الطموح والحلم والدولة الكردية وأشكاليات التحقيق

د.كرار حيدر الموسوي

يتصدر الأكراد عناوين الصحف العالمية من جديد إثر بدء العملية العسكرية التركية في شمال سوريا. فمن هم الأكراد؟ وأين يعيشون؟ وما سبب الأزمات المتواصلة بينهم وبين سلطات الدول التي يعيشون فيها؟

الأكراد هم شعب بلا دولة يتراوح عددهم بحسب المصادر بين 25 و35 مليون نسمة، ويتوزعون بشكل أساسي في أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا. وهم شعب من أصول هندو-أوروبية يتحدرون من القبائل الميدية التي استوطنت بلاد فارس القديمة وأسست إمبراطورية في القرن السابع قبل الميلاد.

يتوزّع الأكراد على غالبية ساحقة من المسلمين السنّة وأقليات غير مسلمة، وعلى أحزاب سياسية علمانية في الغالب، في حين تتوزع مناطقهم على مساحة تبلغ حوالى نصف مليون كلم مربع، تتقاسمها أربع دول هي تركيا وايران والعراق وسوريا.

ويختلف تعداد الأكراد باختلاف المصادر بين 25 و35 مليون نسمة، يعيش القسم الأكبر منهم في تركيا (ما بين 12 إلى 15 مليون نسمة، حوالى 20% من إجمالي السكان)، ثم إيران (حوالى 6 ملايين، أقل من 10%) ثم العراق (5 إلى 6 ملايين نسمة، ما بين 15 إلى 20%) وأخيرا سورياً (أكثر من مليوني نسمة، 15% من السكان).

حلم أوشك على التحقق

وسهّلت جغرافيا المناطق الكردية الجبلية بمعظمها والواقعة في الداخل من دون أي منفذ على بحر، على الأكراد الحفاظ على لغتهم بلهجاتها المختلفة، وعلى عاداتهم وتقاليدهم وتنظيمهم المجتمعي.

وبالإضافة إلى هذه الدول الأربع، تعيش أعداد كبيرة من الأكراد في كل من أذربيجان وأرمينيا ولبنان إضافة إلى أوروبا خصوصاً في ألمانيا.

يعيش في ألمانيا مئات آلاف الأكراد

إثر انهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، بات حلم الأكراد بالحصول على وطن خاص بهم على وشك التحقق. فقد نصت معاهدة “سيفر” التي أبرمت عام 1920 على حق الأكراد في تقرير المصير وتشكيل دولة خاصة في شرق الأناضول وفي الموصل.

ولكن هذا الحلم تبخّر بعد انتصار مصطفى كمال في تركيا واضطرار الحلفاء للتراجع عن بنود معاهدة سيفر واستبدالها في 1923 بمعاهدة “لوزان” التي وضعت الشعب الكردي تحت سيطرة تركيا وإيران بالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا دولتي الانتداب على العراق وسوريا على التوالي.

رأس الحربة في مواجهة “داعش“

كانت وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا إحدى القوى الأساسية منذ صيف عام 2014 في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، بدعم جوي من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

ونجحت القوات الكردية مطلع عام 2015 بدعم من التحالف في طرد قوات التنظيم من كوباني (عين العرب) القريبة من الحدود مع تركيا.

وتشكل القوات الكردية الدعامة الأساسية لقوات سوريا الديموقراطية التي تشكلت في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وتضم 25 ألف مقاتل كردي وخمسة آلاف مقاتل عربي. وتتلقى هذه القوات دعماً من واشنطن.

ونجحت قوات سوريا الديموقراطية في طرد تنظيم الدولة الإسلامية من الرقة شرق سوريا ثمّ السيطرة على معقله في الباغوز بسوريا في آذار/مارس 2019. وفي العراق، تعتبر قوات البشمركة الكردية حليفاً أساسيا في الحرب ضد الجهاديين.

لعبت وحدات حماية الشعب الكردية دوراً رئيسياً في هزيمة داعش

نزعة للاستقلال وتهميش

بسبب نزعتهم للاستقلال في كردستان موحدة وجد الأكراد أنفسهم في الدول الأربع التي يتوزعون عليها في نزاع مع الحكومات المركزية التي ترى فيهم تهديداً لوحدة أراضيها.

في سوريا، عانى الأكراد على مدى عقود من تهميش واضطهاد مارسهما بحقهم النظام البعثي. وعندما اندلع النزاع بين النظام والمعارضة في 2011 وقف الأكراد على “الحياد”. وأعلنوا في عام 2016 إنشاء “منطقة إدارة ذاتية” واسعة في شمال البلاد، مؤلفة من ثلاث أجزاء، أثار تشكليها عداوة قوات المعارضة وعدائية من تركيا المجاورة.

في تركيا، استؤنف النزاع المسلح بين القوات الحكومية وحزب العمال الكردستاني في صيف 2015، ما بدّد آمال حل هذه الأزمة التي أودت بحياة أكثر من 40 ألف شخص منذ عام 1984.

وأطلقت أنقرة في 9 تشرين الأول/أكتوبر عملية جديدة ضد القوات الكردية في شمال شرق سوريا، مثيرةً احتجاجاً دولياً، بعد عمليتين سابقتين في هذا البلد عام 2016 ومطلع عام 2018 لطرد جهاديي تنظيم “الدولة الإسلامية” ومقاتلي وحدات حماية الشعب عن حدودها.

يسعى أكراد العراق إلى الاستقلال

حكم ذاتي

في العراق، استغل الأكراد الذين اضطهدهم نظام صدام حسين الهزيمة التي مني بها بعد انسحابه من الكويت فقاموا بانتفاضة ضده في 1991 وأقاموا بحكم الأمر الواقع حكماً ذاتياً في إقليمهم بشمال العراق، أقر رسمياً في 2005 بموجب الدستور العراقي، الذي أنشأ جمهورية اتحادية.

في إيران، تدور بين الفينة والأخرى اشتباكات بين قوات الأمن ومتمردي حزب الحياة الحرة الكردستاني (بيجاك) الذي توجد قواعده الخلفية في العراق. وكانت إيران شهدت بعد “الثورة الإسلامية” في 1979 انتفاضة كردية قمعتها السلطات بشدة.

ينقسم الأكراد الذين لم يسبق لهم أن عاشوا تحت سلطة مركزية إلى عدد لا يحصى من الأحزاب والفصائل والحركات، موزعة على الدول الأربع. وهذه الحركات، التي تكون أحياناً عابرة للحدود، غالبا ما تناصب بعضها العداء اعتماداً بالخصوص على تحالفات كل منها مع الأنظمة المجاورة.

ففي العراق، خاض أبرز فصيلين كرديين “الاتحاد الوطني الكردستاني” و “الحزب الديموقراطي الكردستاني” حربا بين 1994 و 1998. ثم تصالحا في العام 2003. وأوقع القتال بين الفصائل الكردية 3 آلاف قتيل.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

معاهدة سيفر

بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، جاءت معاهدة سيفر عام 1920 لتمنح الأكراد الأمل في إنشاء دولة مستقلة لهم. غير أن رفض حكومة أتاتورك الاعتراف بالمعاهدة جاء بمعاهدة جديدة، وهي معاهدة لوزان، التي غيرت موازين القوى لصالح تركيا وأجهضت حلم تأسيس الدولة الكردية المستقلة.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

جمهورية مهاباد

في الثاني والعشري من يناير/ كانون الثاني من عام 1946، ولدت جمهورية مهاباد الكردية بدعم من الاتحاد السوفييتي. واتخذت الجمهورية الكردية من مدينة ماهاباد في أقصى شمال غرب إيران عاصمة لها. وكان قاضي محمد ومصطفى البارازاني مؤسسي الجمهورية. لكن بسبب تراجع الدعم السوفييتي بسبب ضغوط إيران، سقطت الجمهورية بعد شهور من تأسيسها.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

ثورة الشيخ سعيد بيران

في عام 1923 أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة. وبعد أقل من عامين على تأسيسها، واجهت الدولة الفتية أول انتفاضة كبرى قام بها الأكراد في جنوب شرق تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران. الانتفاضة كانت ضد سياسة القمع التي تتبعها حكومة أتاتورك ضد الأقلية الكردية. لكن سرعان ما تم قمع التمرد، وأُعدم الشيخ بيران.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

الأزمة مع العراق

في عام 1974 تأزمت العلاقة بين الحكومة العراقية والحزب الديمقراطي الكردستاني بعد مطالبة الملا مصطفي برزاني بالحصول على آبار نفط كركوك ودعا الأكراد إلى ثورة جديدة ضد الحكومة العراقية.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

اتفاقية الجزائر 1975

وقعت هذه الاتفاقية بين الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وشاه إيران آنذاك محمد رضا بهلوي، وأشرف عليها الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، وكان الهدف منها هو وقف النزاعات بين الدولتين حول الحدود. لكن بعد إلغاء صدام حسين للاتفاقية، انهارت الانتفاضة الكردية بسبب انقطاع دعم إيران لها.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

مجزرة حلبجة

في عام 1988، تعرضت مدينة حلبجة الكردية لغارات بالسلاح الكيماوي في إطار ما عُرف بحملة “الأنفال”، التي قام بها النظام السابق برئاسة صدام حسين ضد الأكراد. يذكر أن الهجوم الكيماوي على حلبجة أسفر عن مقتل ما بين 3500 إلى 5000 شخص، وفقاً لمصادر مختلفة، فيما قدر عدد المصابين بحوالي عشرة آلاف شخص.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

انتفاضة 1991

بدأت قوات من الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي انتفاضة ضد الحكومة العراقية إثر غزو الكويت. لكن سرعان ما أخمدها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالقوة، ما تسبب في نزوح أكثر من مليون كردي إلى دول الجوار.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

أزمة الاستفتاء

في سبتمبر/ أيلول عام 2017 أعلن رئيس إقليم كردستان، مسعود برزاني، عن إجراء استفتاء شعبي لاستقلال الإقليم عن العراق. لكن ذلك قوبل برفض شديد من الحكومة في بغداد. كما رفضت الأمم المتحدة الإشراف على عملية الاستفتاء.

هزائم تاريخية أجهضت حلم “الدولة الكردية“

سقوط عفرين

بعد حملة عسكرية استمرت ثمانية أسابيع لإخراج وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة عفرين بشمال سوريا، سيطرت القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها في الثامن عشر من مارس/ آذار 2018 على مدينة عفرين، التي شكلت أحد “الأقاليم” الثلاثة التي أنشأ الأكراد فيها الإدارة الذاتية. إعداد: إيمان ملوك

مجددا يقدم الزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان مبادرة لإيجاد حل للصراع بين الحكومة التركية والمسلحين الأكراد. وقال أوجلان عبر محاميه إن بإمكانه وقف هذا الصراع خلال أسبوع مشددا على أن الأكراد لا يحتاجون لدولة منفصلة.

قال محامون يمثلون زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان اليوم الخميس (الثامن من آب/ أغسطس 2019) في بيان إن موكلهم قال إنه مستعد للتوصل إلى حل للمسألة الكردية وأن بإمكانه وقف الصراع بين تركيا والمسلحين الأكراد خلال أسبوع.

ووفقا للبيان، قال أوجلان أيضا إنه ينبغي على الحكومة التركية اتخاذ الخطوات الضرورية لتنفيذ أي حل. كما نقل المحامون عن الزعيم الكردي قوله إن الأكراد لا يحتاجون إلى دولة منفصلة في ظل وجود إطار عمل يجدون فيه مكانا لهم بما يتسق مع العلاقات التاريخية التركية الكردية.

وذكر موقع “روداو” الكردي نقلا عن “محامي مكتب أسرين” الحقوقي المعني بالدفاع عن الزعيم الكردي قولهم إن اللقاء مع أوجلان “تمحور بالدرجة الأولى حول التطورات التاريخية الحاصلة بين الأكراد والأتراك، إلى جانب العمليات القتالية الجارية“.

كما نقلوا عنه، حسب الموقع، أنه يسعى لتأمين موقعٍ للأكراد قائلا: “باستطاعتي إيقاف الحرب خلال أسبوع. يمكنني إيجاد حل، وأنا واثق من ذلك، ولكن يجب على الدولة (التركية) القيام بما يجب عليها القيام به، والأمر ذاته ينطبق على عقلية الدولة“.

وتابع البيان أن “أوجلان أعرب عن قلقه من الإصرار على سياسيات الحرب، ومن التوتر الحاصل، وأنه أكد على أن استمرار الأوضاع الحالية سيؤدي إلى عواقب أشدّ خطورة، وعلى الجميع إدراك ذلك“.

وأوجلان هو مؤسس حزب العمال الكردستاني الذي حمل السلاح في تمرد على الدولة التركية منذ عام 1984، وهو محتجز في سجن على جزيرة إيمرالي منذ 1999. كما يحظى باحترام أنصار حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد الذين يعتبرونه عنصرا أساسيا في أي عملية للسلام.

ورفعت السلطات التركية حظرا فرض على زيارة أوجلان منذ 2011 في أيار/ مايو الماضي والتقى به محاموه وقتها للمرة الأولى منذ ثماني سنوات. وقال المحامون في البيان إنهم التقوا به مجددا أمس الأربعاء.

وشهدت تركيا بعض أسوأ موجات العنف في الصراع المستمر منذ عقود بعد انهيار وقف لإطلاق النار في 2015 أبرم بعد سنوات من محادثات السلام بين الجانبين. وقام أوجلان بدور أساسي في محادثات السلام.

الاكراد رابع اكبر مجموعة عرقية في الشرق الاوسط، يتوزعون على خمسة بلدان ويعانون من لعنة اللعبة السياسية للكبار التي حوّلتهم ورقة مساومة في اكثر من دولة في المنطقة. دفعوا عبر العصور ثمن تحالفاتهم الخاطئة احياناً، وصراعاتهم الداخلية التي حالت دون تأسيسهم دولة مستقلة تجمعهم رغم الادوار الاستراتيجية التي لعبوها اخيراً، اكان في العراق ام سوريا. فأسسوا كياناً شبه مستقل في الاولى، وخذلتهم واشنطن في الثانية بعدما تخلّت عنهم.

سراب دولة

يكاد يكون الغبن الذي لحق بهم ولعنة تقسيمهم على دول عدة، القاسم المشترك الاساسي الذي يجمع الاكراد تاريخياً، اكانوا في تركيا ام سوريا ام العراق ام ايران، ام حتى ارمينيا. تجمعهم اللغة وتفرّقهم اللهجة كما العقيدة والدين، رغم ان غالبيتهم من المسلمين السنّة.

يتأصل حلم الدولة الكردية في الوجدان الكردي منذ القرن الخامس قبل الميلاد، يوم نشأت امبراطورية ميديا طوال خمسين عاماً، شمال غرب إيران. والميديون يعتبرون اجداد الاكراد الذين يشيرون في نشيدهم الوطني الحالي الى انهم “ابناء الميديين”.

وقد تم تقسيم كردستان بين العثمانيين والصفويين اثر هزيمة هؤلاء في معركة جالديران العام 1514، رغم ان الاكراد كانوا الى جانب العثمانيين الذين وعدهم السلطان سليم الأول بزيادة نفوذ أمرائهم وإعفائهم من الضرائب.

ثم اتت الامبراطورية الاخمينية التي شكلت ثاني كيان كردي مستقل لتسعين عاماً تقريباً، قبل ان تنشأ دول كردية عدة، ارتبطت استمراريتها بالتحالفات والضغوط الخارجية والصراعات الكردية الداخلية.

وكانت النكسة التالية مع حركة يزدان شير العام 1853 التي استطاعت ان تسيطر على مناطق شاسعة جنوب غرب كردستان قبل ان تنهزم بفعل تخلي عدد من زعماء العشائر الكردية عنها إثر مصالحتهم مع السلطات التركية.

بعدها، العام 1880، انطلقت حركة شمزينان على الحدود التركية الإيرانية بقيادة الشيخ عبيد الله النهري. وانتهت ايضاُ بالفشل بعدما سُجن هذا الاخير في إسطنبول.

ورغم اتفاقية سايكس بيكو التي قضت العام 1916 بتقسيم كردستان، بقي سراب الدولة الكردية المستقلة حلم يعيشه الاكراد في الشرق الاوسط منذ ان اعترفت اتفاقية سيفر العام 1920 في مادتها السادسة بإعطائهم حق الحكم الذاتي. كما نوّهت المادة 64 منها بإمكان تأسيس دولة كردية مستقلة مقتطعة من الأراضي التركية، ومستثنية أكراد إيران والعراق وسوريا. الا ان الاكراد لم يتفقوا على شكل حدود دولتهم رغم ان العضو في جمعية صعود كردستان شريف باشا كان اقترح في مؤتمر باريس للسلام العام 1919 خطوطاً عريضة لكيان كردستان، يبدأ من حدود القوقاز فجبل سنجار والحدود الفارسية وصولاً الى جبل ارارات.

وإذا كان تطبيق اتفاقية سيفر جاء من ضمن سلسلة معاهدات وقّعتها دول المركز – ومن بينها الدولة العثمانية – اثر هزيمتها في الحرب العالمية الاولى وتقسيم بلدان الشرق الاوسط بين الانتدابين البريطاني والفرنسي، الا ان اياً من بنودها المتعلقة بحقوق الاكراد لم يطبّق.

وجاءت معاهدة لوزان بعد ثلاثة اعوام (1923) لغرز مسمار اضافي في نعش الاحلام الكردية التي وضعت الحدود الحالية لدولة تركيا، بشكل لا يسمح بوجود دولة كردية.

وتم من بعدها على مدى اكثر من ثمانين عاماً سحق اي محاولة كردية لتأسيس دولة مستقلة، اكان في ايران ام سوريا ام العراق ام تركيا.

اكراد العراق

يمثل اكراد العراق الشعب الاكثر حظوة بين اكراد المنطقة. حصلوا على مر التاريخ على امتيازات مدنية عدة رغم تعرضهم على فترات متفرقة لقمع شديد، خصوصاً بسبب تحالفاتهم الخارجية التي خذلتهم اكثر من مرة.

فهم ثاروا ضد الحكم البريطاني في فترة الانتداب بدعم تركي مباشر ولا سيما مع حركة الشيخ محمود الحفيد الذي تنقل تعاونه بين الاتراك والايرانيين، منصّباً نفسه ملكاً على كردستان قبل ان ينتهي حلم الدولة الكردية بعد إلحاق كردستان الجنوبية بالدولة العراقية العام 1921، رغم ان غالبية الشيوخ الاكراد صوتت لصالح الانضمام إلى الدولة العراقية في الاستفتاء اثر وعد بريطاني بكيان خاص في كردستان الجنوبية.

بعدها قاد الشيخ أحمد وأخوه الملا مصطفى البرزاني في شمال العراق انتفاضة مسلحة استمرت حتى العام 1932، واستأنفها الملا مصطفى العام 1945 مؤسساً الحزب الديمقراطي الكردستاني من أجل الاستقلال في اقليم كردستان. وفيما انتقل للقتال الى جانب اكراد ايران بدعم سوفياتي لدى قيام جمهورية مهاباد الكردية هناك عام 1946، صدر حكم بإعدامه في كل من ايران والعراق فيما هو لجأ الى الاتحاد السوفياتي.

وبعد ثورة 1958، اعترف الدستور العراقي الجديد بالقومية الكردية، لكن الحكومة المركزية رفضت خطة بارزاني للحكم الذاتي، فأعلن حزبه القتال المسلح الى ان تم التوصل الى بيان 11 آذار 1970 لوقف القتال. والبيان بمثابة اتفاق كردي- عراقي على الاعتراف بالوجود الشرعي للاكراد وإقرار حقوقهم الثقافية والقومية اضافة الى اجراء مفاوضات لحل المسألة الكردية على أساس حكم ذاتي للأكراد ضمن الوحدة الوطنية، مما اثار حفيظة كل من تركيا وايران بفعل استنهاض الشعور القومي الكردي فيهما.

وفيما كان الاكراد يشعرون بالعزلة في هذه الفترة، تحدث اكثر من مرجع عن دعم اميركي- اسرائيلي لهم بغض نظر مباشر من الشاه الايراني، اذ نقل تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “إننا نتفق مع الشاه في ضرورة عدم حسم الوضع الكردي إلى هذا الجانب أو ذاك)

وبالفعل اتت اتفاقية الجزائر بين شاه ايران وصدام حسين العام 1975 حول الحدود في شط العرب لتخنق الثورة الكردية بعدما تخلت ايران عن دعمها لهم فيما لم تتحرك، لا واشنطن ولا تل ابيب لوقف الاتفاقية. ويقول تقرير اللجنة الخاصة التي شكلها الكونغرس الأميركي برئاسة أوتيس بايك إن شاه إيران لم يعتبر مساعدته للحركة القومية الكردية في العراق سوى “ورقة يلعب بها في النزاع مع جيرانه” (

وفي المقابل فإن بغداد، بعد انتصار الثورة الإيرانية في شباط 1979 ، عمدت إلى مدّ يد العون إلى اكراد ايران مشجعةً إياهم على مواجهة السلطة الجديدة. فرد لها اكراد العراق “الجميل” بدعم طهران خلال الحرب العراقية- الايرانية في الثمانينيات، الى ان جاء انتقام صدام حسين مدوياً العام 1988 عبر عملية حلبجة التي استعمل فيها الغازات السامة ضد الاكراد المدنيين. وفي تلك الفترة، انقسم اكراد العراق بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود برزاني المتعاون مع إيران، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني المتعاون مع الحكومة العراقية.

الا ان هزيمة العراق في حرب الخليج العام 1991 سمحت للأكراد بالإنتفاضة مجدداً، ومن ثم بالتمتع بحكم ذاتي بعدما فرضت الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها منطقة حظر جوي على شمال العراق. فكان صدور القرار الاممي الرقم 688 في تلك السنة، بمثابة اول اعتراف دولي بالكيان الكردي رغم انه بقي على الورق نظراً الى انه لم يكن ملزماً للحكومة العراقية.

وقد اتفق الحزبان على تقاسم السلطة قبل ان يشتعل الصراع الداخلي بينهما لأكثر من 4 سنوات. ومن المفارقة إن ولاء الحزبين كان تبدل، فاستعان حزب برزاني بالحكومة العراقية عام 1996 لاستعادة أربيل من حزب طالباني الذي كان يتعاون مع إيران في تلك الفترة.

بعدها وقع الحزبان اتفاق الصلح في واشنطن (العام 1998) بحضور وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت. وقد تعاونا مع القوات الاميركية لدى دخولها العراق العام 2003 لإطاحة صدام حسين. ثم شاركا في كل الحكومات العراقية التي تلت، كما في التحالف الحاكم في الحكومة الإقليمية الكردستانية، التي شكلت عام 2005. وكانت العلامة البارزة انتخاب اول برلمان كردي العام 2005 والاستفتاء على “كردستان مستقلة” الذي جاء بنتيجة 98.8%.

وقد تثبت الدور الكردي في ما بعد في حربه ضد تنظيم داعش وطرده خارج اراضيه، فبقي لاعباً شبه مستقل داخل الدولة العراقية.

اكراد ايران

ارتبط اكراد ايران الى حد كبير بأكراد العراق نظراً الى المساحة الجغرافية التي جمعتهم مراراً رغم تقلبات تحالفاتهم على مر السنين.

فالحركة الاستقلالية الاولى بدأت مع إسماعيل آغا شيخا في إقليم أورمية، حيث استطاع العام 1920 أن يقود حركة مسلحة ضد السلطة المركزية في إيران، قبل ان تغتاله السلطات الإيرانية بعد 10 اعوام بعدما استدرجته للتفاوض.

واتى اعلان جمهورية كردستان بمعاونة قوات الاتحاد السوفيتي في مدينة مهاباد غربي ايران العام 1946 بمثابة علامة فارقة في التاريخ الكردي، وشهد آلاف الأكراد على رفع العلم الكردي لأول مرة، وأصبح قاضي محمد رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني رئيسا للجمهورية مستفيداً من عدم الاستقرار الذي كانت تشهده ايران بفعل الحرب العالمية الثانية. الا ان القوات الايرانية اقتحمت اراضي مهاباد بعد بضعة أشهر لتقضي على اول تجربة لدولة كردية بعدما وقف الاتحاد السوفياتي متفرجاً امام اعدام رئيس كردستان وسط ساحة مهاباد في اعقاب ما قيل انها وعود من شاه ايران لموسكو بالاستثمار والكشف عن آبار البترول في إيران لمصلحة الاتحاد السوفياتي.

ولم تتوقف التجربة الكردية مع ايران هنا، لا بل استعاد حرس الثورة الايرانية بعد ثورة الامام الخميني الاراضي الشاسعة التي كان يسيطر عليها اكراد ايران في الثمانينيات من القرن الماضي. فتوجه الثوار الاكراد الى العراق حيث اقاموا معسكرات تدريب لهم هناك بدعم مباشر من الرئيس العراقي صدام حسين الذي تعاون معهم خلال الحرب الايرانية -العراقية.

وقد اتُّهمت طهران باغتيال الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران عبد الرحمن قاسملو في فيينا العام 1989 بعدما استدرجه ممثلون للحكومة الإيرانية للمفاوضات بغية التوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية في إيران.

اتراك الجبل

في تركيا، وعلى مدى اجيال، حاولت الدولة طمس هوية الاكراد الذين يشكلون نحو 15% من السكان (20 مليون كردي) ، وكان يُطلق عليهم لقب “اتراك الجبل”، خصوصاً بعد الثورة الاولى العام 1925 التي اودت بنحو مليون ونصف مليون كردي وفق مذكرات جواهر لال نهرو. وتكررت حركات التمرد في ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل منع الدولة التركية عنهم الازياء الكردية كما الكثير من الاسماء التي ترمز الى هويتهم، ناهيك عن لغتهم الام.

وقد اتخذ الصراع الكردي طابع المواجهة العنيفة مع حزب العمال الكردستاني الذي اسسه عبد الله اوجلان العام 1978 مطالباً بالإستقلال عن تركيا، قبل ان يبدأ صراعه المسلح العام 1984، ما ادى الى مقتل اكثر من 40 الف كردي، واعادة توطين مئات الآلاف بعيداً عن بلداتهم.

محاولات هدنة وسلام عدة تبعت في ما بعد، ابرزها في آب 1998، تخللها نفي اوجلان الى سوريا، فروسيا وايطاليا واليونان ومن ثم السفارة اليونانية في كينيا حيث نفذت الاستخبارات التركية عملية معقدة للقبض عليه اثناء انتقاله من كينيا الى هولندا في شباط 1999، ما ادى الى انتهاء الهدنة بين الطرفين، قبل ان تعلن هدنة جديدة في العام نفسه. وقد حُكم اوجلان بتهمة الخيانة العظمى وتأسيس منظمة ارهابية مسلحة، وحكم عليه بالإعدام، قبل ان يخفف الحكم الى السجن المؤبد العام 2002.

وفي العام 2012، بدأت محادثات سلام بين الحكومة التركية وحزب العمال، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة، على ان يتراجع مقاتلو الحزب إلى شمال العراق، لكن الاشتباكات استمرت بين الطرفين. وقد اتهمتهم الحكومة التركية بتلقي الدعم من اسرائيل ومن الولايات المتحدة الاميركية، كما بالتعاون مع النظام السوري، ولا سيما خلال الفترة التي نفي فيها اوجلان الى سوريا حيث اقام معسكرات تدريب لمسلحيه هناك وفي لبنان.

وبفعل وجوده في شمال العراق، ساهم الحزب الى جانب الاحزاب الكردية العراقية الكردية الاخرى في محاربة تنظيم داعش، بتشجيع ودعم اميركي وغربي، افاد منهما للإستمرار في حربه الداخلية في تركيا.

اكراد سوريا

ظهر الدور الكردي في سوريا مع مناهضة الانتداب الفرنسي العام 1920 مع إبراهيم هنانو الذي اتفق مع بعض زعماء العشائر الكردية على اعلان الثورة على الفرنسيين. وتم تأسيس أول تنظيم سياسي كردي باسم الحزب الديمقراطي الكردي العام 1957، مستقطباً قطاعات كردية سورية عدة، لكنه ما لبث ان تعرض مناصروه للملاحقة في مرحلة الوحدة السورية- المصرية. فانقسم الى حزبين شرذما القوة الكردية الى اربعة احزاب اجتمعت في ما بعد تحت اسم التحالف الديمقراطي الكردي الذي بقي يعمل بشكل سري حتى العام 2000 حيث ظهر الى العلن.

وبقي الاكراد على حياد خلال الثورة السورية، محافظين على المناطق التي يسيطرون عليها في ظل تضييق الخناق عليهم من تركيا التي كانت تخشى تعاونهم مع حزب العمال الكردستاني التركي، لا بل سعت الى دعم تنظيم الدولة الاسلامية عبر تحويل مدنها الحدودية بين 2013 و2014، مراكز لوجستية رئيسية للمقاتلين الاجانب الذين دخلوا الى سوريا والعراق للإنضمام الى داعش والتنظيمات الجهادية التي تدور في فلكه.

ولم تؤثر احداث القامشلي (اشتباكات العام 2004 اثناء مباراة رياضية ذهب ضحيتها العديد من الاكراد) في الحركة الكردية التي حجزت لنفسها دوراً اقليمياً خلال حربها على تنظيم داعش بدعم اميركي وغربي مباشر واستردادها الاراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم.

وباتت “قوات سوريا الديمقراطية” (وقوامها نحو 60 الف مقاتل) المدعومة من التحالف الدولي تسيطر على نحو ثلث مساحة سوريا، شرق نهر الفرات بعد استعادتها من قبضة تنظيم “الدولة الاسلامية”، بحيث انها كانت تسيطر على 90% من موارد الثروة النفطية السورية اضافة الى 45 في المئة من إنتاج الغاز، ناهيك عن العديد من السدود الاستراتيجية. ففي محافظة ديرالزور، تسيطر على حقلي العمر والتنك للنفط. وفي محافظة الحسكة، تسيطر على حقول الرميلان والسويدية والشدادي والجبسة والهول واليوسفية النفطية كما على حقلي رميلان والجبسة للغاز.

وفي اعقاب اعلان واشنطن في كانون الأول 2017 إنشاء قوة حدودية قوامها 30 ألفا مقاتل، عمادها الأساسي قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، بدأ الهجوم العسكري التركي على عفرين منعاً لنشوء اي كيان كردي مستقل، مما ادى الى انسحاب وحدات حماية الشعب الكردية بعد شهرين نحو مناطق تمركز القوات الأميركية، ومن ثم انسحبت من منبج ايضاً.

الا ان اعلان الرئيس الاميركي سحب القوات الاميركية من سوريا وضع الاكراد في المدن الحدودية والداخلية في وضع حرج جداً بحيث لم يبق امامها سوى عقد صفقة مع النظام السوري لمواجهة القوة التركية المفرطة، ولا سيما الجوية منها، خصوصاً ان موقف روسيا التقى مع الموقف التركي لجهة اعتبار الاكراد “اانفصاليين” كما قال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، في سعي من موسكو لتوسيع الاختلاف بين واشنطن وانقرة من جهة، وانقرة ودول حلف شمال الاطلسي من جهة اخرى.

ويبدو ان لا مفر من الصفقة مع النظام السوري في ظل الحشود العسكرية من قبل النظام وحلفائه في الشرق السوري بحيث بات الاكراد بين فكّين.

واللافت ان الاعلان الاميركي بالإنسحاب من سوريا تزامن مع موافقة واشنطن على بيع نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت ” إلى تركيا. كما مع تسريب صحيفة واشنطن بوست مكالمة بين الرئيسين الاميركي والتركي في 14 كانون الاول 2018 لفت فيها اردوغان الى “عجزه عن فهم استمرار الولايات المتحدة في تسليح المقاتلين الاكراد السوريين ودعمهم لشن حرب برية على داعش”. فرد ترامب بالقول: “تعرف ماذا؟ هي (سوريا) لك. انا سأخرج”.

القضية المنسية

في الخلاصة، اينما كان الوجود الكردي، فإنه سعى الى إقامة تحالفاته، اكانت شرق اوسطية وفي بلدان الجوار (مثل تركيا وايران)، ام خارجية مع الغرب (الولايات المتحدة الاميركية وروسيا واوروبا) من اجل ضمان استمرار وجوده، ما حوّله الى ورقة تفاوض بالنسبة الى هذه الدول التي استغلته بهدف تأمين نفوذها ومصالحها السياسية والجيو سياسية والاقتصادية في ازدواجية معايير جعلتها تدعم اكراد الدول المجاورة فيما تضطهد الاكراد على ارضها.

وقد باتت العلاقات الكردية على مر السنين تبنى على اساس تناقضات الدول التي تقاسمت كردستان، والتي كانت ترى في القضية الكردية تهديداً اكبر بالنسبة اليها مما تشكله اختلافاتها مع جيرانها في ظل تجاهل عربي شبه تام لها، حولها الى “قضية منسية” الا في الوجدان الكردي.

وقلما ما شهدت القضية الكردية تقاطعاً للمصالح بين نزعتها الاستقلالية ومطامع الدول الكبرى، باستثناء كردستان العراق التي حققت بعض طموحاتها بفعل نتائج الحرب العراقية. فأسهم الربيع العربي وحربا سوريا والعراق في خروج القضية الكردية مجدداً الى الضوء بعدما بات للاعب الكردي دور اساسي فيها بحيث تحوّل وجوده الى مسألة استراتيجية لتأمين المصالح الغربية.

فهل يبقى العنصر الكردي على جهوزيته ليكون موضع استثمار من جانب القوى الدولية والإقليمية كما كان دوماً؟

المصدر