لماذا تثور الشعوب ؟

لماذا تثور الشعوب ؟ (*) د. رضا العطار

ليس التاريخ رواية يسجلها الانسان ويقنع منها بالتسجيل وانما هو مركب كيماوي يتسلل الى خلايا دماغه، فيبعث فيه الاحلام والاماني ويحرك الافكار ويهيج الجراح حتى يوصلنا بالافذاذ المكافحين، يثير الحنين الى ضحاياهم، فيحدث التغيير والتطور في نفوسنا حتى لنعود نحن مكافحين وحتى لنرضى ان نكون ضحاياها. هذا هو المركب الذي من اجله تقوم الثورات.

في تاريخ الثورات، نجد على الدوام ان هناك طبقة تسيطر على مقدرات المجتمع وتتسلط على الحكم. ولكنها غير منتجة، وهي، لأنها غير منتجة، لا تحس بالمسؤوليات الاجتماعية، فتنحل اخلاقها ويتزعزع تماسكها، وهي تسرف وتتبذخ، لأنها تستهلك ولا تنتج. وقد تحيا على هذه الحال سنين. ولكن الشعب الذي يحتقرها ينتهي بالثورة عليها كي يضع مكانها الطبقة المنتجة التي علمها الانتاج اصول الشرف والاستقامة، كما اوحى اليها القوة، وغرس فيها الارادة والنشاط. فهي لذلك تثور وتنجح في ثورتها.

ولهذا السبب نجد لكل ثورة طرازا يختلف عن الطراز الاخر للثورات. ففي العصور القديمة حين كان الدين يستوعب جميع الوان النشاط البشري، كانت الثورات دينية بحتة. ذلك ان الطبقة الحاكمة انما كانت طبقة دينية. وكانت تستولي على وسائل الانتاج وتنعم بما تستحوذ علبه من ثراء وما تتمتع به من بذخ، فكانت عقلية الثورة دينية. ومن هنا كثرت الشيعْ والملل والنحل في القرون الماضية، سواء عند العرب ام عند الاوربين. وكل فرقة دينية جديدة كانت تتبنى ثورة جديدة.

اما في عصرنا الحاضر فاننا لا نجد هذه الفرق الدينية، لأن الامم العصرية لم تعد تجعل الافكار الدينية وسيلة التفوق الاجتماعي والسيطرة الحكومية. ونحن نعيش اليوم في عصر العلوم والتكنولوجيا وليس في عصر العقائد والادعية.

وعندما ثار الزنوج في البصرة عام 255 للهجرة ضد الخليفة العباسي، تزعم قائدهم بانه منحدر من نسل على ابن ابي طالب ! وهذه الحروب الصليبية التي دامت حوالي 200 سنة، كانت حروب اقتصادية في جوهرها. ولم تكن الظروف التاريخية في ذلك الزمان تبيح للثورات ان تكون على شكل آخر، لأن الطبقة الحاكمة كانت طبقة دينية. فإذا فقدت كرامتها يوما لأنها اسرفت في الظلم والطغيان، او مالت الى الاهمال والفساد، هبت طبقة دينية اخرى ثائرة عليها لتأخذ مكانها، كما فعل العباسيون حين طردوا الامويين.

ثم ظهر في اوربا طبقة غير دينية، هم النبلاء، اي ما نسميهم بالاقطاعيين. فكان الشعب في اوربا يتكون من الملك والنبلاء والعامة. فاذا استبد الملك، فان استبداده سيقع اولا على النبلاء. وحتى حين يقع على العامة من الناس يكون النبلاء هم وسيلته الى ذلك، لأن العامة كانت في الاغلب من الموالي اي من عبيد الاقطاعيين. ولذلك كانت الثورات محصورة بين الملك والنبلاء. اما عامة الشعب فلا يكاد يذكر. وهذا ما رأيناه في الثورة الانكليزية عام 1215 وهي ثورة النبلاء على الملك جون.

ولم تكن في اوربا في ذلك الوقت طبقة متوسطة، لكن الذين كانوا يمارسون التجارة والصناعة، هم وحدهم الين كانوا يشكلون الطبقة المتوسطة في المجتمع. هذه الطبقة قامت بثورات غايتها الحرية والامن لنفسها، وقد وجدنا طرازها واضحا في ثورة كرومويل ضد الملك تشارلس الاول في انكلترى عام 1640 وفي فرنسا في ثورتها الكبرى ضد الملك ايضا عام 1798 . والى هنا لا نجد ثورة للعمال، لانهم لم يكونوا على وعي بانهم طبقة. اذ كانوا الى ذلك الوقت يعيشون تلك العيشة الزراعية التي كانت تجعلهم عبيد الاقطاع.

ولكن عندما كبرت المدن وجذبت العبيد اليها من الريف واستخدمتهم في المجالات الصناعية والتجارية والنقل اصبحنا نجد العمال الذين لم نكن نجدهم قبل عام 1800
اصبحنا نجدهم يعيشون في المدن و يعملون في الحديد والنار، ويتلقون ثقافتها ويتجمعون حول بعضهم فيحسون روحا طبقيا لم يكن يحسه الفلاح المستبعد في القرية.
وعندما اعلن كارل ماركس بيانه الشيوعي (المانوفيست) من بروكسل سنة 1848، صارت ثورات العمال في العالم من طراز آخر، فقد بدوا يطالبون بتحسين اوضاعهم المعاشية يصطدمون بالطبقة المتوسطة. عبر اضرابات ومظاهرات، متحدثين عن النظام الأشتراكي، مما حدى بقيصر روسيا نيقولاي يومذاك ان يطلب من حكومة فرنسا ان تنفي (هذا المشاغب) من اراضيها. فقامت الأخيرة ونفذت الطلب.

ان السمة العامة للثورات التي حصلت في التاريخ، انتهت بألغاء القيود السابقة والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعوب. وان جميع الثورات ليس في اوربا وحدها، بل في جميع القارات الاخرى تجري على اسلوب لا يتغير، هو اضطهاد سابق، مصرْ ومتعنتْ ولا يقبل المفاوضة. ثم انفجار ثم تغيير يؤدي الى محو هذا الاضطهاد.

ويبدو لنا من النظر في الثورات ان الشعب كله ينهض بها. ولكن عند التأمل نجد ان طبقة واحدة تحس الاضطهاد او الضغط اكثر من غيرها، وهي التي تضطلع عندئذ بالدعوة الى الثورة موضحة فلسفتها ومهيأة محركاتها حتى ينضم الشعب كله اليها بعد ان عرف عدالة موقفها ونبل غايتها. وواضح انه اذا لم ينضم الشعب اليها فانها لن تنجح.

ونحن نذكر ثلاثة انواع من الثورات اختلفت الطبقات التي قامت بها. ففي سنة 1215 ثارت طبقة النبلاء في انكلترا على الملك جون واجبرته على ان يعترف بحقوق النبلاء، فأنتفع بها الشعب كله. وفي سنة 1789 ثارت الطبقة المتوسطة في فرنسا على الملك والنبلاء وحصلت على حقوق لها وللشعب وكان من هذه الحقوق الاساسية الغاء الرق الاقطاعي. وفي سنة 1848 وبعد ان اعلن كارل ماركس بيانه الشيوعي في بروكسل، ثارت طبقات العمال في كل دول اوربا تقريبا وحصلت على حقوق جديدة لم يكن العمال يعرفونها في العصور السابقة.

والثورة في كل هذه الحالات هي انتفاض طبقة لا تطيق القيود المفروضة عليها، وهي تستعين بالشعب بعد ان تبسط له قضيتها العادلة، فإن انضم اليها، تصبح الثورة شعبية.
فهذه القيود او هذا الاضطهاد او هذا الضغط الذي يحدو باحدى الطبقات الى الثورة، تتعدد الوانه. ففي ايام الملك جون الانكليزي كانت الضرائب الباهظة هي التي دفعت بالنبلاء الى ان يجبروا هذا الملك على الاّ يفرض ضريبة إلاّ بعد استشارتهم في مجلسهم الذي اصبح بعدئذ بذرة البرلمان الحاضر.

وفي الثورة الفرنسية نجد الضرائب الباهظة تخص الطبقة المتوسطة، يغفى منها النبلاء والكهنة. لهذا السبب كان الملك يرفض ايجاد برلمان يحاسب، مما احدث احساسا عاما في الأمة بان الحكومة ما وجدت الا لخدمة الملك و النبلاء والكهنة.
وفي ثورات عمال المصانع في كل بلدان اوربا بعد عام 1848 كانوا يواجهون حالات جديدة لم يواجهها اسلافهم من قبل وهي الانتاج بالآلات اي بالحديد والنار بدلا من الايدي، فيطلبون التغيير في اجورهم ومركزهم الاجتماعي بما يطابق هذا التغيير في الانتاج، ولكنهم يجدون الرفض فيثورون. ومنذ ثوراتهم هذه بدأت البرلمانات تعرف احزاب العمال، وبدأت النقابات تتألف لصون مصالحهم.

وبين الثورات الكثيرة التي حصلت في اوربا تعد الثورة الفرنسية التي وقعت عام 1798 من الطراز الاعلى الذي درست كل سماته وحيثياته من قبل المفكرين في العالم اجمع، بل ان لغة هذه الثورة قد انتقلت الى الامم الاخرى كما انتقلت اليها الافكار والنظريات التي قال بها دعاة هذه الثورة ونظموها فكانت – الحرية والاخاء والمساواة – وكلنا يعرف الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية. وكلنا يعرف
( حرية الفكر والعقيدة ).

ومع ان نابوليون قد فسق بمبادئ هذه الثورة، إلاّ انه لم يتمكن من الغائها. اذ ما كاد ينفى من فرنسا الى جزيرة سانت هيلانة حتى هب الشعب الفرنسي يستعيد هذه المبادئ ويسترشد بها من جديد. بل ان نابوليون نفسه كان يحس القوة الاغرائية في مبادئ الثورة كما نرى في الخطاب الذي القاه على المصريين في الاسكندية بعد غزو بلادهم، كان هذا نصه:
( ان جميع الناس متساوون عند الله، وان الشئ الذي يفرقهم عن بعض هو العقل والفضائل والعلوم فقط. وبين المماليك والفضائل تضارب، فلماذا نميزهم عن غيرهم حتى يستوجب ان يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شئ حسن فيها من الجواري الحسان والخيول العربية والمساكن المفرحة )

يقول الشاعر الانكليزيي المعروف ملتون الذي يعد كاتب الثورة الانكليزية:
( الحرية هي خير المدارس للفضيلة ) ويقول: ( دعوا مناقشة الحقائق حرة دون ان يمس المؤلف اي خطر منها ) لقد عيّن ملتون في هذه الكلمات دستور المؤلفين.

كما قال كاتب الثورة الامريكية – توماس بين – عام 1776
( ان غاية الحكومة ان تحمي حرية الانسان وطمأنينته ) ولكن للثورة الامريكية كاتب اخر جاء بعده بسبعين سنة، هو رئيس الولايات المتحدة لنكولن الذي نص على ان من حق الشعب ان يغير الحكومة بالطرق الدستورية فاذا لم يستطع ذلك فله ان يغيرها بالقوة. وهذا الرئيس هو الذي وقف حياته لتحرير الزنوج ونقلهم من مرتبة الرق الى مرتبة البشر.

في عالم الحرية نجوم تلمع مثل فولتير وجان جاك روسو وديدور وغيرهم، هؤلاء هم الذين ادّلوا الملوك وعاقبوا الطغاة وعمموا الكرامة بين الناس فلا رق ولا اقطاع ولا حكم بغير دستور ولا ضرائب بغير موافقة البرلمان ولا رقابة على الفكر والقلم ولا انتهاك للعامل ومنعه من تاليف النقابات.
ختاما يمكن تقسيم السمة العامة للثورات الى قديمة التي انتهت عام 1848 والتي تقول:
( لكل انسان الحق في ان يحيا حرا، لا يجوز للحكومة اعتقاله او اكراهه على الايمان بدين معين او منعه من الخطابة او الكتابة ) والى ثورات حدثت بعد 1848 والتي تقول: ( لكل انسان الحق في ان يجد عملا يعيش منه وان الحكومات مسؤولة عن المرضى والعاطلين والمسنين وتعليم الأميين ) هذه هي الحقوق الاساسية للشعوب.

* مقتبس من كتاب الثورات، للعلامة سلامه موسى.

المصدر