التغيير و صناعة المستقبل مسؤولية مشتركة

التغيير و صناعة المستقبل مسؤولية مشتركة

الدكتور خليل الزبيدي

يخطئ من يعتقد أنَّ الواقع السيئ الذي يعيشه مجتمعنا العراقي بشكل عام وشريحة الشباب بشكل خاص هو حالة مزمنة غير قابلة للتغيير ، فقانون التطور الإنساني يفرض حتمية التغيير عاجلاً أم آجلاً ، لكن ذلك لن يحدث تلقائياً لمجرد وجود حاجة للتغيير نحو الأفضل ، بل إنّ عدم تدخّل الإرادة الإنسانيّة لإحداث التغيير المنشود قد يدفع إلى متغيّرات أشدّ سلبيّة من الواقع الحقيقي الذي يعيشه شباب اليوم . إن ما دفعني الى الكتابة حول هذا الموضوع هو ما قامت به مؤسسة القدوة لأعداد القادة الشباب والتي يديرها الأخ العزيز الأستاذ نجيب الصالحي والذي عرفته رجلاً وطنياً تحَمل ولا زال الكثير من هموم وطنه حالماً كغيره من العراقيين الأصلاء بغدٍ مشرق جميل لهذا الوطن وبجيل متنور ومثقف يدُرك حجم التحديات التي تواجه شعبه وبلده، فكانت مبادرته المباركة بإعداد برنامج تدريبي مكثف و رصين حول الادارة العامة وفن القيادة لها وقع كبير في نفوس كل المثقفين والمهتمين بمستقبل شباب العراق وأجياله القادمة ، لذا حرصت أشد الحرص ان أدون للتأريخ بضعة سطور توثق جهود هذه المؤسسة الرصينة وإدارتها الكريمة ، وأن أعُرج في طريقي على دور الشباب في صناعة المستقبل فهم محور الحياة وركيزتها الأساسية وبهم تعلو الأمم وتنهض من سباتها .

وكي أستطرد في الموضوع هناك تساؤل مهم يعتلج في صدري يتعلق بالتغيير المنشود ، ففي أي إتجاه سيذهب هذا الجيل ؟ هل نحو مزيد من الفشل والتدهور والضياع أم سيكون التغيير إستجابةً لحاجات ومتطلّبات الشباب وأحلامهم في بناء مستقبل أفضل؟

وبفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث التي جرت في العراق ولا زالت تجري ، فأنا متفائل من أن مجتمعتا قادر على تجاوز كل المحن والمصائب التي ألمت به اذا ما توافرت الارادة الحقيقية على إحداث عملية التغيير ،

وحتّى يحدث التغيير للأفضل، فإنّ المراهنة تكون دائماً على الأجيال الشّابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل. فأيُّ جيلٍ جديد هو الذي نأمل منه إحداث التغيير؟

المشكلة الآن في الواقع العراقي الرّاهن هي أنّ معظم «الجيل القديم» يحمل أفكاراً مليئة بشئ من الشوائب والحالات الذهنيّة الموروثة التي شكلت في السابق جزءاً من تدهور أوضاع المجتمع وتراكم التخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في أوساطه المختلفة .

فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمع والانفتاح الكبير امام كل ثقافات العالم بسلبياتها وايجابباتها بفضل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي هي التي تبلور فكر الجيل الجديد وهي التي ترشده في حركته ، حتى باتت عملية استلام التوجيه والنصح من الجيل القديم ضعيفة ولاتؤتي ثمارها بفعل حالة التمرد التي يعيشها الشباب اليوم حتى على ذاتهم ، ولربما اسهمت التكنولوجيا الحديثة بشكل كبير في ذلك ،لكن أكثر ما يؤسفنا اليوم اننا نرى الشّباب يتمزّق ويتأرجح بين تطرّف في السلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف في أطر فئويّة بأشكال قومية او طائفية أو مذهبيّة ليصل الأمر لدى بعضهم الى إستباحة العنف بأقصى معانيه وأشكاله

وحينما يبحث بعض الشّباب المعاصر عن أطر فاعلة للحركة، لا يجدون أمامهم للاسف إلّا جماعات تزيد بفضل أفكارها وممارساتها من حالة التيه والضياع لديهم .

إنّ المفاهيم التي تحرّك الجيل الجديد الآن، هي مفاهيم تضع اللوَم على الآخر في كل أسباب المشاكل والسلبيات، ولا تحمل أي أجندة عمل سوى مواجهة الآخر. وهي مفاهيم هدامة ، تفرّق ولا توحّد، فيصبح الهمّ الأوّل للجيل الجديد هو كيفية التمايز عن الآخر لا البحث معه عن هدف مشترك يحقق فيه الطرفين المصلحة المشتركة الواحدة .

لذلك نرى شبابنا اليوم يتمزّق بين سندان السلبيّة واللامبالاة، وبين مطرقة التطرّف في أطر فئويّة كما أسلفت . وحتى مسألة فهم الدين لدى الكثيرين من الشباب أصبحت للاسف لا تعدو في كونها انغماساً كلّياً في العبادات فقط وفي المظاهر الشكليّة للالتزام الديني دون أي وعي او تفكر او تأمل او القيام بحركة إيجابيّة فاعلة بالمجتمع تدخل أصلاً في واجبات أي انسان . هذه الحركة الإيجابيّة التي وصفها الله تعالى بالعمل الصّالح الذي هو شقيق الإيمان الديني والوجه العملي للتعبير عنه .

إن مشكلة الشّباب المعاصر أنّه لم يعش حقب زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كان العراق فيها موحّداً في مشاعره وأهدافه وحركته ، مراحل زمنيّة كان الفرز فيها بالمجتمع يقوم على اتّجاهات ثقافية و فكريّة وسياسيّة، لا على أسس قومية أو طائفيّة أو مذهبيّة أو قبلية . لكن سوء الممارسات والسياسات الماضية ، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها كرد فعل للاسف ، فاُستبدل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، حتى أصبح أفراد المجتمع العراقي عرضة للتشظي والانقسام .

فجيل الشباب اليوم يعيش حالة من الإحباط واليأس بسبب غياب العوامل الجامعة و إنعدام القيادات السليمة على المستويين السياسي والمؤسساتي ، و يفتقد حالياً الى ما كان في المجتمع بالقرن الماضي من إيجابيّات، رغم سوء الممارسات أحياناً أو نواقص الفكر أحياناً أخرى. فالمشكلة اليوم هي في الفكر والأساليب معاً، في الواقع والبدائل المطروحة له. وهي فرصة مهمّة، بل هي مسؤوليّة واجبة، للجيل الجديد الآن، أن يدرس ماضي وطنه بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللجيل القادم بعده. إنّ وسائل المعرفة والإعلام المتوفّرة الآن بالإضافة إلى العلوم الحديثة تتيح للجيل الجديد آفاقاً واسعة لدراسة خلاصات تجارب شعوب وأمم أخرى، عانت أكثر ممّا يعانيه المجتمع العراقي الآن ، لكن رغم ذلك استطاعت التقدّم والنهوض بل والمنافسة مع من كانوا يهيمنون عليها.

لكن في كل عمليّة تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ تحديدها وهي (( المنطلق ، الأسلوب، الغاية )) . فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّق بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث. أي أنّ الغاية الوطنيّة لا تتحقّق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفي أو مذهبي أو مناطقي. ولعلّ في تحديد (المنطلقات والأساليب والغايات ) يكون المدخل السليم لدور أكثر إيجابيّة وفعاليّة لشريحة الشباب اليوم.

إنَّ «الجيل القديم» في أيّ مجتمع هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه «الجيل الجديد» ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله. فيصبح «الجيل القديم» مسؤولاً عن صياغة «الفكر» بينما يتولّى «الجيل الجديد» عملية صناعة «العمل والحركة» لتنفيذ الأهداف المرجوّة. وهنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا «الجيل القديم» معفيّ من مسؤوليّة المستقبل ولا «الجيل الجديد» براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، عندها ستكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبلٍ افضل .

المصدر