرق الى ما جاء في كتاب (ما العمل) الذي الفّه الزعيم البلشفي لينين والصادر في العام 1902، على الرغم من إنني سأعود بعد قليل الى بعض ما ورد فيه. كما وأنّ المقالة لا تعني إشاعة اليأس من أي تغيير ديموقراطي في بلدنا، بل ستتناول في الواقع إستحالة تحقيق حلم التغيير الديموقراطي من خلال صناديق الإقتراع في ظل سلطة الإستبداد الديني القومي التي تهيمن على مقدّرات البلد منذ الإحتلال الأمريكي لليوم. وإذا أخذنا النزعة التشاؤمية في دراسة الواقع العراقي من الناحية الفلسفية والتي تقول أحدى مذاهبها من ” إنّ الشرَّ في العالم أكثر من الخير، وأنّ الحياة الإنسانيّة هي سلسلة من الآلام الدائمة”، وترجمناها لتتلائم وواقعنا العراقي فأننا نستطيع القول ونحن مطمئنون من أنّ (الشرَّ في العراق أكثر من الخير، وأنّ حياة شعبنا العراقي هي سلسلة من الآلام الدائمة). قد يختلف الكثير مع هذا الرأي لأسباب عاطفية، لكننا نستطيع سؤالهم ببساطة في أن يثبتوا لنا العكس في حقل واحد من حقول الحياة في بلد يسير بثبات عجيب نحو الخراب والدمار.

لنعد الآن الى لينين وهو يتساءل في كتابه هذا ” حول كيفية سيطرة الأفكار البرجوازية على المجتمع، وقد رد على ذلك قائلاً: لسببٍ بسيط؛ أن الأفكار البرجوازية أقدم بكثير في الأصل من الأفكار الاشتراكية، ولذلك فهي أكثر تطوراً، ولديها تحت تصرفها أدوات للدعاية بدرجة لا تقاس”. لو قمنا بتعريق مقولة لينين هذه وتساءلنا حول كيفية سيطرة الأفكار الدينية على المجتمع العراقي وتغييبها للعقل سنقول وببساطة: لسبب بسيط، أنّ الأفكار الدينية أقدم بكثير من الافكار البرجوازية والأشتراكية، لكنّها متخلفّة جدا جدا، وتحت تصرّفها للأسف الشديد أدوات دعاية بدرجة لاتقاس وهنا تكمن الخطورة. والخطورة هي إننا نعيش تحت سيطرة الأفكار الدينية العدمية على المجتمع من جهة، وماكنة إعلامية ضخمة لغسل الأدمغة تبدأ من دور العبادة التي إنتشرت كالنار في الهشيم بعد تحولّها الى مراكز إستفزاز طائفية، مرورا بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وإنتهاءا بعشرات الفضائيات والصحف والمجلات والمدارس الدينية وفي المناهج الدراسية التي ترسّخ اللاوعي في العقل الجمعي. كما ويعني ودون اللجوء الى المثاليات ونحن نعيش ما نعيشه اليوم من أنّ شعبنا العراقي شعب متخلّف بسواده الأعظم، وعندما نصف غالبية شعبنا بالتخلّف فأنّه ليس بسبّة قدر ما هو واقع أثبتته على الأقّل تجارب السبعة عشر سنة الماضية للأسف الشديد. فتخلّف أي شعب ينبع من تخلّف نظامه السياسي والعكس صحيح، والعراق اليوم هو مثال واضح لتخلف السلطة الدينية القومية وتخلّف الجماهير التي خدّرها الدين ومسخ آدميتها.

لو قارنّا تجربة عراق ما بعد الإحتلال بتجربتي أفغانستان والصومال سنرى من أنها ليست بأفضل حالا من تجربتيهما الكارثيتين، فالعراق عانى ويعاني بسبب طريقة كتابة دستوره من اللبننة وأثناء الحرب الطائفية عانى من الأفغنة، وإذا إستمرّت الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية بالبلاد على نفس الوتيرة التي عليها اليوم فإننا أمام صوملة ستهدد كيان الدولة وتفككّها. فمثل هذه البلدان ومنها العراق بلدان غير متطورة أو متخلفّة بالأحرى إقتصاديا وإجتماعيا وبالتالي سياسيا، ما يفسح المجال لقوى إقليمية ودولية للتدخل بشؤونها الداخلية، وهذا التدخل ولتستمر الهيمنة على هذه البلدان يعمل على تفجير الصراعات الدينية والطائفية والقومية، والذي يؤدي الى ضعف الدولة وهيمنة الميليشيات المسلّحة على القرار السياسي وملأ الفراغ الذي تركته الدولة، وهذا بالضبط ما حصل ويحصل بالبلدان الثلاثة.

دعونا ان نعود لعراق اليوم لنرى إن كان فيه صراعا طبقيا أو إجتماعيا بالمعنى المتعارف عليه علميا، ومدى تأثير هذا الصراع على شكل اللوحة السياسية بالبلاد من خلال دور الطبقات الإجتماعية في هذا الصراع. يقول كارل ماركس ومثله فريدريك أنجلس في البيان الشيوعي ” أنّ تاريخ أي مجتمع لحد الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي كل مرّة إمّا بتحول ثوري للمجتمع كلّه، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين”. وهنا دعونا نتساءل إن كان هناك تعارض وفقا لهذه النظرة الماركسية لشكل الصراع الإجتماعي بالعراق اليوم، بين الأحرار والنبلاء والبارونات والمعلمين والظالمين والذين يمثّلهم رجال الدين وزعماء الأحزاب والقبائل والميليشيات من جهة، وبين العبيد والعوام والأقنان والصنّاع والمظلومين وهم شعبنا العراقي من جهة أخرى؟ هل هناك صراعا حقيقيا أو مستترا بين الطبقتين وما هو شكل هذا الصراع؟

في الحقيقة ليس هناك صراعا إجتماعيا واضح المعالم بين الطبقتين في العراق الّا في حدود ضيقة، كون الطبقة الثانية بغالبيتها ولتخلفها ترفع مظلاتها عاليا حينما تمطر السماء حريّة وكرامة، وهذه الطبقة أثبتت خلال السبعة عشر سنة الماضية من أنها لا تريد كسر أنيارها، لذا نراها تنسى وطنها وقضيتها وقوت أطفالها ومستقبل أجيالها حالما يصعد معمّم على منبر أو يتسلّح ميليشياوي بسلاح وفتوى بالقتل أو يتقوّى زعيم حزب بعشيرته! وهذا يعني أنّ من سيربح هذا الصراع إن وُجد كما يقول عالم الإجتماع راندل كولنز هو من يمتلك المصادر المادية للعنف، وهذه ليست دعوة لإستخدام الطبقة الثانية العنف كوسيلة للتغيير مطلقا بل إستنتاج ليس الا، وهو أنّ القوى المهيمنة على السلطة وهي تتسلح بالمال والسلاح والنفوذ والفتاوى الدينية قد حسمت الجزء الأكبر من المعركة مبّكرا، وهنا أتمنى بجد أن يكون إستنتاجي هذا خاطئا لأنني لازلت أحلم بحرية بلدي وسعادة شعبه.

من الصعب اليوم في بلد كالعراق التعويل كثيرا على نظريات ودراسات سياسية كوسيلة لتفسير الظواهر السياسية والإجتماعية فيه، وهذا لا يعود الى قصور في هذه النظريات أو الدراسات السياسية العلمية بالمرّة، كون هذه النظريات والدراسات تستطيع أن تقدّم نظرة متطابقة مع الواقع السياسي الإجتماعي في الكثير من البلدان الديموقراطية التي تحتكم الى صناديق الإقتراع ووعي الناخبين الى درجة كبيرة جدا، بل وحتى في العديد من البلدان ذات الأنظمة الشمولية. لكنّ هذه النظريات والدراسات تصطدم بمعوّقات تجعلها غير قادرة على تقديم إجابات مقنعة لبعض الأحداث الهامّة التي مرّت بالبلاد. وقد حاول البعض على سبيل المثال الإستفادة من مفهوم الكتلة التاريخية لغرامشي في تشكيل جبهة سياسية ذات قاعدة إجتماعية واسعة أملا في التغيير المنشود، فكانت النتيجة قاسية ومدمّرة إذ خرجت الكتلة التاريخية (التي عوّلوا عليها كأداة للتغيير) نفسها لتقمع نفسها بنفسها وتغتال إنتفاضة جماهيرية عفوية هزّت أركان السلطة، في موقف إحتار فيه حتّى من آمن بهذا الشكل من الجبهات السياسية وروّج لها ودافع عنها! فهل الخطأ يكمن في مفهوم الكتلة التاريخية نفسها والتي قدّمت نماذج نجحت في بعض البلدان، أم أنّه يكمن بطبيعة المجتمع العراقي والمشاكل التي مرّ ويمرّ بها من جهة وبطبيعة السلطة وقواها السياسية وأدواتها من جهة ثانية؟ كما وتكمن الصعوبة في تفسير الظاهرة الإجتماعية طبقا لنظريات ودراسات سياسية وإجتماعية الى ضعف القوى السياسية ” المعارضة”، والهروب من تمييز نفسها بإعتبارها قوى علمانية حداثوية تؤمن بالديموقراطية وإشاعة الحريات، عن قوى دينية رجعية ومتخلفة ومعادية للعلمانية والحداثوية وتقمع الحريّات بالفتاوى والسلاح والإعلام، ومنها حرية المرأة وسنّ قوانين تهمّش دورها بالمجتمع ومنع إصدار قوانين تؤمّن لها كرامتها كقانون العنف الأسري مثلا!

من الصعب بل من المستحيل على أحزاب ومنظمات سياسية لا تمارس الديموقراطية في حياتها الداخلية، أن تقوم ببناء نظام سياسي ديموقراطي. ولو راقبنا الحياة الداخلية لأحزاب السلطة، العلمانية منها والدينية سنرى غياب الديموقراطية عنها شكلا ومضمونا. فالقوى الكوردية وعلى الرغم من علمانيتها ذات زعامات عشائرية وعائلية تتوارث القيادة في ما بينها، أمّا القوى الإسلامية فأن قبولها بالشكل “الديموقراطي” للسلطة اليوم ينبع من إضطرارها لذلك وليس من إيمانها بالديموقراطية كوسيلة للحكم وتبادل السلطة من خلالها. فالديموقراطية تتناقض مع الدين كليّا، وأي حديث من قوى علمانية أو مدنية أو دينية عن قبول قوى إسلامية بالديموقراطية كممارسة ونهج ليس سوى قصر نظر سياسي وفشل كبير. فالقوى الدينية ومثلها القومية غير قادرتان في أن تتحولا الى قوى ديموقراطية، لكنهما قادرتان في أن يتحولا الى قوى فاشية في البلدان المتخلفة كما العراق حال إمتلاكهما لميليشيات وتنظيمات مسلحة خارج نطاق الدولة من جهة، وإمتلاك زعيم يتمتع بهالة عائلية أو عشائرية أو دينية تضفي عليه صفة القداسة والطاعة من الجهة الثانية.

الوضع في العراق اليوم شديد التعقيد سياسيّا، نتيجة صراع الأقطاب الحاكمة الثلاثة فيما بينها بسبب الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد إثر إنخفاض أسعار النفط وعدم تنوّع مصادر بديلة للدخل وجائحة كورونا وما ينتج عن هذا الصراع من خطر كبير على تفتيت النسيج الإجتماعي للمجتمع بشكل أكبر ممّا هو عليه اليوم، وكذلك الفساد الذي يخيّم كشبح على البلاد ويهدد بإفلاسها. وعلى الرغم من كل الصعوبات المعيشية والخدمية التي يعاني منها المواطن، فأنّ القوى المتصارعة وميليشياتها ومراجعها الدينية والعشائرية تتعامل مع البلد كإقطاعية وترى نفسها في مأمن من غضب جماهيري عارم. ولا تخاف هذه القوى إنهيار نظام المحاصصة جماهيريا، بعد فشل الإنتفاضة في جرّ الملايين المسحوقة الى المشاركة فيها للإسراع برحيل سلطة المحاصصة الفاسدة والتي قمعتها السلطة وعصاباتها بشدّة، كما لا ترى هذه القوى ما يهدد مواقعها من خلال صناديق الإقتراع في الإنتخابات المبّكرة المزمع إجراءها في النصف الأوّل من العام القادم مثلما لم يهدّد مواقعها في أي إنتخابات سابقة. فهذه القوى تقوم في مواسم الإنتخابات بتغيير أو تعديل القانون الإنتخابي بما يضمن فوزها وتقاسمها للسلطة وفق توافقات لا تتغير كثيرا، كما وأنّها لا تخاف معاقبة الجماهير لها في حالة فشلها في تنفيذ وعودها الإنتخابية التي تتعهد بتنفيذها في وعودها أمام ناخبيها، لأنّ التخلّف وغياب الوعي والتمترس الطائفي والقومي هي السمة الأبرز للناخبين العراقين.

لو أخذنا مدينة كمدينة الثورة ببغداد مثالا لتصويت الناخبين فيها، فإننا سنقف مذهولين من تصويت غالبية أبناء هذه المدينة التي تفتقر الى أبسط مقوّمات الحياة ويعاني سكانها بملايينهم الثلاثة شظف العيش والإهمال الحكومي ، لقوى إسلاميّة لم تقدّم لهم خلال أربع دورات إنتخابية أي شيء بالمرّة ولن تقدّم لهم شيئا في المرّة القادمة، وأنّ حالها سينتقل من سيء الى أسوء. هذه المدينة التي عليها الإنتفاض على ذاتها، قام تيار كبير وواسع فيها بقمع إنتفاضة شعبنا وساهم بقتل العشرات إن لم يكن المئات من شابّات وشبّان خرجوا ليعيدوا إليها وللوطن كرامتهم وكرامته التي تاجر بها الدين من على المنابر. أنّ ما جرى ويجري في هذه المدينة وهي التي عليها أن تتقدم الصفوف في تظاهرات وإعتصامات مليونية حتّى تغيير النظام الفاسد وغير الشرعي الحاكم، يعطينا صورة واضحة عن نتائج الإنتخابات القادمة وعن القوى التي ستشكل اللوحة السياسية الفاسدة من جديد. والمدينة وهي تقف كما غيرها الى جانب القوى التي تسرق قوت أبناءها، دلالة على أن سلطة المحاصصة والفساد غير معزولة جماهيريا، وهذا يعني إنها تمتلك ما يمنحها البقاء حتّى عودة الوعي للمجتمع.

والآن لنعد الى عنوان المقالة لنسأل .. ما العمل؟

الإنتخابات القادمة حُسِمت قبل أن تبدأ، وهذا الأمر يعرفه حتّى المواطن الذي لا وعي له. ومن هذا المنطلق علينا أن نبحث عن إجابة على سؤالنا، حول نسب نجاح مشاركة القوى العلمانية الديموقراطية فيها وهي تعرف المساحة التي ستتحرك فيها وإمكانياتها البسيطة، مع الأخذ بنظر الإعتبار القانون الإنتخابي الجديد والذي في الحقيقة هو أسوأ من قانون سانت ليغو الذي عدّله برلمان المحاصصة عدّة مرّات، والذي لم تستطع القوى العلمانية الديموقراطية بسببه من إختراق منظومة المحاصصة. فهل القوى العلمانية الديموقراطية مصرّة على خوض مستنقع الفشل من جديد!؟ في الحقيقة هناك مؤّشرات حول نية هذه القوى في خوض السباق الإنتخابي والسقوط في أمتاره الأولى مرّة أخرى، وهذا يعني أنّ هذه القوى تؤكّد كما الجماهير التي لا وعي لها من أنّ قوى المحاصصة والميليشيات غير معزولة جماهيريا.

القوى العلمانية الديموقراطية عليها الإتّفاق على أصغر القواسم المشتركة التي بينها وهي كثيرة أساسا من خلال إنتقادها لنفسها لإنخراطها في عملية سياسية دمّرت البلاد، لتشكيل تحالف سياسي يجمعها تحت مظلّة وطنية عابرة للطائفية والقومية، تحالف سياسي يكون قريبا لنبض الشارع العراقي الذي يمثلّه عشرات الآلاف من المنتفضين من طلبة وكسبة وعاطلين ومسحوقين ومهمّشين ومثقّفين الذين خرجوا متحدّين سلطة الفساد والجريمة بشكل عفوي. تحالف سياسي يكون شعاره “جرّدوا السلطة من شرعيتها بمقاطعة الإنتخابات”، فعشرات الآلاف من المتظاهرين الواعين لقضية شعبهم قادرين من خلال خطاب سياسي جديد وقيادات ميدانية نشطة وفاعلة ومخلصة من جرّ آلاف المتضرّرين الى ساحات التظاهر، خصوصا وأنّ السلطة الفاسدة بعصاباتها غير قادرة حتّى على توفير رواتب موظّفيها الا من خلال الإقتراض الداخلي والخارجي. على مثل هذا التحالف توفير معطيات للناس من خلال إعلامه على فقره وتواجده وسط الطلبة في مدارسهم وجامعاتهم، والكسبة في ألأسواق ومساطر العمّال من أنّ مستقبل البلاد ومستقبلهم مظلم، فالبلاد ونتيجة سياسة النهب المنظّم تسير نحو الإفلاس التام.

تبقى المشاركة بالإنتخابات جريمة بحقّ شعبنا ووطننا، ومقاطعتها وتثقيف الجماهير بمقاطعتها واجب وطني ملّح. فهل ستكون القوى العلمانية الديموقراطية أهلا لتحمّل هذه المهمة الوطنية، أم أنّها ستخيّب ظن قواعدها وجماهيرها والشرفاء من أبناء هذا الوطن بها وهي تخوضها لتخرج منها بخفّي حنين كما المرّات السابقة مانحة الشرعية لنظام دمّر البلاد!؟ سؤال ستظهر إجابته بعد حين، على الرغم من معرفة الكثيرين إجابته!

“الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً” … البرت آينشتاين

زكي رضا
الدنمارك
23/11/2020

المصدر