”سناب باك“…رصاصة رحمة أم روح جديدة للبرنامج النووي الإيراني؟
ساهر عريبي
دخل الاتفاق الذي أبرمته مجموعة 5+1 مع إيران عام 2015 حول برنامج الأخيرة النووي مرحلة الاحتظار منذ ان اعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق في مايو من العام 2018, تاركا روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى ألمانيا في حيرة من امرهم حول كيفية إنعاش الاتفاق الذي دخل مرحلة الموت السريري, بل إن وسائل إعلام تداولت مؤخرا تصريحات لمسؤولين إيرانيين وصفوا فيه الاتفاق بالجثة الهامدة.
تبع إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي, إقرار البيت الأبيض سلسلة متواصلة من العقوبات الاقتصادية على طهران، طالت شخصيات كبيرة وقطاعات حيوية في البلاد في مقدمتها قطاع النفط. وجهت هذه العقوبات المتواصلة ضربة قاسية للاقتصاد الإيراني, كانت اولى ضحاياها العملة الإيرانية التي هوت إلى ادنى مستوياتها على الإطلاق ملامسة حاجز الثلاثين ألف تومان للدولار الواحد. فيما كانت إحدى تداعياتها التظاهرات الدموية التي اجتاحت عدة مدن إيرانية احتجاجا على رفع أسعار الوقود, وهو القرار الذي اتخذته حكومة الرئيس روحاني إثر تدهور الأوضاع الاقتصادية.
أطاح ترمب بمعظم المكتسبات التي حققتها طهران بعد توقيعها الاتفاق, وأبرزها الافراج عن أموال بقية 700 مليون دولار شهريا, ورفع صادرات إيران من النفط إلى مليونين و800 ألف برميل يوميا بالإضافة إلى الاعتراف بحق إيران بتخصيب اليورانيوم عند المستويات اللازمة للأبحاث ولتشغيل المفاعلات النووية التي تنتج الطاقة الكهربائية.
لم تكتف إدارة ترمب بفرض هذه الحزم من العقوبات القاسية على طهران, بل إنها سعت لتمديد حظر صادرات الأسلحة إلى إيران الذي فرضه مجلس الأمن في قراره رقم 1929 عام 2010 ولمدة ثمان سنوات تنتهي في 18 أكتوبر المقبل شرط التزام طهران بتعهداتها. لكن المحاولة الأميركية لتمديد الحظر منيت بفشل ذريع في مجلس الأمن الدولي إذ لم يصوت على مشروع التمديد الأميركي سوى دولة واحدة من الدول الـ 15 الأعضاء في المجلس وهي الدومنيكان بالإضافة إلى الولايات المتحدة, فيما عارضته روسيا والصين وامتنعت 11 دولة عن التصويت.
هذا الفشل الذريع دفع واشنطن للتهديد بتفعيل آلية“سناب باك“ التي تتيح, العودة السريعة لفرض كافة عقوبات الأمم المتحدة على إيران, التي رفعها مجلس الأمن في قراره رقم 2231 الصادر عقب الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 والذي ينص على رفع العقوبات، لكنه يبقي الحظر على شراء وبيع الأسلحة التقليدية أو المواد ذات الاستخدام المزدوج.
لكن تفعيل سناب باك أو آلية الزناد قد يطلق رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي كما ترى دول حليفة للولايات المتحدة , إذ يترتب عليها انسحابًا إيرانيًا كاملًا، وقضاءً تاما على هذا الاتفاق التاريخي. إذ يحق لأي دولة طرف في الاتفاق النووي أن تفعل هذه الألية لإعادة فرض العقوبات على إيران, التي كان ثمن توقيع إيران على الاتفاق النووي هو رفعها.
يمكن لأي طرف تقديم شكوى إلى مجلس الأمن بشأن انتهاك إيران للاتفاق النووي، بعدها تبدأ الأمم المتحدة تحقيقًا يستمر ٣٠ يومًا قبل العودة بإيضاحات وضمانات للطرف الذي قدم الشكوى. وفي حال لم تقنع الإيضاحات الورادة المشتكي، فإن له الحق في تفعيل آلية الزناد من دون موافقة مجلس الأمن، لتعاد جميع العقوبات التي كان أقرها مجلس الأمن على إيران.
ويترتب على ذلك حث الدول على فحص الشحنات الداخلة والخارجة من إيران وفرض حظر على صادرات النفط والغاز, وفرض عقوبات على الصادرات غير النفطية مثل البتروكيماويات, والحصول على تصاريح بمصادرة أي شحنة محظورة, وتعليق جميع الأنشطة المتعلقة بالتخصيب بما في ذلك الأبحاث والتطوير، وحظر استيراد أي شيء يساهم في تلك الأنشطة.
كما ستفرض واشنطن على طهران حظرا على تطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، فيما سيعاد فرض عقوبات على عشرات الأفراد والكيانات بهذا الخصوص.
إلا أن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني يثير الجدل حول مدى أهليتها لإطلاق هذه العقوبات من جانب واحد, خاصة وان روسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا لاتزال جزءا من الاتفاق, إذ كيف يمكن لدولة كالولايات المتحدة التي لم تعد طرفا في الاتفاق, أن تفعل هذه الآلية متهمة الطرف الآخر بالتخلي عن التزاماته التي نص عليها الاتفاق في وقت انسحبت فيه من الاتفاق!
وبالمقابل فإن إيران وفي أعقاب الانسحاب الأميركي من الاتفاق وفرض عقوبات عليها من طرف واشنطن, بدأت بالتصعيد مقلصة التزاماتها النووية على أربع مراحل ردا على الانسحاب الأميركي من الاتفاق. فقد رفعت مستوى تخصيبها لليورانيوم من ٣.٧٥٪ إلى ٤.٥٪ كما زادت مخزونها من اليورانيوم إلى حوالي خمسة أضعاف الحد المسموح به وهو ٣٠٠ كيلوغرام.
كما أجرت اختبارات على صواريخ باليستية بعيدة المدى ولربما قادرة على حمل رؤوس نووية، وكان آخرها صاروخي قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. كما انها لم تسمح لمفتشي الوكالة الدولة للطاقة الذرية بتفتيش موقعين للأبحاث النووية.
ومع انهيار الدعامتين الأساسيتين اللتين بني عليهما الإتفاق الذي استغرق بناؤه قرابة العشر سنوات وهما دعامة رفع العقوبات على إيران، التي أعادها ترمب كلها وبشكل أكثر شدة من قبل، ودعامة التعهدات النووية الإيرانية، التي بدأت طهران بالتخلي عنها تدريجيا, فإن موت الاتفاق بات محتما ولكن ثمن هذا الموت هو بعث روح جديدة في البرنامج النووي!
فطهران الغارقة في العقوبات الاقتصادية ليس لديها ماتخسر في حال تفعيل واشنطن لآلية الزناد, فهي وإن كانت تطلق رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي إلا إنها ستطلق يد إيران في تطوير برنامجها النووي والصاروخي, بعد أن باتت في حل من الاتفاق النووي الذي فرض عليها جملة من القيود على هذا الصعيد.
وتراهن طهران على عدة عوامل للفوز بالمعركة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
أهم تلك العوامل هي قدرتها على امتصاص أثر العقوبات التي اعتادت عليها منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام ١٩٧٩, رغم أن هذه العقوبات هي الأشد في تاريخ الجمهورية, وتمثل اكبر تحد للنظام القائم سيحاول تجاوزه عبر منع أنفجار الاوضاع داخل البلاد والسيطرة عليها على الأقل وحتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر المقبل, التي يعول عليها المسؤولون الإيرانيون, علها تحمل نتائجها المرشح الديمقراطي جو بايدن إلى المكتب البيضاوي وهو الذي وقع الاتفاق النووي في عهده عندما كان نائبا للرئيس باراك اوباما. ولذا فإن طهران تنتظر ان يلحق الديمقراطيون بالنيابة عنها هزيمة بترمب.
كما أن إيران لديها العديد من الوراق التي تلعب بها في المنطقة والتي قد تحرج الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة. فأوراق الصراع في المنطقة تلعب فيها إيران دورا مؤثرا بالرغم من تراجع نفوذها في بعض تلك المناطق, إلا ان الورقة اليمنية تظل اكثرها تأثيرا, وخاصة بعد ان انكشفت الأهداف الحقيقة للحرب التي يشنها التحالف السعودي الإماراتي على اليمن منذ أكثر من ٥ سنوات.
فقد كشفت تطورات هذه الحرب أكذوبة دفاع هذا التحالف عن الشرعية, بعد أن أسست دولة الإمارات المجلس الانتقالي الذي انقلب على حكومة هادي واعلن سيطرته على الجنوب اليمني, طاردا حكومة هادي التي لم يعد لها موضع قدم إلا في الرياض. وبات هدف الإمارات الواضح هو تقسيم اليمن وتقاسمه مع الحليف السعودي.
وأصبحت القوات التابعة للحكومة اليمنية تقاتل على الأرض على جبهتين, وهما جبهة الحوثيين وجبهة الانتقالي , مما اتاح للحوثيون تحقيق تقدم عسكري في عدة محافظات يمنية. وجاءت عملية التطبيع الإماراتي مع إسرائيل والمرفوضة شعبيا في اليمن, لتصب في صالح إيران وحليفها الحوثي الذي يرفع شعار معاداة إسرائيل, كاشفا عن حقيقة التوجهات الإماراتية في اليمن ورغبتها في السيطرة على الموانئ اليمنية وخاصة جزيرة سقطرى, ضمن مخطط يعتقد أنه ينفذ بالتنسيق مع اسرائيل وخاصة بعد مباركة المجلس الانتقالي للخطوة الإماراتية في التطبيع. ولذا فإن الورقة اليمنية ستكون ورقة رابحة في يد إيران لإحراج الولايات المتحدة وحلفاؤها اماراتيين والسعوديين, وإن تكرار سيناريو ضرب أرامكو او المطارات في الإمارات قد لايبدو مستبعدا.
وأما الأهم في هذا الخضم فهو استخدام طهران ورقة زيادة تخصيب اليورانيوم وتطوير صواريخ بالستية بعيدة المدى لديها قدرة على حمل رؤوس نووية لإحراج الإدارة الأميركية والشركاء الأوروبيين العاجزين عن انقاذ الاتفاق النووي, والذين تتماهى سياساتهم في الواقع مع سياسات ترمب على هذا الصعيد وعلى العكس من تصريحاتهم التي تؤكد على اهمية الاتفاق النووي.
إن تصاعد وتيرة تخصيب اليورانيوم ومع الأخذ بنظر الاعتبار كميات اليورانيوم المخصب التي تمتلكها إيران حاليا فإنها ستصبح قادرة على انتاج قنبلة نووية خلال مدة أقصاها عامين. كما ان تطويرها لبرنامجها الصاروخي قد يؤدي إلى تصنيع صواريخ ذات مديات تهدد حلفاء اميركا في عدة بقاع في العالم.
إن مثل هذه التطورات ستثير العديد من علامات الاستفهام حول جدوى نهج الرئيس الأميركي الحالي في التعاطي مع الاتفاق النووي الذي يطلق اليوم آخر رصاصاته, ولعل أهم تداعياته ستكون الفشل في تطويق برنامج إيران النووي, وهو الهدف الذي يسعى ترمب لتحقيقه عبر هذا النهج. لكل ذلك فإن تفعيل آلية الزناد قد تطلق رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي لكنها في ذات الوقت ستبعث روحا جديدة في البرنامج النووي الإيراني.