اخطاء جسيمة ارتكبها الشهيد عبد الكريم قاسم مهدت لكارثة 8 شباط عام 1963
عادل حبه
غالباً ما يقدم قادة وطنيون على اتخاذ اجراءات وتدابير إصلاحية، ويصدروا مراسيم وقرارات تندرج في إطار السعي لتحقيق حلم شعوبهم في التقدم والرفاه والحرية والاستقلال. ولكنهم في العادة غالباً ما يترددون في تعبئة القوى السياسية والاجتماعية وتوحيدها في بلدانهم وبناء منظومة ديمقراطية قائمة على مشاركة الشعوب وقواها السياسية والاجتماعية الحية من أجل حماية هذه المنجزات والاصلاحات التي يتم تحقيقها كي يواجهوا دسائس ومؤآمرات قوى الردة الداخلية والخارجية. ويعمد هؤلاء القادة، وللأسف‘ الى التقليل من مخاطر وردود الفعل سلبية لقوى داخلية واقليمية وخارجية، ولا يسعون إلى اتباع دبلوماسية نشطة للحد من هذه المخاطر الخارجية. وعندها يقع هؤلاء في فخ اجندات الدوائر المخابراتية دون وعي والتي تسعى إلى تمزيق صفوف الشعب وبث النزاع والفرقة في صفوفه لتمهيد تصفية تلك المنجزات والاصلاحات.
والأمثلة على هذه الحالة لا تعد ولا تحصى في التاريخ المعاصر للبلدان النامية عامة، وفي بلداننا المنكوبة على وجه الخصوص. ولدينا أمثلة في تجربة الزعيم الوطني الايراني الدكتور محمد مصدق وسقوطه أثر الانقلاب العسكري الذي دبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في عام 1953، ومصير جمال عبد الناصر في مصر وتداعي حكمه عملياً إثر نكبة حزيران عام 1967، وتجربتنا نحن في العراق منذ أن قاد الزعيم عبد الكريم قاسم الثورة ضد النظام الملكي وإعلان الجمهورية العراقية وحتى نهايته ونهاية حلم العراقيين في إرساء نظام قائم على العدل والسلام على يد انقلابيي 8 شباط عام 1963، التي قادت بلداننا إلى المسار التراجيدي.
لقد أعلن الضباط الأحرار العراقيين وبدعم من جبهة الاتحاد الوطني التي أعلنت في عام 1957 على إحداث التغيير المنشود في العراق. وأصدرت جبهة الاتحاد الوطني برنامجها الوطني الديمقراطي المختصر دون الدخول في التفاصيل. ولم يعلن تنظيم الضباط الأحرار عن نفسه ولا عن برنامجه واتفاقاته السرية قبيل انتصار الثورة. ولم يكن هناك اجماع لدى الضباط الأحرار حول الخطوط العامة للسياسة الداخلية والاقتصادية و الاجتماعية أو شكل بناء الدولة، ولا في السياسة الخارجية. فما وحدهم فقط هو اسقاط النظام والتحرر من الهيمنة الأجنبية وإقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية المتحررة. لذا وما أن انتصرت الثورة حتى برزت على السطح الخلافات حول مستقبل الاصلاحات الداخلية والعلاقات الاقليمية والدولية منذ الساعات الأولى. هذه الخلافات التي برزت بشكل مبكر خاصة بين الضباط الذين شاركوا في الثورة، لتسري إلى القوى السياسية المنظوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، هذه الجبهة التي شُلت عملياً بعد الأيام الأولى على يد حزب البعث وحزب الاستقلال والقوى القومية بالإساس، رغم المطالبة المستمرة للحزب الشيوعي العراقي بإعادة الحياة لجبهة الاتحاد الوطني كي يتم معالجة التوتر القائم. والحديث يطول حول ذلك، وبإمكان القارئ الاطلاع على الكثير من الكتب والبحوث والمقالات العراقية والأجنبية حول تلك الحقبة البالغة التعقيد في تاريخ العراق.
كان هاجس وسعي عبد الكريم قاسم واليسار وخاصة الحزب الشيوعي هو الشروع بالاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وتحرير البلاد من العلاقات الاجتماعية الاقتصادية المتخلفة وانتشال المجتمع من حالة الركود والسعي إلى الحفاظ على استقلال وسيادة العراق. هذا التوجه المشترك هو الذي مهد الأرضية لتحالف غير معلن بين الحزب الشيوعي العراقي والزعيم عبد الكريم. ولكن من ناحية أخرى، فشل الحزب الشيوعي العراقي في مساعيه لإعادة الحياة إلى جبهة الاتحاد الوطني كي يستمر العمل المشترك بين الأحزاب لتحقيق البرنامج الذي اعلنته هذه الأحزاب في عام 1957، لأسباب تتعلق بتعتنت الأطراف القومية ووقفها إلى جلنب التدخل الفض من قبل قادة الجمهورية العربية البمتحدة في الشؤون الداخلية في العراق، تحت ذريعة الوحدة الإندماجية ظاهرياً، في حين كانت هناك أسباب أخرى لهذه الضغوط منها ما تعكس خشية هؤلاء الحكام من أن يسير العراق على خطى بناء نظام سياسي قائم على التعددية السياسية والديمقراطية واحترام المكونات القومية في البلاد، وهو ما يتعارض مع نهج الحكم في العربية المتحدة القائم على حل الأحزاب وتخوينها تحت شعاره الممجوج “الحزبية خيانة” وفرض نظام الحزب الواحد كتعبير عن الاستبداد السياسي واحتكار السلطة وتجاهل الحقوق القومية للمكونات القومية القاطنة في عدد من البلدان العربية.
في خضم هذا الوضع الشائك والضغوط المستمرة على النظام الجمهوري الفتي في العراق، برز عامل جديد ومؤثر في توازن القوى هوالتحرك الجماهيري الواسع والعاصف، خاصة في الريف الذي كان يضم أغلبية سكان العراق في تلك الفترة. وقاد هذا التحرك الجماهيري التيار الديمقراطي وخاصة الحزب الشيوعي العراقي. وتعاملت قيادةعبد الكريم قاسم وبعض الضباط الأحرار من قاسميين وشيوعيين وديمقراطيين بإيجابية مع الشعارات التي كانت تطرح على نطاق واسع في الشارع وبعفوية أحياناً. وشرع الحكم باتخاذ تدابير متلاحقة في عملية الاصلاح، خاصة تلك المتعلقة بتحسين ظروف حياة الفئات المحرومة التي تشكل الغالبية في المجتمع. وكان على رأس هذه الاجراءات هو الاصلاح الزراعي الذي حرر الفلاحين من جبروت وقيود النظام الاقطاعي وتوزيع الأراضي التي سلمت إلى الاقطاعيون من قبل الاحتلال البريطاني للعراق. وهي خطوة واجراء اصلاحي تاريخي يمس غالبية الشعب العراقي، الفلاحون، وأنهى حالة الازدواجية في دولة يديرها الاقطاعيون بقوانين وسجون وتقاليد وأعراف وقوى مسلحة من جهة، إلى جانب الدولة المركزية. وهي حالة تتعارض حتى مع بنود الدستور العراقي الذي وضعه البريطانيون عند احتلاهم للعراق. كل ذلك من أجل بناء قاعدة اجتماعية للحكم وحماته البريطانيين لتكريس هيمنتهم على البلاد. ولا يسع المجال في هذا المقال الحديث عن كل الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي انجزتها السلطة الوطنية خلال فترة قصيرة في مجال البناء والصناعة والتعليم وبناء المساكن للمواطنين المحرومين، ناهيك عن قرارات مهمة خطيرة تتعلق بالخروج من حلف بغداد والابتعاد عن حمى الاحلاف والتحرر من قيود الاسترليني والحد من نفوذ الشركات النفطية الأجنبية في العراق والغاء القواعد العسكرية الاجنبية واقامة علاقات عربية دولية متوازنة.
بالطبع لابد لكل هذه الاجراءات الايجابية أن تثير موجة من رد الفعل السلبية لدى بعض فئات اجتماعية داخلية تضررت من الاصلاحات، وأن تثير قلق الدول الاقليمية والدولية التي ارعبها الحضور الجماهيري ومشاركتها في اتخاذ القرارات، خاصة في السنة الأولى من الثورة. وبدأت هذه الأوساط الداخلية وبدعم اقليمي وخارجي واضح المعالم ونشيط في حبك المؤآمرة تلو الأخرى لاسقاط السلطة الوطنية التي أفرزتها ثورة تموز إلى حد إعلان العصيان في الموصل ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وعشرات المحاولات الأخرى التي بلغت أوجها في انقلاب 8 شباط الدموي بتدبير وتمويل ودعم مكشوف من قبل الدوائر الأمريكية والبريطنية والنفطية والدول المحيطة وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة التي تحالفت مع الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف.
في السنة الأولى من عمر الثورة، استطاعت الثورة مواجهة كل تلك المؤآمرات بفعل التحالف غير المعلن بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي وغالبية القوى التقدمية والديمقراطية التي اسست قاعدة اجتماعية متينة للحكم قادرة على مواجهة كل التحديات التي تواجه البلاد. ولكن ما أن دشنت الثورة السنة الثانية من عمرها حتى بدأ التصدع في هذه الجبهة غير المعلنة. ومن أسباب ذلك هو إدراك الأطراف الدولية المعادية إن السبيل الوحيد لاسقاط الحكم هو أحداث تصدع وتخلخل داخل هذه التحالف، أي تشتيت القاعدة الاجتماعية للحكم، عن طريق إثارة الريبة والشكوك لدى عبد الكريم قاسم تجاه الحزب الشيوعي ونواياه، هذا الحزب الذي ظل وفياً لشعاره في الدفاع عن منجزات ثورة تموز والسلطة الوطنية رغم ممارساتها الفردية زملاحفتها للقوى الديمقراطية وللشيوعيين في المقدمة، وتراجعها حتى انقلاب شباط 1963. كما سعت الدوائر المعادية إلى افتعال المواجهة بين الحكم وبين الحركة القومية الكردية وقائدها المرحوم ملا مصطفى البارزاني الذي تحدث مراراً بعد عودته إلى العراق أنه “جندي الزعيم عبد الكريم قاسم”. إن الدوائر التي خططت ودعمت الانقلابيين هي نفسها وبالوسائل والتفاصيل نفسها التي خططت للانقلاب ضد حكومة الزعيم الوطني الدكتور محمد مصدق في ايران. واستخدمت هذه الدوائر كل مهاراتها وفنونها وتجاربها في مختلف بلدان العالم لتحقيق أهدافها في العراق.
ومن بين هذه الوسائل هي الضغط على عبد الكريم قاسم من أجل التخلي عن علاقاته مع الحزب الشيوعي وإزاحة الضباط الشيوعيين من المؤسسة العسكرية، بإعتبارهما المفتاح لأي تغيير في الحكم. وجاءت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم لتثير الرعب عنده، بحيث أعلن بعد فترة وجيزة شعاره المفضل “عفا الله عما سلف”، لكسب رضى المتآمرين في التيار القومي والمذهبي بشقيه، ورافق ذلك إطلاق سراح الكثير من المتآمرين وارجاع عدد كبير من العسكريين منهم إلى الجيش. وهكذا شرع عبد الكريم قاسم بفك عرى التحالف مع الحزب الشيوعي، دون أن يؤسس لتحالف بديل قادر على حماية الحكم بوجه التحديات الخطيرة التي تواجهه. فالتيار القومي الذي ارتهن لأجندات الجمهورية العربية المتحدة وقوى خارجية كالولايات المتحدة لا يمكنه أن يشكل البديل في اسناد الحكم كما كان يحلو لقاسم، بل وحتى أنه غي مستعد للمهادنة مع النظام بسبب تحوله إلى رهينة وأداة خاضعة للمخططات الإقليمية والخارجية المعادية للشعب العراقي. واستفاد هذا التيار من التراجع في موقف عبد الكريم قاسم كي يستعد لشن هجومه للإجهاز على الحكم. وعلى هذا الطريق الوعر والخطير شن عبد الكريم قاسم في خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف هجوماً على الحزب الشيوعي في 29 من تموز عام 1959، دون ذكر أسمه، بذريعة مسؤولية الحزب الشيوعي عن الانتهاكات وأعمال العنف التي حدثت في الموصل أثناء عصيان الشواف وفي كركوك أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة تموز. ولو رجعنا إلى الخطاب الذي ألقاه عبد الكريم قاسم في 8 آذار عام 1959 في مؤتمر رابط المرأة العراقية وحديثه عن عصيان الشواف في الموصل لوجدناه حافلاً بالدعوة إلى البطش وملاحقة المتآمرين والتنكيل بهم، هذا ناهيك عن البيان العسكري الذي أصدره القائد العام للقوات المسلحة ودعوته لأهالي الموصل والعشائر العربية والكردية والمقاومة الشعبية بملاحقة مرتكبي العصيان والدخول إلى مدينة الموصل لقمعهم. لقد حمّل الزعيم عبد الكريم قاسم مسؤولية بعض الانتهاكات التي حدثت على الحزب الشيوعي. وشرعت الأجهزة الأمنية بملاحقة الشيوعيين واعتقالهم ثم الحكم على بعضهم بالإعدام، (تم تنفيذ الحكم من قبل انقلابيو شباط في عام 1963)، وكان ذلك إيذاناً بإنفراط العقد غير المعلن كلياً بين عبد الكريم وتهاوي القاعدة الاجتماعية للحكم، ورسالة غير مباشرة للمتآمرين لتنظيم صفوفهم والشروع بالإجهاز على الحكم ومنجزات ثورة تموز عام 1958.
وهكذا سارعت قوى الردة في الداخل إلى تعبئة كل القوى التي تضررت مصالحها من الإصلاحات التي اقدمت عليها السلطة الوطنية. كما شرعت القوى الاقليمية والخارجية واجهزة مخابراتها في الخارج بالعمل النشيط من أجل زرع بذور الشك والريبة لدى قاسم تجاه أهداف الشيوعيين ونواياهم وتعميق الهوة بينهما. وتم أرسال الصحفي الهندي المعروف “كارانجيا” رئيس تحرير صحيفة “هندوستان تايمز” آنذاك إلى العراق لإجراء مقابلة مع عبد الكريم قاسم لهذا الغرض. وكان أهم سؤال طرحه الصحفي المذكور على قاسم هو :”هناك مؤشرات على أن الحزب الشيوعي سيتعامل معك كما تعامل البلاشفة مع كيرنيسكي رئيس الحكومة المؤقتة الروسية قبل انقلاب أكتوبر”. هذه الإشارة الاستفزازية ما هي إلاّ مسعى لإثارة عبد الكريم ودفعه إلى الإمعان أكثر في ملاحقة الشيوعيين والابتعاد عنهم. وفي الحقيقة إن كل هذه الخطوات ومؤآمرت الدوائر المعادية قد سبقت الناقشات داخل عدد محدود من منظمات الحزب، وتحديداً كوادر “التنظيم العسكري” وبعض الكوادر المدنية وحتى بعض القياديين حول إمكانية إزاحة عبد الكريم قاسم. ففي أواخر عام 1960 زارنا في البيت الشهيد سلام عادل والفقيد عامر عبد الله، قبيل سفري إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة الحزبية، وجرى حديث متشعب، وأنتقد الفقيد عامر عبد الله مقترح بعض الرفاق العسكريين التحرك للإطاحة بعبد الكريم قاسم، موضحاً أن هذا الشعار لا يمكن تحقيقه ونجاحه لأسباب داخلية واقليمية ودولية. وحول نفس الموضوع جرى الحديث مع الشهيد سلام عادل في موسكو في نهاية عام 1961، حيث أشار الشهيد إلى أن وضعنا هو أشبه بحال حزب “آكيل” القبرصي الذي كان يتمتع بالأكثرية في البرلمان، ولكنه تنازل عن موقعه لصالح مكاريوس بسبب عدم قدرة حزب آكيل على مواجهة الأوضاع والتحديات الاقليمية والدولية ووجود القواعد العسكرية الأجنبية في الجزيرة.
وبتقديري إن أطرافاً أخرى لا يتوقع منها عملت هي الأخرى على تحقيق هذا الهدف. فلدي اعتقاد بأن الحزب الشيوعي الصيني وبعد توتر العلاقات بينه وبين الحزب الشيوعي السوفييتي حول قضايا فكرية في الظاهر، قد استثير عندما اتخذت قيادة الحزب الشيوعي العراقي موقفاً مؤيداً للأطروحات السوفييتية وإلتزمت بالنج الذي أعلنه مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية الذي إنعقد في موسكو عام 1957. مما دفع الحزب الشيوعي الصيني إلى التركيز في هجماته على الحزب الشيوعي العراقي لإلحاق الضرر به. لقد كان ممثلي الصين في بغداد على صلة ببعض قياديي الحزب ولهم إطلاع على المناقشات داخل الحزب ونقلوا تلك المناقشات، ومنها قضية التحرك لتغيير قيادة الحكم، إلى عبد الكريم قاسم بدليل كثافة الزيارات واللقاءات التي كان يقوم بها السفير الصيني مع عبد الكريم قاسم. وبلع عبد الكريم قاسم هذا الطعم وسار على طريق المواجهة وفرض القيود على الحزب الشيوعي العراقي. وعندما اتخذت الحكم قراره حول إجازة الأحزاب السياسية في العراق، أجازت وزارة الداخلية وبأمر من الزعيم ممارسة النشاط الحزبي إلى جميع الأحزاب وبضمنها الحزب الاسلامي، وحُرم الحزب الشيوعي والحزب الجمهوري الذي يتزعمه السياسي الديمقراطي المخضرم عبد الفتاح إبراهيم من ممارسة النشاط الحزبي القانوني. مثل هذا الموقف هو الذي ساهم في عرقلة الجهود السليمة المطالبة بإرساء النظام السياسي العراق على أسس الديمقراطية والتعددية ومشاركة الشعب صاحب الشأن في إدارة البلاد، ومواجهة احتكار السلطة والفردية. وكانت النتيجة أن تعززت النزعات الفردية لعبد الكريم قاسم في إدارة شؤون الدولة. ولم يتردد عبد الكريم قاسم لاحقاً في تعطيل جريدة اتحاد الشعب لمدة عشرة أشهر ثم إلغاء امتيازها كلياً بناءً على طلب “هريدج” رئيس وفد المفاوضين لشركات النفط الاجنبية العاملة في العراق بذريعة نشر جريدة إتحاد الشعب مقالات تتعارض مع مطاليب الشركات، ومن شأنها إثارة الأرتباك في المفاوضات الجارية مع الحكومة العراقية.
كما غض الزعيم عبد الكريم قاسم النظر عن حملات الاغتيالات الواسعة التي طالت أعضاء وكوادر في الحزب الشيوعي وخاصة في بغداد والموصل (اغتيل ما يزيد على400 مواطن في الموصل وحدها) ومدن أخرى وموجة من تلفيق الاتهامات ضد الشيوعيين وانصارهم وإصدار الأحكام ضدهم من قبل محاكم عسكرية يرأسها ضباط قوميين ورجعيين. وقد ضمت سجون العراق قبيل انقلاب شباط قرابة 500 سجين شيوعي وديمقراطي، وهو عدد يفوق عدد السجناء الشيوعيين والديمقراطين في العهود السابقة. وعاد النشاط إلى الاجهزة الأمنية التي ورثها العراق من العهد الملكي والتي لم تطالها يد الاصلاح والتغيير، لتشرع من جديد بفبركة وتدوين التقارير الكاذبة حول النشاط الشيوعي “الهدام” و”الفوضوي”!!!
ومع شروع عبد الكريم قاسم بالموقف المعادي للحزب الشيوعي العراقي، فلا بد أن ينتقل هذا السلوك كالعادة في ظروف العراق إلى أطراف سيلسية أخرى. فسرعان ما اندلعت المواجهات الخطيرة المسلحة بين الحكم والحركة القومية الكردية إثر حركة استفزازية اشعلتها الفئات الاقطاعية والرجعية في كردستان العراق. وبدلاً من أن يعي الحكم وقادة الحركة القومية الكردية مديات هذ التطور الخطير وتأثيراته السلبية على الوضع في البلاد، تعنت الطرفان في الوصول إلى حل سلمي للمشكلة ولم يستمعا إلى صوت الحكمة التي اطلقها الحزب الشيوعي في الدعوة للسلم في كردستان والديمقراطية للعراق والحكم الذاتي في كردستان. ومنذ ذلك الحين تحولت هذه القضية القومية الكردية إلى ورقة ضاغطة ليس بيد المواطنين الكرد لتحقيق أحلامهم ومطاليبهم المشروعة، بل إلى ورقة بيد الشاه والدوائر الأمريكية وحتى اسرائيل لتحقيق مشاريعهم ضد الحكم ضمن المساعي لاسقاطه والتدخل في الشؤون الداخلية العراقية.
وعلاوة على ذلك، ووقع عبد الكريم قاسم في ورطة اقليمية خطيرة تمثلت في الدعوة إلى إلحاق الكويت في العراق، ظناً من الحكم إن هذه الدعوة “الشعبوية” من شأنها أن تدغدغ مشاعر التيارات الشعبوية والقومية في الداخل من أجل جذبها لمساندة الحكم بعد أن شعر الحكم بتراجع شعبيته. لقد مهدت هذه الخطوة الخطيرة الطريق للأطراف الاقليمية والدولية لتوحيد جهود أطراف متناقضة، من قادة العربية المتحدة وإلى المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية والايرانية والتركية وشركات النفط، للإجهاز على ثورة تموز ومنجزاتها وتوجيه ضربة إلى القوى التقدمية والديمقراطية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي العراقي. كما مهدت هذه الدعوة الشعبوية الطريق لتحالف أمني وعسكري اقليمي وخارجي تمثل في الأنزال العسكري البريطاني والمصري وقوات دول أخرى في الكويت بذريعة الدفاع عن سيادة الكويت العضو في هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية.
وبالرغم من أن غالبية القوى السياسية تتحمل بهذا القدر أو ذاك المسؤلية لما آل إليه الوضع في البلاد، إلا ّ أن سلطة تموز بقيادة عبد الكريم قاسم والتراجع الخطير الذي قامت به خاصة في منتصف عام 1959 وأخطائها وفرديتها، هي التي مهدت للكارثة التي حلت بالبلاد متمثلة بانقلاب 8 شباط 1963، وما تبع هذا الانقلاب من تداعيات مدمرة يعيش العراقيون نتائجها حتى الآن.