بعد تصدرها للسياحة الآمنة عالميا.. البترا تعاني من كورونا وتتصدى للمزاعم الإسرائيلية

رغم جائحة كورونا التي ضربت العالم، فإن عاصمة الأنباط العرب مدينة البترا حازت على المركز الأول بين 500 موقع عالمي بوصفها أكثر المناطق الآمنة، بحسب موقع “لونلي بلانت” (lonelyplanet) السياحي العالمي.

مدينة البترا -أو السلع أو المدينة الوردية- اختيرت قبل ذلك بسبب طراز عمارتها المنحوتة في الصخر من الأعلى للأسفل، ومنعَتها، ولون صخورها الوردية، وثراء مبانيها بين السيق والخزنة والمحكمة والدير وقصر البنت، كإحدى عجائب الدنيا السبع عام 2007.

وفي حديثه للجزيرة نت، يقول وزير الثقافة الأردني الخبير بتاريخ الأنباط الدكتور باسم الطويسي: “تأسست في البترا الأبجدية العربية”، ولا تتوقف البترا في حدودها المعروفة الآن بل “امتدت حدودها لأرض الرافدين وحمص ولبنان وأطراف مصر، وكانت مركزا للتجارة العربية وإحدى طرق الحرير التاريخية العالمية، ويمثل عصر الأنباط أكثر مراحل الثقل التاريخي في إنتاج وتراكم الثقافة المادية في البترا وجوارها”.

مدينة الأسرار

ولميزة المدينة التاريخية والمعمارية المدهشة، فقد حظيت باهتمام الفنانين، حيث نسج الرحابنة في إطار تاريخ المدينة مسرحية “بترا” التي صدحت بها السيدة فيروز، وكذلك بكتابات أدباء عرب بينهم: المصري يوسف زيدان، والأردني هاشم غرايبة، والفلسطيني المتوكل طه.

وصوّر جماليات البترا عدد من الفنانين التشكيليين، بينهم الهولندي دافيد روبرتس، والأميركي فريترز إدوين تشرتش، والمصري فرغلي عبد الحفيظ، وفنانون أردنيون.

ولغرابة تضاريسها كانت موقعا لتصوير العديد من الأفلام الهوليودية، مثل “إنديانا جونز والحملة الأخيرة” (Indiana Jones and the Last Crusade)، و”العاطفة في الصحراء” (Passion in the Desert)، و”المتحوّلون” (Transformers)، وكذلك الأفلام الوثائقية والصور الفوتوغرافية والكتب المصورة، حيث يصفها الفوتوغرافي سامي الزعبي بأنها “أعجوبة فنية تتكون من لوحات طبيعية وتكوينات مدهشة”.

أما الفنان خلدون الداوود الذي أصدر كتابا عن “البترا” بمشاركة عدد من الفنانين العرب والأوروبيين، فيقول إن الكتاب “يمثل وثيقة بصرية تدوّن روح المكان من الناحية المثيولوجية والتاريخية والحضارية، بوصفه مركزا لبزوغ الحضارة العربية بتضادات الماء والصخر، الصلب والسائل، والمغلق والمفتوح على آفاق العالم، فالبترا كتاب يخبئ الكثير من الأسرار التي تحتاج لمتخيل الفنان لسبر أعماقها والكشف عن كنوزها”.

جوائح طبيعية وسياسية

المدينة الوردية التي عرفها الأوروبيون عن طريق السويسري جوهان بيركهارت عام 1812، وزارها قبله السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، تعرضت إلى عدد من الجوائح ومن بينها زلازل طبيعية مدمرة في الأعوام 636 و419 و551 و749 و1086، وآخرها عام 1927، وأخرى سياسية تتمثل في الأطماع الصهيونية.

وكانت جائحة كورونا -التي أصابت العالم بالعجز- ضربت المدينة التي تعتمد على السياحة بمقتل، فتحولت إلى مدينة أشباح وتعطلت أعمال الناس الذين يعتمدون عليها في معاشهم من “باب الرزق الذي يأتي من السياح”، بحسب نائل النواس الذي يعمل في السياحة بالمنطقة.

ويعبر الزعبي عن حزنه لما آلت إليه المدينة بسبب الوباء الذي تراجعت معه السياحة 90%، وخصوصا بسبب إغلاق الحدود وحظر يوم الجمعة الذي يمثل يوما لتنزه العائلة.

تسلل للبترا

ولعل أخطر ما تعرضت له المدينة التي تأسست عام 312 قبل الميلاد وخضعت للسيطرة الرومانية عام 106، هي الهجمة الإسرائيلية من خلال المشاريع الاستثمارية، واختلاق السرديات والروايات التي تدّعي حقوقا وهمية لليهود في البترا من خلال الأساطير القديمة في مقام هارون.

ويؤكد الدكتور الطويسي أن الأنباط “هم الجذر الأول للتكوين الثقافي والسياسي للعرب في بلاد العرب الشمالية، وقد عبدوا آلهة عربية عبدتها قريش بعدهم، وكانت أسماؤهم عربية ولغتهم المحكية العربية، وكتبوا بالآرامية ثم طوروها إلى شكل الحرف العربي لاحقا، كما أن المؤرخين الكلاسيكيين يجعلون كلمة: العرب، في كثير من المواضع مرادفة لكلمة الأنباط”.

وجرت الكثير من المحاولات الصهيونية للسطو على تراث البترا، إلا أن الشواهد تشير إلى انتساب مقام النبي هارون للحقبة المملوكية، وقد زاره الظاهر بيبرس رفقة كاتبه النويري، ولم يكن بعد قد بني عليه المسجد، وتدل الكتابة على بابه أنه بني في عصر الناصر بن قلاوون.

ومن الادعاءات أن “اليهود هم من بنى البترا”، وهو الادعاء نفسه الذي قيل عن أهرامات مصر. ويؤكد الدكتور الطويسي أن “النقوش الباقية تحمل أسماء ملوك عربية، و كذلك أسماء الملوك والشخصيات العامة، كما أنهم كانوا يتكلمون العربية.”

وبعد تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية لمئات السياح الإسرائيليين يؤدون طقوسا يهودية في المقام، لجأت الحكومة الأردنية إلى إغلاقه.

الفن والاستثمار في ساحة الصراع

وفي سياق بناء سرديات وروايات افتراضية تحاول التسلل للبترا، من خلال تسريب الأساطير الحديثة، جرت محاولة لإنتاج فيلم يحرّف تاريخ المدينة، بعنوان”جابر” لمخرج أردني، عن لقيا تحمل كتابة عبرية تدّعي “حق” اليهود في فلسطين والبترا الأردنية، وقد أُفشل بسبب الضغط الجماهيري، وقرر فريق عمل الفيلم إلغاء تصويره، وتابعته “الجزيرة نت” في حينه.

وتحت عنوان الاستثمار، نشطت الكثير من المؤسسات اليهودية للعمل السياحي في البترا، وبلغ الأمر أن تعلن بعض الشركات السياحية عن برنامج لزيارة “إسرائيل” يتضمن زيارة البترا.

مواجهات تاريخية

ويذكر الدكتور الطويسي عددا من المواجهات الواسعة والقديمة بين العرب الأنباط واليهود، وسجل الأنباط في معظمها الانتصار رغم الحماية الرومانية التي كان اليهود يتمتعون بها؛ وكانت الحرب الأولى زمن الملك عبادة الأول، والمواجهة الثانية زمن الملك الحارث الثالث، والحرب الثالثة في عهد مالك الأول، أما الحرب الرابعة ففي عهد عبادة الثالث، والحرب الخامسة في عهد الحارث الرابع.

وربما يعود سبب ادعاء الروايات هو التاريخ الغامض للبترا أو “فجوة المدونة التاريخية”، حيث يقول الناقد إحسان عباس -الذي تسلم رئاسة مؤتمر بلاد الشام في الجامعة الأردنية- إنه “قرأ عشرات الكتب حول البترا ولم يجد أية علامة على كتابات الأنباط لتاريخهم”، لافتا أن “من كتب تاريخ الأنباط أعداؤهم”.

ويوافقه الباحث الدكتور زياد السلامين في أن الدولة النبطية انتهت على يد الرومان، “ولا توجد معلومات عن البترا خلال فترة الفتوحات الإسلامية..”.

هوية الحرف العربي النبطي

ويؤكد وزير الثقافة الأردني أن البترا والعرب الأنباط مثلوا “أكثر مراحل الثقل التاريخي في إنتاج وتراكم المعرفة، والمنتج المادي في الخزف أو الفخار النبطي، وبرعوا في صناعة الحلي، وضرب النقود التي حملت اسم زوجة الحارث الرابع”، وكان اسمها “شقيلا”، وهو مرادف لاسم العملة المتداولة في إسرائيل “شيكل”، إذ تم السطو على تاريخها بالطريقة نفسها التي سرقت بها الأزياء والأكلات الفلسطينية.

ويختتم الدكتور الطويسي حديثه بالقول إن المجتمع النبطي “حظي بنظام قضائي وتنظيمي متقدمين، وشكلت النقوش النبطية عبر تطورها التاريخي المشهد الواضح لنمو الحرف العربي كأهم منجز للثقافة العربية في بدايات تكوينها”.

وتعرف البترا بالمدينة الوردية لكونها حفرت في صخر “وادي موسى” الوردي، وتضم عددا من المواقع أهمها “الخزنة” (بيت الحكم) التي حفرت في الصخر الأصم على واجهة الجبل الأشم، بارتفاع 140 مترا وعرض 90 مترا.

ومن المواقع الأخرى التي تشهد على عراقة المدينة: المدرجات العامة التي بنيت للاحتفالات والاجتماعات العامة، و”المحكمة” وأماكن العبادة.

كما تشهد بيوت أهل المدينة التي حفرت بدورها في صخرها الوردي الملون، على عراقة الموقع الذي تزيد من رونقه قنوات الماء والصهاريج والحمامات، وصفوف الدرج المزخرفة، والأسواق، والبوابات ذات الأقواس.

وتتميز المدينة بمدخلها المحكم لكونها حفرت بين جبال شاهقة صلدة، مع شق ضيق يعرف بالسيق ويبلغ طوله ألف متر، وتظهر على جنباته بقايا غرف الحرس ومناطق المراقبة.

Original Article