جسار صالح المفتي
تتعزز دسترة الحقوق والحريات وتنجز وظائفها في حماية هذه الأخيرة وصيانتها، حين تكتمل عناصر دولة القانون وتتم مأسستها، فما الذي يجعل دولة القانون ضامنة الحقوق والحريات التي أقرتها الدساتير واعترفت بوجودها؟. سيكون مجديا بداية الإشارة إلى الجدل الفقهي الذي أغنى مفهوم دولة القانون وساهم في تأصيله، قبل صيرورته متداولا في النظر السياسي. وفي هذا الصدد، يتميز الفقه الألماني بقدر كبير من الريادة والعمق في صياغة نظرية متكاملة حول المفهوم53 .
**توزع الفقه الألماني تصوران، يروم الأول تقييد الحضور الكلي والمهيمن للدولة قصد حماية الحريات الفردية بواسطة سن القوانين وإقامة المحاكم المستقلة، في حين يسعى الثاني إلى اعتبار القانون أداة للتنظيم العقلاني للدولة، ووسيلة لخلق نوع من الملاءمة بين هذه الأخيرة والمحكومين.
*فالجوهري عند التصور الأول استناد الدولة في علاقتها بالأفراد إلى قواعد عامة وضوابط موجودة سلفا، حيث يصبح التمييز واضحا بين “دولة القانون” Etat de droit، والدولة البوليسية ¶ Etat de police.
*فالدولة البوليسية، خلافا للحكم الاستبدادي أو حكم الغلبة، تعطي حيزا واضحا للقانون، باعتباره وسيلة بيد الإدارة تستعملها بحرية مطلقة، قصد تحقيق انصياع الأفراد له، دون أن تخضع في ذلك لأية ضوابط أو قواعد سامية، أو كما كتب عن ذلك “كاري دومالبرغ C. demalberg. “قائلا” تتحق الدولة البوليسية حين تكون السلطة الإدارية قادرة، بطريقة تقديرية وحرية مطلقة، على جعل المواطنين خاضعين للإجراءات التي تراها ضرورية لمواجهة الظروف وتحقيق الأهداف المتوخاة 54 ” . لذلك، تنهض الدولة البوليسية، وفق هذا المعنى، على “حسن فعل الأمير”، حيث لا وجود لأي تقييد قانوني لعمل السلطة، ولا حماية فعلية للمواطنين إزاء هذه الأخيرة. بيد أن دولة القانون، وهذا ما يميزها عن الدولة البوليسية، لا تعتبر القانون مجرد وسيلة عمل للدولة، بل أداة لتقييد سلطتها، فهي بتعبير “كاري دومالبرغ” “تهدف إلى حماية المواطنين والدفاع عنهم ضد تحكم واستبداد سلطات الدولة”55 .
*في حين تروم نظرية “دولة القانون” تأكيد سمو القانون على الإدارة على صعيد التطبيق والممارسة. فالدولة لا تكتفي بالامتناع عن التدخل بشكل مخالف للقانون، بل هي مجبرة على التصرف وفق قواعده وأحكامه. لذلك، لاتعني نظرية دولة القانون عند الفقهاء الألمان استحالة فرض الإدارة والالتزامات القانونية على الأفراد فحسب، بل يقصد بها إجبارية إحترامها الشرعية القانونية أيضا56.
ينطوي الفقه الألماني على العديد من الاجتهادات في تحليل نظرية “دولة القانون” والقضايا المرتبطة بها. فهي ليست “دولة محكومة بالقانون” فحسب، بل خاضعة له أيضا، الأمر الذي دفع بعض الفقهاء إلى استبعاد الفكرة القاضية بعدم إخضاع الدولة للقانون، باعتبارها وحدة متمتعة بسلطة السيطرة والهيمنة. بيد أن جدلا واسعا أثير حول الموضوع منطلقا من التصور القاضي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، بان الدولة، باعتبارها شخصا قانونيا، هي صاحبة الحق الأصلي والوحيد في السيادة لا يشاطرها في ذلك المحكومون ولا الأمة، فهي شخص قانوني مستقل متمتع بمجموعة من الحقوق دون سواه، كما أنه يحتكر سلطة الإكراه، أي القدرة على إصدار الأوامر والنواهي، فهي بالنتيجة المصدر الوحيد للقانون، مما يعني أنها الكفيلة بتضمين القانون القوة الإلزامية الضرورية لتطبيقه.
**تتميز النظرية الفرنسية، خلافا لنظيرتها الألمانية، بوجود إرث مؤسس في مجال العلاقة بين الدولة والمجتمع قبل الثورة (1789) وبعدها. فخلال النظام القديم سعى الفرنسيون إلى تأسيس نظام قانوني تراتبي ordre juridique hiérarchique لتقييد السلطة الملكية المطلقة، وإخضاعها لقواعد سامية عليا، وجعلها مصدر وجودها واستمرارها، بيد أن الثورة الفرنسية، وما حملت من قيم ومبادئ 57، ستخول الفرنسيين إطارا مرجعيا لإعادة صياغة مشروعية الدولة والسلطة، وتجديد العلاقة بين الحكام والمحكومين، إنه مفهوم “الأمة” Nation صاحبة السيادة ومصدر القوانين والتشريعات . فالتراتبية الجديدة قضت بوجود تسلسل من القواعد تتصدره “الحقوق الطبيعية للإنسان” غير القابلة للمس، المعترف بها من طرف المجالس التمثيلية ” تليها إعلانات حقوق الإنسان والمواطن”، ثم الدستور” و”القوانين” و”القواعد” الأدنى منه درجة. لذلك، يتوجب على الدولة وأجهزتها احترام هذه الهرمية، وعدم خرق النظام المتضمن فيها. فهكذا، ساهمت التراتبية الناشئة بعد الثورة، المزامنة للنظام الجديد، في تشكيل صورة جديدة لمفهوم “دولة القانون” لدى الفقه الفرنسي. فالحاصل عند “كاري دومالبرغ” أن فرنسا لاتطبق نظام “دولة القانون Etat de droit، بل نظام الدولة القانونية le système de l’Etat légal 58، مبرزا الفرق بين الوضعيتين، حيث يقيد القانون نشاط الدولة في الحالة الأولى، وتكون الأسبقية للدستور، دون أن يتعرض القانون لأي شكل من أشكال الاعتراض، في حين نكون في الحالة الثانية، أي دولة القانون، أمام وضعية تكفل حماية الأفراد وصيانة حرياتهم، حيث تكون الحقوق في منأى عن كل خرق أو مس من أية جهة، بما في ذلك الجهاز التشريعي. فهكذا، تكون الدولة القانونية إطارا لتنظيم السلطات، في حين تتحقق دولة القانون لتكريس مبدإ حماية حقوق الأفراد وحرياتهم.. فهل ظهر مفهوم “دولة القانون” لمقاومة “الدولة القانونية والحلول محلها؟.
شكل هذا السؤال جوهر النقاش حول علاقة “الدولة” ب “القانون” في الفقه الفرنسي المعاصر. فهكذا ، سيذهب “كاري دومالبرغ” إلى القول بأن الذي يبرر وجود الدولة من الناحية القانونية خضوع سلطتها للقانون، مستندا في ذلك إلى اجتهادات الفقيه “هوريو” ذات الشأن، معتبرا تقييد الدولة بالقانون يبدأ مع مأسستها وربط أجهزتها بمجموعة من القواعد والأحكام المنظمة لها . بيد أننا إذا تجاوزنا النقاشات التي طالت الفقه الفرنسي، وتحكمت في مدارسه وتياراته59 ، نشير إلى أهمية الجدل الذي أدخل البعد الديمقراطي في مقاربة العلاقة بين “الدولة” و”القانون” وتحليل مفهوم “دولة القانون” في الفكر السياسي الفرنسي. فأنصار “نظرية السيادة الوطنية” اعتبروا الدولة امتدادا للأمة وليست حدثا سياسيا اصيلا. لذلك، يؤسسون ميلاد الدولة وتكونها على فكرة الاتفاق أو قاعدة التعاقد، كما صاغتها الفلسفة العقدية عند كل من “هولز”، “لوك”، و “روسو”، مما يعني أن المصدر الاتفاقي لنشوء الدولة يتضمن قيودا على سلطتها ونشاط أجهزتها. فالدولة تظل مشروعة، أي مقبولة، طالما احترمت القانون المعبر عن الإرادة العامة بحسب روسو، غير أنها تتعارض مع المشروعية حين لا تكترث بالقوانين، فتتناقض مع الإرادة العامة، مما يسمح للأفراد بمعارضتها ومقاومتها بتعبير “جون لوك“.
لقد دشنت فكرة الربط بين الدولة والأمة، والدولة والتعاقد والتوافق، إمكانية إعادة تأسيس مفهوم “دولة القانون” وربطه بإشكالية الديمقراطية. فهكذا، سيتحول المفهوم إلى “ضمانة نظرية ووسيلة عملية لإعادة تقويم دور المجالس النيابية، بالتشديد أكثر على دور الرقابة الدستورية والقانونية وليس الضمانات السياسية، متيحا الفرصة لإبراز “الديمقراطية” كأساس لتقعيد مفهوم “دولة القانون”، علما أن الديمقراطية هنا لا تعني قانون الأغلبية وحسب، بل احترام قواعد اللعبة، والقيم المستبطنة فيها أيضا. فهكذا، يصبح القانون ، باعتباره أداة للتنظيم والضبط، عنصرا تأسيسيا للديمقراطية60 .
تجدر الإشارة إلى أن التطبيق السليم لدولة القانون يحتاج جملة من الظروف والضمانات كي ينغرس المفهوم في وعي المجتمع وثقافته السياسة، لعل أهمها: توسيع دائرة الشرعية، وتقوية الرقابة القضائية، وضمان علوية الدستور وسموه.
يقصد بـ”الشرعية” المرجعية التي يتم الاستناد إليها لفحص قانونية الشيئ، أكان نصا قانونيا، أم قرارا نابعا عن نشاط تنظيمي أو إداري. فإذا كان القاضي الإداري يتولى، منذ القديم، مراقبة شرعية النشاط الإداري، فإن دائرة تدخله ظلت محصورة في القانون دون أن تتجاوزه إلى ما هو أوسع واشمل لتمتد إلى باقي مكونات “كتلة الشرعية” Bloc de la légalité، بما في ذلك الدستور والمعاهدات، والمبادئ العامة للقانون ذات الأصل القضائي61 ، علما أن في توسيع دائرة الشرعية ما يساعد القاضي الإداري على ضمان التبعية القانونية للإدارة، وتحقيق رقابة أكثر لنشاطها.ففي ألمانيا مثلا، لم يتردد القاضي الإداري في الاستناد، علاوة على القانون، على القواعد المستنبطة من القانون الأساسي واستنتاجات المحكمة الدستورية، بخلاف فرنسا، التي استبعدت إمكانية مراقبة مدى ملاءمة العمل الإداري والتأويلات الصادرة عن المجلس الدستوري.
*تعتبر الرقابة القضائية Contrôle juridictionnel وسيلة أساسية لحماية “دولة القانون” وضمان تحققها، كما أن تقوية استقلالية القاضي الاداري من شأنها صيانة “دولة القانون” وفرض احترامها، بيد أن الاستقلالية وإن كانت شرطا ضروريا لاستتباب “دولة القانون” وانتظامها، فإن قيودا عديدة تحد فعاليتها على صعيد الواقع. ففي فرنسا مثلا، ظلت مجموعة من أعمال الجهاز التنفيذي في علاقتها بالسلطات العمومية الأخرى، أو تلك المرتبطة بسير العلاقات الدولية، مستبعدة من كل رقابة بحجة اندراجها ضمن أعمال السيادة62 ، علما أن جدلا فقهيا واسعا انتقد هذه النظرية، وتحفظ على وجود هذا النمط من الأعمال،التي سعى مجلس الدولة الفرنسي،لمدة طويلة، إلى تحصينها من رقابة القضاء63.
*لا يجادل اثنان في أن مراقبة دستورية القوانين شرط ضروري لدولة القانون، بدونها يغدو الدستور دون معنى، ويتحول إلى قيمة رمزية. فقد أكدت تجارب العديد من الدول بين الحربين أهمية المبدأ (النمسا 1919، تشيكوسلوفاكيا 1920، اسبانيا 1931)، كما أبان التزايد المتصاعد للمحاكم الدستورية ما بعد الحرب العالمية الثانية التراجع الواضح لهيمنة القانون، والوضع التفاضلي الذي ظل متمتعا به لمدة طويلة، الواقع الذي أكدته فكرة تخويل محاكم دستورية خاصة وظيفة الرقابة، كما حصل بالنمسا عام 1920 بتأثير من “هانسكلسن H. Kelsen” وانتشر في العديد من الأقطار الاوربية: ايطاليا (1947)، المانيا (1949)، فرنسا(1958)، تركيا (1961)، يوغوسلافيا (1963)، البرتغال (1976)، اسبانيا(1978)، اليونان (1979)، وامتد إلى الدول الاشتراكية، بولونيا (1982)، هنغاريا (1983)، الاتحاد السوفياتي سابقا (1988)64 . تجدر الإشارة في هذا المقام، إلى أن طرق عمل المحاكم الدستورية الموما إليها أعلاه، وطبيعة تدخلها، أثر على النظم السياسية وأسعفها في انتهاج سياسة قضائية حقيقية بسبب تمكن القاضي الدستوري من قواعده المرجعية بواسطة التأويل، كما هو شأن محكمة كارسوKarsruhe حين تحيل على نظرية القواعد الدستورية المفتوحة، أو عبر الاجتهاد في خلق قواعد انطلاقا من التقاليد السياسية، كما هو حال المبادئ السياسية المتضمنة في قوانين الجمهورية المستخلصة من طرف المجلس الدستوري الفرنسي65 . فالحاصل أن القضاء الدستوري أصبح متمتعا في جل الدول الليبرالية، بمكانة مركزية، بسبب مساهمته في ضمان ‘التوازنات الدستورية”، وحماية الحقوق والحريات، والتأثير الواضح في النظم السياسية إلى درجة تخوف هذه الأخيرة من انبعاث شبح “حكومة القضاة” gouvernement des juges ، كما حصل في تاريخ القضاء الأمريكي، حيث هيمنت المحكمة العليا على كل المؤسسات الدستورية وعطلت نشاطها.
تعد دولة القانون أبرز العناصر المكونة للديمقراطية، حيث أن هذه الأخيرة تعتد بعلوية القانون والتي تعكس سلطة الشعب. فإن من ركائز الديمقراطية التكريس الدستوري والتجسيد الفعلي لمفهوم دولة القانون، باعتبار وأن هذا الأخير يعتبر الضامن الرئيسي لقيام الأنظمة الديمقراطية وقد أدى التكريس الدستوري لمفهوم دولة القانون إلى عقلنة مجال تدخل واختصاص السلطة التنفيذية وذلك من خلال ضرورة احترام الأوامر وجل القرارات الإدارية للقوانين، حيث أن كل تدخل في مجال القانون من قبل الجهاز التنفيذي يعد خرقاً لمبدأ الشرعية. هذا المبدأ الذي يمثل الضامن الأساسي لمفهوم دولة القانون خصوصاً، والديمقراطية عموماً، تجنبا لكل مظاهر التعسف والديكتاتورية .
القانون؛ حسب إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789، هو تعبير عن الإرادة العامة للشعب الأمر الذي يؤسس لقدسية القانون. والتي تعكس رفض كل مظاهر التقيد لسلطة الشعب.
وضمن هذا السياق، يتجلي لنا الدور الفعال، المناط بعهدة القاضي الإداري الذي يسلط رقابة قضائية على جل القرارات الإدارية من خلال دعوى تجاوز السلطة التي من شأنها أن تؤدي إلي إلغاء كل قرار يعتدي علي مجال القانون ولكن نظراً لأهمية مبدأ استمرارية المرفق العام، الذي يحتاج بدوره لجملة من المتطلبات لعل من أهمها السرعة في اتخاذ القرار وسَنّ قواعد عامة ومجردة، معتمدة في ذلك على إجراءات مبسطة وغير معقدة لضمان حسن سير دواليب الدولة وفقاً لمبادئ الشفافية والنزاهة والنجاعة، الأمر الذي يساهم في تحقيق المصلحة العامة بمعنى الاستجابة للإرادة الشعبية. وضمن هذا الإقرار، تجدر الإشارة إلي جملة من التساؤلات وفي ظل تعدد متطلبات المرافق العامة، نظراً لاعتبارات سياسية، اجتماعية، اقتصادية وأخرى دولية، فإلى أي مدى يمكن توسيع مجال تدخل السلطة التنفيذية وتدعيم اختصاصها على حساب السلطة التشريعية بما هي سلطة الشعب؟ أليس من المجحف تقيد إرادة الشعب، بمعنى تحديد مجال تدخل السلطة التشريعية وبالتالي كل مادة تخرج عن مجال القانون المكرسة دستورياً، تعتبر من الاختصاص المبدئي للسلطة الترتيبية العامة ألا وهي السلطة التنفيذية؟ ألا يعد هذا مساساً بعلوية القانون؟ .
لاسيما وأن العديد من الدساتير فضلاً عن تحديدها لمجال تدخل القانون، سعت لتكريس منظومة دفاعية الغاية منها حماية مجال السلطة الترتيبية العامة، أي مجال الأوامر الترتيبية، من الاعتداءات والانتهاكات التشريعية. فلكان للسلطة الترتيبية اختصاص مبدئي في سن القواعد القانونية وفي المقابل للبرلمان اختصاص مسند. ألا يمثل هذا الإقرار انتهاكا صريحا لمفهوم دولة القانون وتهميشا لديمقراطية؟ ألم يكن من الأجدر تحديد مجال السلطة الترتيبية العامة من جهة وتدعيم مجال تدخل القوانين، بما هي تمثيل للإرادة الشعب، وحمايته من الانتهاكات الترتيبية من جهة أخرى؟
وعليه، إن التجسيد الفعلي لمفهوم دولة القانون يفترض بأساس تدعيماً دستورياً لاختصاص مجلس نواب الشعب أو البرلمان علي حساب مجال تدخل السلطة الترتيبية العامة. ليتجلى لنا البرلمان صاحب الاختصاص المبدئي في المادة التشريعية وفي المقابل السلطة الترتيبية العامة المعهودة لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، حسب الأنظمة السياسية المكرسة دستورياً، صاحبة الاختصاص المسند.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن الديمقراطية في بنيتها تعتد بعلوية القانون وإطلاقية مجاله، فهي تلك السلطة التي تنبثق من الشعب لخدمة مصلحة الشعب. فالقانون، حسب إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789، هو تعبير عن الإرادة العامة للشعب الأمر الذي يؤسس لقدسية القانون. هذه القدسية التي تعكس رفض كل مظاهر التقيد والحد من سلطة الشعب أو التعبير عن سيادته العامة، الأمر الذي يجعل منها ضامناً لحماية المجتمعات العربية من قيام الأنظمة الديكتاتورية.
وفي 22 آذار 1945 اقترع البريطانيون على خسارة تشرشل الذي قاد بلادهم إلى النصر في الحرب العالمية الثانية.. لم يفعل صاحب شارة النصر الشهيرة، شيئا سوى أن قال لسكرتيرته: ” ماذا نفعل ياعزيزتي.. إنها الديمقراطية التي ستجعلني أنصرف إلى هوايتي المفضلة.. الرسم والكتابة.”. وبعد سنوات يقترع الفرنسيون ضد التعديل الدستوري الذي اقترحه ديغول.. ولم يفعل الجنرال الذي حرر فرنسا من الألمان سوى أن وجه رسالة قصيرة للشعب جاء فيها:” اعتبارا من اليوم أتوقف عن ممارسة عملي رئيساً للجمهورية الفرنسية “
أوهم حسني مبارك نفسه بأن العناية الإلهية معه ولم يجد جوابا حين سُئل مرة عن خليفته في حكم مصر إلا أن يقول: “الله وحده يعلم من سيكون خليفتي، وأنا أفضّل من يفضّله الله”.. ومثله مثل العديد من مسؤولينا الأشاوس، اعتقد مبارك أن العناية الإلهية هي التي تختار الرؤساء، وهي وحدها من تملك الحق بابتعادهم عن الكرسي، ولهذا فلا علاقة للناس باختيار الحاكم،فهذا شأن مقدس لا يجوز الاقتراب منه.
في مقابل صورة المسؤول الملتصق بكرسيه، نشاهد يومياً صوراً لمسؤولين يعتبرون أنفسهم جزءاً من التغيير والتطور الذي يشهده العالم.. لم نسمع أحداً منهم يعتقد أنه وريث السماء وعلى الناس الهتاف بحياته.. ولم يقرر في لحظة عناد صبيانية ان يقطع التيار الكهربائي عن مجلس المحافظة، أو يضع مفاتيح مكاتب المحافظة بجيبه، متوهما أن المحافظة ملك شخصي له.
في عراق اليوم يصرّالعديد من مسؤولينا على المضي قدما في إعادة إنتاج نظام دكتاتوري جديد، ولهذا نراهم يرفضون مبدا التداول السلمي للسلطة محذرين من ان تتحول الخلافات على المناصب الى نزاعات مسلحة كما اخبرنا سعد المطلبي.. أو ان غياب دولة القانون عن السلطة، سيدفع بالبلاد الى فوضى، كما بشرنا كمال الساعدي.
لا أريد من هذا المقال، مقارنة ساستنا بديغول أو تشرشل.. فأكيد لا أحد منهم لديه هواية الرسم والكتابة.. وايضا لا أحد منهم يؤمن بالتداول السلمي للسلطة.. فنحن لا نملك برلماناً يذهب إليه المسؤول ليقدم كشف حساب بما قدمه للناس.. وما من قضاء يحاسب المخطئ.. لا شيء سوى دولة رئيس مجلس الوزراء، ومعالي مقربيه الذين أضاعوا عشرة أعوام من أعمارنا.
الأنظمة الديمقراطية تعطي الحق للناس بانتخاب من يمثلهم في المؤسسات التشريعية والتنفيذية.. لكن ديمقراطيتنا “العرجاء” تريد أن تنقل إلينا نموذج “الزعيم الأوحد”.. وحين نقول ياسادة، دورتان من السلطة ألا تكفي؟! يكون الجواب: إنهم وحدهم القادرون على إنقاذ البلاد من الكوارث، وإنهم ماسكو العراق، ولولاهم لانفرط عقده.
من سوء الحظ انه بعد سنوات ما يزال الكثير من سياسيينا يمارسون الخديعة والكذب، ومن سوء الحظ أيضا أن مسؤولين كباراً يتغنون بالديمقراطية كل صباح لكنهم لا يمانعون من الانقضاض عليها حين تتعارض مع مصالحهم الخاصة… لاديمقراطية الا لحزب واحد والباقي خونة ومتآمرون وينفذون أجندات خارجية.. لا مكان لأحد.
ما الذي علينا أن نتعلمه من تجارب الشعوب؟ إن الأمم لا تزدهر في ظل ساسة يعتقدون أنهم وحدهم يعرفون مصلحة البلاد.. فالعدالة الحقة لا مكان لها في ظل رجال يخططون من أجل الوصول إلى درجة من الإيمان، بأنه لا خيار أمام الناس سواهم..لأنهم وحدهم يملكون القوة والحزم، مستبدون يخيفون الناس، لكنهم عادلون في توزيع العطايا والمنح على مقربيهم، وعادلون أيضا في توزيع الظلم على الناس.. أدركت هذه الشعوب، أن الحل في دولة مؤسسات يديرها حاكم إنسان وليس نصف إله، يتغير كل فترة لكي لا يتوحد مع كرسيه، ويتصور أنه بطل منقذ.. اكتشف العالم أن فكرة دولة الخلاص إنما هي أوهام يصرّ المستبدون على زرعها في نسيج المجتمع.
اليوم الناس بحاجة الى بناء دولة حديثة. وهذا يعني أن كل “البكتيريا” المضرة التي تكونت على جسد مجالس المحافظات، لا بد من مكافحتها وازالتها باجود انواع “مبيدات” الديمقراطية.. فلامكان لمسؤول وسياسي يعتقد ان المنصب فرصة للاثراء بسرقة البلاد.. فالمكان فقط لدولة، تتحقق فيها الحريات العامة، ويجد فيها المواطن مناخا للتعايش لا للسيطرة من طرف واحد. هذه هي الديمقراطية التي لن تقف في انتظار اشارة مرور من سعد المطلبي، أو موعظة من كمال الساعدي.
في النظم الديمقراطية، يكتشف الشعب – من خلال ممثليه ومؤسساته – القوانين التي تصلح للزمان والمكان، وبالتالي يأتي القانون كحل تشريعي يوثق ما اتفق المجتمع على تطبيقه من نظم وأعراف. أما في النظم غير الديمقراطية، عادة ما تفرض القوانين من أعلى إلى أسفل، يفرضها الحاكم أو نظام الحكم السلطوي على الشعب. الفرق في الحالتين أن القانون عندما يفرض من أعلى وبصورة فوقية، فلا يمكن في الغالب تطبيقه لأنه يغفل اعتبارات المواءمة. وما يزيد الطين بلة أن النظم الشمولية لا تقبل تداول السلطة، وبالتالي تجتهد في التحكم في نتائج أي نوع من الانتخابات أو الاستفتاءات بحيث تصبح ديكوراً شكلياً لا يؤدي لأي نتيجة. ومع تفريغ العملية الانتخابية من مضمونها، يفقد المشرعون الشرعية التي تؤهلهم للتشريع وصياغة القوانين أو إقرارها، وبالتالي يتعامل الشعب مع هذه القوانين كأنها غير موجودة، أولاً لافتقاد المشرعين – والنظام ككل – الشرعية، وثانياً وهو الأهم، لأن تلك القوانين لا تصلح للتطبيق نظراً لأنها لم تأت من رحم التجربة الشعبية، وهنا ينشأ الانفصام القومي بين النظام والشعب، بين القانون والعرف، بين الممنوع والممكن، ويتولد عن هذه التناقضات الحادة فوضى منظمة متعمدة تشبه حالة من العصيان المدني غير المعلن، يعبر بها الشعب من خلال اللاوعي الجماعي عن رفضه لنظام لم يختره، ويعلن بصورة عملية عن عدم التزامه بقوانين لم يُسأل عند صياغتها ولم يشترك في إقرارها. وهنا تظهر العلاقة بين الديمقراطية وقيام دولة القانون. فبدون الديمقراطية، يصبح قيام واستمرار دولة القانون أمراً يتعين على السلطة أن تفرضه بالقوة والقمع، نتيجة لغياب الاتفاق العام وعدم وجود عقد اجتماعي، وفي النهاية رأينا من التجارب المختلفة أن مثل هذه النظم القمعية هي نظم مؤقتة غير قادرة على البقاء على المدى الطويل لأنها تحتوي داخلياً على عوامل متفجرة للفناء الذاتي السريع.
استشراء ثقافة خرق القانون تتسبب في انهيار النظام العام للمجتمع بما ينعكس على ضعف كل أوجه النشاط العام والخاص. وعلى سبيل المثال، يتأثر الاستثمار سلباً نظراً لضياع الحقوق وضعف قدرة الدولة على تطبيق القانون أو تنفيذ الأحكام، والميل العام الذي ينشأ لدى الشعب لعدم احترام النظام، علاوة على الطاقات المهدرة في ازدواجية النظم، كل هذا يؤدي لانخفاض تنافسية الاقتصاد وضعف معدل النمو، بما يتسبب في استشراء الفقر وبالتالي معدل الجريمة وهكذا. وكسر هذه الدائرة المفرغة يتطلب وجود قيادة تتمتع بالرؤية والمصداقية، تقود المجتمع نحو الاتفاق على عقد اجتماعي جديد. وهذا يتطلب أيضاً تشخيص المشاكل الحالية وتحليل مسبباتها بشجاعة والاتفاق على طريق إعادة البناء والمدخل الطبيعي لوضع هذا العقد الاجتماعي هو إقامة حوار وطني حقيقي بمشاركة ممثلين منتخبين لكل طوائف المجتمع ومجموعات المصالح المختلفة، حوار بين رجال الأعمال والنقابات العمالية، بين العلماء والأدباء وأصحاب الرأي والإعلاميين ورجال الدين، بين المجتمع المدني والأحزاب ومختلف الهيئات والمؤسسات، بين الآباء والأبناء، حوار بين الأجيال، حوار وطني يتمخض عن توافق وطني يرسم ملامح طريق المستقبل. إن هذا الاتفاق أو التوافق لابد أن تتم صياغته في النهاية في دستور مكتوب أو غير مكتوب، يصبح هو المرجعية الأولى لجميع أفراد ومؤسسات الدولة، لأنه يرسخ المبادئ التي يحتضنها الشعب في ضميره الجماعي، ويحفر تلك المبادئ بصورة لا تحتمل اللبس على جدران محراب العدالة .
إن هذا الدستور لابد أن يرسخ حقوق الإنسان، والبديهيات التي ضاعت أو تناساها الناس بسبب انشغالهم باصطناع الأوراق وتستيف المستندات والأختام بدلاً من أن يبحثوا عن الحقيقة ويحققوا العدالة. لابد أن يضع الدستور روح القانون بالسماح لا بالمنع، بأن تأتي القوانين لتنظم لا لتقمع وتتسلط، تأتي لتيسر على أفراد الشعب سعيهم للرزق والمبادرة الفردية والجماعية، لا لتعوق مثل تلك المبادرات بدعاوى خرقاء عفا عليها الزمن. يجب أن يصبح الأصل أن كل شيء مسموح وكل مواطن صادق وشريف ومصدق إلى أن يثبت عكس ذلك. يجب ألا ننشغل بتحري التفاصيل والإجراءات ظناً أن كثرة هذه التفاصيل واللوائح تمنع التجاوز، لأن التجربة أثبتت أن المبالغة في الإجراءات والتفاصيل إنما تفتح أبواباً واسعة للتحايل على القانون والفساد المنظم الذي تعيش فيه الدويلات الموازية التي تحدثنا عنها. لابد أن يأتي القانون ليشجع المبادرة، ويشجع النجاح، ويأخذ بيد من يتعثرون بحسن نية، يقيلهم من عثرتهم، لا أن ينصب المشانق للجميع فيعيش الشعب كله تحت نصل مقصلة انتقائية قد تهوي على أي شخص في أي لحظة. لابد من إعطاء السلطة والمرونة الكافية للعفو والتجاوز عن الأخطاء البسيطة غير المقصودة مع تحسين الأوضاع المادية والأدبية للعاملين في المنظومة القضائية على كل المستويات.
ربما تكون عملية تنقية القوانين هي أصعب جزء في عملية إعادة بناء دولة القانون. على مدى عقود طويلة واتجاهات سياسية مختلفة، ولدت ونمت وترعرعت غابة ضخمة من التشريعات المتشابكة والمتنافرة والمتعارضة. وهذا التنافر الذي نشأ نتيجة لتباين المرجعيات عبر الحقب المختلفة، لا يشوه القوانين واللوائح فحسب، ولكنه أيضاً يمتد ليشوه الضمير الجماعي للمجتمع، الذي يتجلى مثلاً في تناول أجهزة الإعلام للعديد من القضايا، وكذلك موقف الرأي العام منها. إن عملية إصدار قوانين جديدة لابد أن تحظى بحوار مجتمعي وخاصة بين مجموعات المصالح من نقابات ومنتجين ومستهلكين وجمعيات وتجمعات سوف تتأثر بتلك القوانين والتشريعات قبل أن تعرض على المجالس التشريعية. لابد أن يعلم الناخبون موقف ممثليهم في المجالس التشريعية من كل قانون يمس مصالحهم وحياتهم. أما أن تأتي الحكومة لتدفع بقوانين معدة سلفاً ليتم تمريرها في عجالة أو “سلقها” في جلسات منتصف الليل بالموافقة الشهيرة – مهما حسنت النوايا أو تعددت الخبرات – فهو استمرار لمسلسل التشريع من أعلى إلى أسفل بكل شروره. إن نجاح المنظومة القضائية مرهون أيضاً بتخفيف الحمل الثقيل من القضايا العبثية، ونقترح أن تبادر أجهزة الدولة بإسقاط معظم القضايا الجدلية التي تتنازع فيها مع بعضها البعض ومع المواطنين والشركات والمؤسسات، وتشجيع التحكيم في القضايا المدنية لتقليص حجم المعروض من القضايا. ومثل هيئات التحكيم، فهناك العديد من مؤسسات البنية التحتية التي يجب أن تنشأ وتقوم بدورها كمؤسسات الجدارة الائتمانية والتأمين ضد مخاطر الائتمان، وكذلك أدوات فعالة للائتمان التجاري والمصرفي بما يقلل من حجم قضايا الشيكات التي نشأت نتيجة لعدم وجود أدوات ائتمان فعالة, وفي النهاية فإن وجود قوانين بسيطة تسمح بالكثير وتمنع القليل، مع الحزم في التطبيق، هو أفضل من وجود ترسانة من القوانين لا يمكن تطبيقها. إن العدالة قد تكون عمياء، ولكن على الذين يقومون ببناء المحراب الجديد للعدالة أن ينظروا جيداً في دروس تجربة مريرة أصبحت معها العدالة عاجزة عن أن تسمع المواطن البسيط – فضلاً عن أن تصل إليه .