“عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم”

قبل ايام تعاهدت مع صديقي الفرنسي غير المسلم المتخصص في الشأن العراقي على أن نكون في لقاءاتنا القادمة متفائلين رغم كل الظروف السيئة. ذلك لسببين على أقل تقدير اولهما معاناتنا نحن الاثنين من غدر الاصدقاء وكرههم لصراحة حديثنا وتشبثنا في قول الحق حتى لو كان ضد مصلحتنا الشخصية. اما ثانيهما فنرى الأحداث السلبية كالظلم والاقصاء تزداد وتيرته يوما بعد يوم ليس في العراق فحسب انما دخلت فرنسا على الخط ايضا. راينا اذن بان تكرار الحديث عن الأحداث السياسية في العراق سيصيبنا بالقنوط والاحباط ولا نريد أن نصل إلى مرحلة اليأس. لقد سبق ان قدمنا الكثير من الحلول والمقترحات الجزئية أو الاستراتيجية ولم نلاقي من طرحها غير اللوم والصد والنكران. ان الذي زاد الطين بلة تسارع وتدهور الاوضاع السياسية ضد المسلمين في فرنسا وما تسببه هذه السياسية من استقطابات سيؤدي استمرارها بنهاية المطاف إلى تقسيم المجتمع الفرنسي المتالف. اضافة الى تفاقم خطورة أزمة كورونا والازمات الإقتصادية والسياسية والاجتماعية المتراكمة نتيجة سوء الادارة. اظن شخصيا اذن بأن هناك ما يكفي من الاسباب التي جعلتنا نتخذ مثل هذا القرار لكن السؤال الكبير هل سنلتزم به؟ الله أعلم. فقد دخلنا نحن الاثنين المعارك الثقافية العلمية السياسية مبكرا وواكبنا الاحداث والشؤون الاجتماعية في البلدين العراق وفرنسا. لقد استحضرتني اية قرانية كريمة عند لقائي به قبل اسبوعين. رأيت من الضرورة قولها له والنقاش في فحواها واثرها على اولوياتنا في معالجة الأمور الحياتية اليومية من جميع جوانبها. هذه الاية القرانية الكريمة تقول “يايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون”. أنني أعلم بأن صديقي غير مسلم ولا يؤمن باي دين سماوي لكنه مستقيم عادل صادق وفي يفعل ما يؤمن به بصراحة دون لف أو دوران. عندما فسرت وشرحت له الاية وافق فورأ على تطبيق مضمونها. يبدوا أننا نحن الاثنين تربطنا احداث مشتركة عانينا منها في مسيرتنا. اعتقد بأنه من المفيد ان نستنطق ذاكرتنا ونعرض بعض تجاربنا الحياتية للقاريء الكريم. قد يستفيد منها من جهة وسوف يعطينا الحق حتما في مشروعية اتخاذ ذلك القرار من جهة اخرى. ابدا أولا بحديث صديقي الذي قص علي احداثا حقيقية حصلت ونقلها له احد المقربين والذي كان شاهد عيان في أحداث جرت وقت ايام مقاومة الفرنسيين للاحتلال الالماني النازي. قال له عن تلك الحقبة متحدثا عن احوال المقاومين في تلك الظروف. اذ كانوا لا يعيرون اهتماما بالهوية السياسية لهذه الفصيل المقاوم أو ذاك. كان هدفهم الأسمى مقاومة وطرد النازيين. ذلك المقاوم يستطرد بالقول بانه وقع بالصدفة آنذاك للعمل مع فصيل أو خلية مقاومة شيوعية. لذلك أصبح بنظر الجميع شيوعيا وفق الأمر الواقع. اردف القول كنا في بداية الأمر نعمل سوية ضد الاحتلال لكن حدوث عملية عسكرية ضده في المنطقة غيرت كل شئ. اذ حوصرت منطقتنا من قبل الجيش النازي للتحقيق مع أهلها وكان من ضمنهم خليتنا الشيوعية. في تلك اللحظات وبعد تحقيق النازيين معنا نسي او تناسى الثوار قضيتنا المقدسة وضرورة الصمود التي اوصانا بها الحزب بل نسوا علاقات الصداقة والزاد والملح بينهم. فشرع كل واحد منهم يتهم بالاخر ويعترف عليه اعترافات زائفة ليخلص نفسه وينجو بجلده. قال ذلك المقاوم لصديقي اوصيك وانصحك من خلال تجربتي النضالية وما سمعته انفا. أن لا تلوم احد على استسلامه أو ضعفه فلا تدري ما دوافعه واهدافه وتعذر الجبناء على تخاذلهم لأنك لو كنت مكانهم قد تفعل مثلهم فلكل شخص ظروفه وشخصيته وحدود لمقاومته. نفس الشخص حكى له قصة ثانية مفادها بأن فرنسا بعد أن تحررت من الاحتلال النازي جاء لزيارتنا بعض الكوادر المتقدمة من الحزب الشيوعي الفرنسي من الذين لم نراهم ايام الاحتلال في ساحات القتال وكانوا في أماكن امنة ولم يعانون ما عانيناه. ظهر ان تلك الكوادر المتقدمة احتكروا حلاة ونشوة النصر وصادروها لأنفسهم فقط. لقد سفهوا مقاومتنا ونضالنا وما عانيناه من مصاعب وصلت الى حد الاستعداد للشهادة في كل لحظة. ان ما قالوه لنا كان أمرا مقززا فيه تنكر لمقاومتنا للاحتلال. لم يجدوا سوى ان يقولوا لنا ان اعمالكم لم تكن لها قيمة كبيرة ولولانا ولولا حزبنا ما تحررت فرنسا. ثم قال له مرة ثانية ناصحا اياه. اياك أن تتحزب؟ فالمجد يحصده الجبناء والمتنفذين الذين تقف ورائهم دول. اعمل ما شئت لكن اياك اياك أن تورط نفسك بالانتماء لحزب ما فتندم؟ ذكرتني هاتين القصتين ما حصل لي أنا شخصيا من غدر شخوص المعارضة العراقية ايام وجودي في فرنسا وعملي كمعارض رغم انفي. إذ أن تاريخ عائلتي معروف بمعاداة حزب البعث العربي الاشتراكي. لذلك عندما وصلت فرنسا ببعثة لدراسة الهندسة البحرية في سبعينيات القرن الماضي كنت تواقا للقاء بعض اقطاب المعارضة للتعرف عليهم وطبيعة عملهم. لكن منذ ذلك الوقت أي في عام 1974 تيقنت بأن معارضة الخارج ليس لها قيمة وهي مجرد دكاكين سياسية تقتات العمل السياسي للحصول على لقمة عيش أو تعمل كوكيل لمصالح الدول المضيفة. عندما خرجت من العراق مرة اخرى في ايلول 1980 اتجهت إلى اكمال دراستي الجامعية فحصلت على الدكتوراه من جامعة كان في مقاطعة النورماندي في شباط 1984. بعد هذا التاريخ لم يكن لي سبيل اخر للحصول على الأوراق الرسمية سوى تقديم طلب اللجوء السياسي. مجموعة من الأحداث اكدت لي بان تصوري عن المعارضة بأنها دكاكين ومجموعة من المرتزقة تاكدت لي يوما بعد يوم حتى سقوط النظام السابق. من الصحيح ان اهدافي كانت مثالية وان امل تاسيس نظام عراقي عادل بعيد المنال. لكن كان ظلم النظام السابق لا يترك لي ولغيري المجال لترك معارضته. ان ما رأيته وعايشته طيلة فترة المعارضة مع شيعة معارضة الخارج انهم طائفيون متعصبون مستعدون للعمل مع الشيطان لاستلام الحكم. ان معارضتهم لصدام حسين ليس مردها لظلمه ولكن كانت عصابة سرقة تريد السيطرة على ثروات العراق لشخوصهم ولربيبتهم ايران. كان اقطاب تلك المعارضة يرفضون أي معارض من أهل السنة ويعملون المستحيل لابعاده ويتهموه بالعمالة للنظام العراقي. لعل اهم الأحداث التي تعرضت لها من غدرهم هي: عندما دعيت لايران لحضور مؤتمر نصرة الشعب العراقي كوني معارض مستقل. قام شخص من احد اعضاء حزب الدعوة بباريس بوشاية الى منظمي المؤتمر في طهران بأنني عميل السفارة بباريس والنظام العراقي. لولا تدخل صديقي الشيعي في باريس لحدث ما تحمد عقباه. في نفس المؤتمر وبعد يوم واحد هاجمني احد المعارضين الشيعة الذي كان من قيادي المجلس الاعلى بأن زيارتي لايران مجرد تمثيل وشكك في معارضتي. لم يتوقف التشكيك بعملي ضد النظام السابق انما استمر طيلة اكثر من عقدين اي حتى سقوط النظام عام 2003. ففي مؤتمر نظمته المعارضة الوطنية العراقية عقد بالجمعية الوطنية الفرنسية بباريس قال أحد اقطاب حزب الدعوة الذي اعرفه لصديقي بانه لا يثق بمعارضتي للنظام. في باريس ايضا عندما كنا في إجتماع لتنظيم مظاهرة ضد السفارة العراقية اتفقنا على الموعد. لكن بعد تفرقنا قال لي احدهم أن رقابنا ليست رخيصة فلا تصدق باننا سناتي لعمل المظاهرة غدا. لم ادرك آنذاك بانهم قد نصبوا لي فخا لمعرفة رد فعلي ازاء طرحهم القيام بهذا العمل ولا ازال اجهل اسبابه. هذه الأعمال الغادرة حدثت معي فقط لأنني من اهل السنة والجماعة العراقيين. عندها توصلت الى نتيجة مفادها بأن اهل السنة العراقيين بالنسبة للمعارضة الشيعية في الخارج اكثر مقتا وكرها من اليهود والنصارى. بعد أن سقط النظام العراقي ونالوا ما يريدون بفضل الاحتلال الأمريكي فاصبحوا وزراء ونواب وسفراء. لكن ظلت الطائفية المقيتة تعشعش في قلوبهم حتى هذه اللحظة. انهم على استعداد للغدر بالعراق لخدمة ايران كما غدروا باصدقاءهم من قبل. لهذا توافقت مع صديقي الفرنسي الا نعود الى الماضي بعد أن استوعبنا دروسه. هذا التوافق بيننا شجعني أن اطرح عليه في اللقاءات الأخرى أن ننتبه ونصحح اخطائنا الشخصية ولا نحمل انفسنا اكثر مما تطيق. ونترك تسيير شؤون العالم المضطربة إلى مالك السماوات والارض الله رب العالمين فهو الحكيم المدبر الأمر الناهي اذا أراد شيئا فانما يقول له كن فيكون. يجب أن نتذكر دائما باننا نعيش في دنيا مليئة بالظلم والكفر وان أهل المباديء العدول قلة قليلة. لنعلم ايضا بان الصراع دائم بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الدكتور نصيف الجبوريالمصدر