الحقيقة أولى ضحايا هيروشيما

بمناسبة مرور 75 عاماً على قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية من قبل الولايات المتحدة.

” اليوم أصبحت أنا الموت الزؤام، أنا مدمّر العالمين” هذا ما تمتم به بزهو ودم بارد اوبنهايمر العالم المسؤول عن مشروع منهاتن لتصنيع القنابل النووية، وهو نص مأخوذ عن الكتاب المقدس للهندوس البهافادغيتا.

في استفتاء أخير لمسح الرأي العام الامريكي بمشروعية استعمال السلاح النووي، تبيّن ان ثلث الشعب يؤيد قصف كوريا الشمالية بهجوم استباقي حتى اذا ما أسفر الهجوم عن قتل مليون مدني!!، هذا لا يعني بأي حال من الاحوال، أن تلك النسبة الكبيرة من الشعب تعوزها مشاعر التعاطف الانساني، إلا أن القيم الاخلاقية للأنسان عرضه للمساومة المرنة مع الذات تحت ضغط المنطق التبريري وتدليس الحقائق من جانب، و شحن العواطف و نزعات الاستعلاء القومي من جانب آخر، وهذا ما يستدعي ضرورة استحضار حادثة هيروشيما وناغازاكي في محاولة لنفض غبار الزيف عن الحقائق، و دحض الرواية الرسمية المضللة، والتي لم تزل راسخة في رؤوس اعداد كبيرة من الناس، خاصة وان العالم قد أصبح مستودعاً لأكداس المتفجرات النووية في عدد كبير من بلدان العالم، مما يجعل كوكبنا على كف عفريت، لاسيما مع صعود قادة وحركات متطرفة في بلدان كبيرة ومهمة، حيث لايمكن الأئتمان على مستقبل العالم تحت رحمة قراراتهم ونزعاتهم المرضيّه.

حرصت ادارة ترومان على حجب مشاهد الدمار والقتل عن الاعلام، واكتفت بعرضها على علماء مشروع منهاتن المساهمين في تصنيع القنبلتين، للأحتفال بنجاحها في التدمير و الفتك، ثم أطلقت الحكومة حملة لتبرير استعمال النووي بالتنسيق مع الاعلام ومؤسسة صناعة الافلام (هوليوود)، مدعية ان الهجوم النووي كان الخيار الوحيد لأنهاء الحرب، وبغيره كانت الحرب ستحصد مليوناً من اليابانيين و الاميركان، اي أن حمم الموت النووي لم تكن إلا ( عملاً خيرياً ) لحفظ عدد كبير من الارواح!! و مازال عدد كبير من الناس يصدقون ذلك، رغم ان بعض كبار رجال الجيش الامريكي آنذاك قد عبّروا عن استياءهم ورفضهم لتلك الدعوى، فها هو الأدميرال وليم ليهي يكتب في مذكراته ( الهجوم البربري النووي على هيروشيما لم يكن عاملاً في انهاء الحرب، فقد كان الجيش الياباني في حالة انهيار ومستعد للأستسلام بنفس الشروط التي حصلنا عليها بضغط الحصار البحري وفتح جبهة حرب بريه من جهة الاتحاد السوفيتي٠٠٠ شعرت ونحن اول من يستعمل القنبله النووية وكاننا عدنا الى القيم الوحشية في القرون الوسطى). وقد خاطب الجنرال أيزنهاور الرئيس ترومان قائلاً ( ليس ضرورياً أن تستعمل هذا السلاح المرعب وتنشر الموت والدمار دون أن تلجأ الى المفاوضات أولاً، نحن بهذا نرتكب جريمة حرب مزدوجة). هذا ما قاله الجنرالات، فلنر ما كشف عنه المؤرخون من خفايا، وقد تسنّى لهم التنقيب في الارشيف الامريكي و السوفيتي والياباني، بعد أن اسدل ستار السريّه عنها.

في شباط 1945 ( قبل 6 أشهر من القاء القنبلة النووية) صادق الرئيس الامريكي روزفلت على ما يدعى اتفاق يالطا السري، يتعهد فيه ستالين بالانسحاب من معاهدة الهدنة مع اليابان، و التوغل عبر منشوريا مما يضمن استسلام الجيش الياباني الذي يعاني اصلاً من الحصار البحري، مقابل حيازة الاتحاد السوفيتي على موانئ منشوريا وجزر الكوريل، ولم يذكر أنذاك شيئاً عن احتمال موت مليون شخص، فقد روجت تلك المزاعم بعد القاء القنبلة النووية كتبرير أخلاقي لتهدئة الرأي العام. و في آذار ( قبل 5 أشهر من القاء القنبله النووية ) بدأت اليابان المفاوضات عن طريق سفيرها بموسكو، وكان ما يشغلها بشكل رئيسي الحفاظ على شكل النظام الامبراطوري وعدم اهانة أو محاكمة رمز النظام المقدس، وقد أكد ذلك وزير الدفاع الامريكي آنذاك ستيمسون قائلًا أن معظم القادة اليابانيين يريدون الاستسلام بشرط ضمان عدم إهانة الإمبراطور، فهو بمثابة إله مقدس بالنسبة للشعب الياباني، و الاطاحة به تعني لهم كصلب المسيح بالنسبة لنا نحن المسيحيين، وهو يعرف ذلك والرئيس ترومان يعرف ذلك ايضاً، لأن الولايات المتحدة تمكنت من فك شفره الاتصالات اليابانية منذ سنه 1944 م. وقد قدم ستمسون مشروع خطته لمؤتمر بوتسدام في تموز أي قبل شهر من حادثه هيروشيما، وتقوم الخطة على استمرار الحصار البحري و توغل الجيش السوفيتي مع اعطاء ضمانه لليابانيين بالحفاظ على قدسية الامبراطور ونظامه، إلا ان القنبلة النووية أصبحت باليد وهذا ما حدا بالرئيس ترومان الى رفض الخطة.

ربما كان مؤتمر بوتسدام نقطة البداية للحرب الباردة، فقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة قد قررت فرط التحالف مع الاتحاد السوفيتي بعد نجاح مشروع منهاتن في تصنيع السلاح النووي، وأصرّ ترومان على نقض اتفاق يالطا السري مع الاتحاد السوفيتي بخصوص اعلانه الحرب على اليابان، وقرر أن يكون استسلام اليابان على يد الولايات المتحدة لوحدها، و أن يكون هزيمة مذلة و مدوية، لاهداف ستراتيجية بعيدة المدى، وهكذا تمت صياغة بيان دعوة اليابان للأستسلام (قبل أيام من كارثة هيروشيما) دون علم ستالين، بل رفض ترومان دعوته للتوقيع عليه، وقد حرص البيان على عدم ذكر اي ضمانه لبقاء الامبراطور أو احترامه كرمز مقدس، فبدا واضحاً أن صناع القرار الامريكي كانوا على ثقة من رفض اليابان لهكذا صيغة من الاستسلام لشرعنة الخيار النووي، وبالفعل صرح وزير الخارجية الياباني توغو ” اذا كان الإستسلام غير المشروط يعني محاكمة الامبراطور و إهانته، فهذا ما يستحيل قبوله “، والمفارقة أن الامريكان قد منحوا اليابانيين ما أرادوه بخصوص النظام الامبراطوري وبقاء الامبراطور بعد الهجومين النوويين وبعد قتل ما يقارب 200 ألف مدني.

بعد بيان التهديد وإسقاط القنبلة النووية أدرك ستالين أن الولايات المتحدة تنوي التسابق معه وتحقيق انتصار منفرد على اليابان، فأمر بتجهيز الجيش خلال يومين وبدأ في التوغل داخل اراضي اليابان، (عندها فقد اليابانيون أملهم الأخير بحياد ووساطة السوفيت ) كما كتب البروفسور الأمريكي الياباني هاسيغاوا.

اذا كانت جميع الدلائل تشير الى أن استسلام اليابان كان مضموناً بابداء القليل من المرونه الدبلوماسية بخصوص الامبراطور مع الحصار البحري ودخول السوفيت بحرب تقليدية، فما كان سر الاصرار على استخدام القنبله النوويه؟.

بلغت كلفة تصنيع القنبلتين 2 مليار دولار بعملة الأربعينات، كلفة هائلة بحسابات تلك الايام، فكان لابد من معرفة مدى نجاحها، وهذا ما يفسر القاء قنبلة ثانية بعد 3 أيام على ناغازاكي، على اعتبار أن القنبلتين مختلفتان في التصميم والعنصر المشع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من تحقيق مكاسب ستراتيجية على المدى البعيد. سلاح مرعب كهذا يظهر الولايات المتحدة كقوة لا ينازعها أحد في المعمورة، وبالطبع هي رسالة موجهة للاتحاد السوفييتي بشكل خاص، كما أن تجاهل ترومان لاتفاق يالطا السري يجعل الولايات المتحدة في حل من التزامات روزفلت الى ستالين ( توفي روزفلت بعد شهرين من الاتفاق) .

يملأ المنتصرون صفحات التأريخ بسسردياتهم، وعادة ما تكون الحقيقة اولى ضحايا تلك السرديات، اذ تبقى حبيسة ادراج السريه المغلقه بانتظار تحريرها ولو بعد عقود.

قصي الصافي

المصدر

ضحايا هيروشيماهيروشيما