حياة العرب في العصر الجاهلي ح3 (*) د. رضا العطار
الدولة السبئية
ورثت هذه الدولة حكومات قتبان ومعين، وهي تمثل دولة اليمن الكبرى. والاقوال في اصلهم مضطربة، ولكنهم تدرجوا في حكمهم من الامارات الصغيرة الى الملك الواسع.
وقد ورد ذكرهم في الكتابات اليونانية والرومانية والقرآن الكريم ايضا.
ويروى بعضهم انهم في الاصل قبائل بدوية من الجوف الشمالي بجزيرة العرب، نزحوا الى الجنوب في القرن الثامن ق. م. وتوسعوا هناك مستفيدين من ضعف المعينيين.
ويدعى القائم على امور الدولة مصطلح مكرب، وهو يجمع بين الكهانة والملك.
وكانت هذه الدولة تعرف بتجارتها، ويرجع الفضل الى سبأ في نشر نفوذ الدولة السبئية، وهو اول ملك من ولد قحطان. وقيل انه سُمي عبد شمس، وكان (اول من ملك من ملوك العرب/ وسار في الارض، وسَبي السبايا.
يبدو ان السبئيين مروا باربعة اطوار، تغيرت خلالها القاب ملوكهم، فكان ملكهم في الطور الاول يسمى (مكرب سبأ) ثم قالوا (ملك سبأ) ثم (ملك سبأ و ريدان) – وكان ريدان محفدا – – والجدير بالذكر ان المملكة عندهم كانت تتألف من قصور ومحافد، يرأس كلا منها شيخ او أمير يملك القصر او المحفد.
ومن محافدهم الكبرى، سُمي بعد ذلك ظفار – ثم قالوا :
( ملك سبأ وريدان وحضرموت واعرابها في الجبال وتهامة)
وينقسم تاريخ الدولة السبئية الى طورين : الطور الاول هو العصر السبئي الحقيقي، وفيه الدولة السبئية الحقيقية. والطور الثاني وهو العصر الحميري.
1 – العصر السبئي الحقيقي : يبدأ هذا العصر بين القرن الثامن والتاسع ق. م. واول حكامهم يتعمر، وهو من المكارب، واول ملوكهم كان يدعى ( ذمرعلي ).
وقد توالى على الحكم خمسة عشر مكربا، واثنا عشر ملكا. فهم ثلاثة وعشرون جيلا.
ويقدر مرحلة حكم الدولة بنحو سبعمئة سنة. وكان الحكم في الحقبة الاولى يتصف بطابع كنهوتي، ثم تجرد منه في المرحلة الثانية، اي (من حوالي 610 ق. م. حتى 115 ق. م.)
ثم صارت مأرب العاصمة. وابتنوا فيها سدا شهيرا هو سد مأرب الذي سنأتي على ذكره لاحقا.
لقد صارت دولة السبئيين صلم الوصل بين مصر والشام والعراق والهند والحبشة. ولما ذهبت قوة هذه الدولة، تحولت طرق التجارة الى البحر. ويعتقد العرب ان سبب سقوط دولة سبأ الحقيقية هو انهيار سد مأرب. ولكن هذا، بنظرنا، ليس هو الواقع. لان الناس – على ما يبدو – كانوا قادرين على ترميمه.
2 – العصر الحميري : يبدأ عام 115 ق. م. حتى 535 بعد الميلاد. وقد اتحد السبئيون والحميريون اصحاب ريدان في دولة واحدة. ولما انتقل الثقل الى ريدان (ظفار) قوي هؤلاء وسيطروا. فصارت ريدان هي العاصمة، وكان آخر ملوكهم ذونواس، الذي جائت سيرته في القرآن.
وحمْير في التاريخ هو ابن سبأ. وكان حمْير زيد اول ملك لبس التاج من الذهب مفصصا بالياقوت الاحمر، وكان الحميريون يقيمون في ظفار قديما. وقيل كانوا حكاما في قتبان.
ولما سنحت لهم الفرصة سيطروا، فصار لقب كبيرهم من الملوك : (ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت واعرابها في الجبال وتهامة)
وكانت هذه الدولة ميًالة الى الحرب، ففتح بعض ملوكها الدول وحاربوا الفرس والاحباش واستمر حكمهم 640 سنة.
لقد حفلت روايات العرب بكثير من المبالغات، في وصف اعمال ملوك حمير، كزعمهم ان ملكهم (شمر بن يهرعش) احتل بلاد فارس وخراسان وبنى مدينة سمرقند. وآخر غزا اذربيجان والقسطنطينية وهزم الاتراك. وقد وصلت دولة حمير الى الصين.
الى غير ذلك من اخبار، مبالغ فيها.
وقد ذهب الاحباش النصارى بملك الحميريين الذين كاوا يهودا في عهد الملك ذي نواس وانشأوا لهم مملكة على شاطئ البحر الاحمر دامت حتى عام 570 ميلادية والمعروفة بعام الفيل.
بما ان الاحباش ليسوا يمنيين بل افارقة، فلن نتوقف عندهم طويلا. هؤلاء غزوا بلاد العرب عام 340 م وأجلوا عام 378 م فأسترجعت حُمير سيادتها. وقيل ان يهوديا كان في نجران قُتل له ابنان ظلما، فرفع امره الى ذو نواس، (الذي جاء ذكره في القرآن) فزحف هذا الاخير على نجران، وقتل اهلها ( ومعظمهم مسيحيون)، فإستنجد رجل نجا من المجزرة ويدعى ثعلبان، بقيصر الروم، فطلب القيصر من الاحباش المساعدة، فغزوا بلاد العرب عام 522 م ثم عام 525 م وهزوموا ذو نواس وقتلوه واكثر رجاله. واسسوا لهم هناك مملكة دامت حتى 570 ، وهو تاريخ ولادة الرسول (ص) ومات ابرهة الحبشي بالجدري واكثر رجاله.
وقد حاول الاحباش تنصير البلاد، فأنشأوا مزارا دينيا في الجنوب لمزاحمة مكة الوثنية وكعبتها. وحدث ان تغاضب ابرهة ورجلان من العرب، واحدهما من قبيلة فقيم والاخر من بني مالك، فأعد العدة للحرب، وهيأ الفيلة للحملة على مكة، إلا انه مات وجيشه بمرض الجدري، وكان خراب سد مأرب في زمن الحبشان.
الجبئيون والقتبانيون والقريًون : الامتان الاوليان تجاريتان، لم يعرفهما العرب. وذهب جلازر الى ان الاولى يعود اصلها الى المعينيين، وذهب مولر الى ان القريًن فرع سبئي قائم بنفسه. وذكر جرجي زيدان انهم من اهل اليمامة، ينتسبون الى (قريًة)- وهو اسم اليمامة القديم.
وكانت ثمة دول اخرى قليلة الاخبار، كالدولة الحضرمية، ويعتبرها العرب من العرب العاربة التي لم تبدْ، إلا انهم ذابوا في اهل كندة، فصاروا من عدادهم.
1 – الاجتماع : كانت كل مملكة تتألف من قصور، ويدعى القصر محفدا، يملكه شيخ او امير. وكان بداخل كل محفد معبود، فسموا القصر إما باسم صاحب القصر او باسم المعبود. والملك راس الشجرة الحكومية، نادرا ما يبرح قصره. وقد اهملوا الجيش لقلة فتوحهم، اما نظام الحكم فكان وراثيا.
وكانت طبقات الامة اربعة : الجنود والمزارعون والصناع والتجار. والزواد عندهم كان مشتركا، يتزوج الاخوة امرأة واحدة. ولهم ان ينكحوا امهاتهم، ولكن يشترط عليهم دائما ان يتزوجوا من داخل بيتهم.
2 – الصناعة والزراعة : لعل اهم ركيزة في ما يمكن ان يسمى صناعة عرب الجنوب هو التعدين. فقد كثرت فيها مناجم الفضة والذهب والجواهر والحديد والاحجار الكريمة،
كما قامت عندهم صناعة تحضير بعض المنتوجات التجارية كالبخور وغيرها. وهي صناعات خفيفة.
اما الزراعة فكانت مزدهرة. وكثرت البساتين والرياض ولا سيما حول المدن/ واقيمت السدود للري وتخزين المياه، واشهرها سد مآرب.
اقيم هذا السد للافادة من مياه السيول، فاختير موضعه بين جبلي بلق لحجز المياه، يبلغ طوله ثمنمائة ذراع وعرضه مئة وخمسين ذراعا وعند طرفيه مصارف المياه مُقام بعوارض ضخمة. ويعتبر سد مأرب من عجائب الفن الهندسي. ويظهر من النقوش ان باني السد يدعى (يثعي امرا باين وابوه)، وفي الجهة اليمنى نقش، تفسيره، ان يثع خرق جبل بلق وبنى رحبا لتسهيل الري. كتان ذلك في القرن الثامن ق. م.
اما بالنسبة الى تهدمه فيورد العرب طائفة من الاساطير والقصص الخرافية، منها ان جرذا قضم من حجارة من السد ودفع برجله صخرة، فتدفق الماء وانهار السد.
حدث ذلك في مرحلة سيطرة الاحباش.
– البناء : اشتهر الجنوبيون بالبناء، فأقاموا المدن مثل سبأ ومعين وظفار وصنعاء وغيرها. وقد كثرت القصور الفخمة والهياكل، واهم تلك القصور قصر غمدان في صنعاء.
ينسب بناء هذا القصر الى ملك يمني يدعى يشرح بن يحصب، وكان مؤلفا من عشرين طبقة تفصل كل سقف عشرة اذرع، والطبقة الاخيرة سقفها من الرخام الشفاف يمكن للناظر ان يرى من خلاله، فيميز الغراب من الحداة. وللقصر اوجه اربعة، منها واحد مبني بحجارة بيضاء وآخر بحجارة سوداء وثالث بحجارة حمراء. وكان ثمة أسد من نحاس في كل ركن من اركان القصر، حتى اذا ما هبت ريح، ترددت اصداؤها في اجواف تلك التماثيل، فكأنما الاسد يزئر.
4 – التجارة : اسهم موقع اليمن بوسط العالم القديم في تقوية مركزها التجاري، فازدهرت فيها التجارة، ونقلوا منتجات من الهند الى مصر وبلاد الفنيقيين والاشوريين برا وبحرا، وجعلوا لبلادهم مرافئ لاستقبال السفن، فعمرت جزيرة مالطة في المتوسط. واشتهرت ظفار، وكان اقوام من البدو يخفرون القوافل برا، ويتوقفون في محطات حتى تصل الى حيث تقصد.
وبعد انقضاء الدور الاول لحكم الحميريين بدأ نجم دولتهم الجنوبية بالافول شيئا فشيئا. فقد تحول قسم من تجارتهم مع الهند الى مصر في الحقبة الهيلينية مع البطالسة، فجائت اساطيلهم التجارية الى البحر الاحمر الذي يفصل جزيرة العرب عن مصر وسقطت زعامة حمير التجارية. واستمرت الحرب التجارية عندما استولى الرومان على زمام الامور وحذوا حكذو البطالسة. واكتشفوا اسرار الخطوط التجارية وتبدًل الرياح، فانهار الرخاء في بلدان العرب الجنوبية وسقطت جميع دولهم : البتراء وتدمر وبلاد العراق.
كان معظم عرب الجنوب وثنيين في تاريخهم القديم (قبل الميلاد وقبل الفتح الحبشي الاول على وجه التحديد).
وآلهة اليمن قريبة من آلهة البابليين. وقد ألًهوا السيارات الفلكية والنجوم. واخذ عرب الشمال عنهم ديانتهم – كما اخذوها عن الاراميين – وقد ارتكزوا على ثالوث، هو القمر (ودً عند المعينيين) اكبر الألهة، ويبدو ان صورته كانت الحيًة، والشمس (وهي اللات) وابنتها الزهرة (العزًي) وبنوا الهياكل، وقدموا لها القرابيين – – – ويبدو انه كان لهم أدب ديني كثير، اباده الاسلام. ومن آلهتهم عشتار وايل وبعل وغيرهم. وكان البابليون يعبدون الشمس ويدعونها شاماس. وعشتار، إلهة الخصب التي اقاموا لها احتفالات سنوية، اخذوا عادتها عن السومريين.
وهنا لا بد من الاشارة الى ان اسطورة ادونيس وعشتروت وافروديت، مشتركة بين معظم شعوب الشرق الادنى، اي بين المصريين وشعوب وادي الرافدين وسورية واليونان – – كما كان بعض هذه الالهة قريبا ون آلهة الفنيقيين. فقد عبدوا إيل – داغون وكان سيد البانتيون. وبعل صنو الآلة الاكبر الآسيوي وسيد الققم والامطار والعواضف.
وكان ياتي في الدرجة الثانية مع عشتروت، آلهة الخصب. ولعل آلهتهم تتلاقى بل تتشابه، لانهم من عنصر سامي واحد وبلاد مشتركة في طبيعتها. وقد عرف عرب الجنوب آلهة اخرى.
اما بالنسبة الى اليهودية والنصرانية، فقد تسربتا الى الجنوب. وانتشرت اليهودية في العهد الحميري الثاني بعد غزو الاحباش الاول كما ذكرنا. ولعلها دخلت قبل هذه الفترة، إلا انها لم تكن منتشرة بعد.
ويذهب بعضهم الى انها انتشرت بدافع سياسي هدفه تأمين طرق المواصلات والتحالف مع الرومان لابعاد الخطر الفارسي وحلفائه – – وعندما وجد الحميريون انفسهم معرضين للخطر امام تحالف الرومان والاحباش، تعاونوا مع الفرس، ولكنهم اشتهروا بالتهود، ولم يكونوا يهودا حقيقيين.
وعند اوائل القرن السادس الميلادي قويت هذه الديانة وتهوًد ذو نواس واضطهد مسيحي نجران.
اما المسيحية فقد تسربت بعض مبادئها الى عرب الجنوب وكانت اول سفارة نصرانية في الجنوب، تلك التي اوفدها قسطنطينوس، وبواعثها كانت سياسية، اساسها المنافسة بين الفرس والروم. وقد اصبحت نجران عاصمة للمسيحية، وفيها كعبة خاصة بالنصارى.
ولما اشتدت المنافسة بين عرب الجنوب، قام ذو نواس بحملته على نجران. ومفاد ذلك انه غزا نجران وعرض على اهلها التهود، فأبوا فأحرقهم، واحرق انجيلهم. وعاد الى اليمن بعد ان بسط نفوذه – – – والى هذا تشير آية البروج في القرآن الكريم :
(قتل اصحاب الاخدود النار ذات الوقود وهم عليها قعود).
وفرً رجل كان قد نجا من المجزرة الى قيصر الروم يستغيث به. فبعث اليها احد قواده، في حملة عسكرية قضت على حكم ذو نواس بعد ان اغرقته في البحر. فانهارت مملكة اليمن مع الاحباش الذين اسسوا مستعمرة لهم على شاطئ البحر الاحمر حتى ردهم الفرس عام 575 م. وحلوا محلهم الى عام 628 م. اي عند ظهور الاسلام.
ينسبون الى اسماعيل وابنائه، ويقال لهم الاسماعيليون والعدنانيون، وكذلك المعديون والنزاريون . ولكن اللقبين الاوليين اشهر. وكان اسماعيل قد تزوج الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولد منها اثني عشر ذكرا ثم بادت قبيلة جرهم، وانتشر بنو اسماعيل واطاعهم الجميع. وما لبث شأن ابنه أدد ان قوي. وفي ايامه هلكت جرهم. ثم وليه عدنان ابنه فمعد بن عدنان، ثم افترق ولده في البلاد. وعدنان اول من وضع الانصاب بمكة.
وكان نزار بن معد اعظم بني أبيه، وله اربعة اولاد لعل قبائل الشمال تحدرت منهم وهم : مضر وربيعة و اياد و انمار. وولد انمار بجيلة وخثعم وربيعة اسد وضبيعة وكلب وتسعة غيرهم نسبهم الى غير اليمن : هؤلاء كانوا رؤوس قبائل عرب الشمال.
ويبدأ تاريخ العدنانية في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. بيد ان اخبارهم قليلة وغير ثابتة. وربما كان هذا مرده الى انهم بدو غير ذي حضارة. ولعل ابراهيم تعلم العربية من جرهم وعرب مكة حين نزلها. وقد ذكر ابن سلام (مات 846 ) على لسان يونس،
ان اسماعيل اول من تكلم بالعربية ونسي لسان ابيه ابراهيم. وقد ورد ذكر العدنانيين في التوراة باسم الاسماعيليين في مواضع كثيرة. وتاتي اخبارهم التي رواها العرب متممة لاخبار التوراة، كما يتوافق ظهورهم مع مطلع النصرانية. وكانوا قبائل وامما في تهامة ومنها انطلقوا الى الشام والحجاز ونجد.
يقسًم النسابون عرب عدنان الى فرعين كبيرين : هما مضر وربيعة لكل منهما قبائل، اشهرها :
من ربيعة :
1 – اسد، وكانوا يسكنون وادي الرمًة
2 – وائل، وينقسمون الى بكر وتغلب، وقد تحاربا طويلا. والى بكر ينتسب بنو حنيفة باليمامة.
من مضر :
– 1 – قيس عيلان : ويقال لها قيس احيانا لشهرتها. وتنسب اليها هوازن وسُليم وتسكنان غربي نجد. كما تنسب اليها غطفان ايضا ومنها عبس وذيبان.
– 2 – تميتم ومسكنها بادية البصرة
– 3 – هذيل ومسكنها المنطقة الجبلية قرب مكة
– 4 – كنانة ومسكنها غرب الحجاز، ومنها قريش
وكان بين مضر وربيعة عداء شديد. وكان لعرب الشمال ايام كثيرة سنأتي على ذكرها لاحقا. ومن هذا الفرع العربي وصلنا الشعر، ولذلك عدً بعضهم عرب الجنوب غير عرب، لانهم كانوا ذوي حضارة ولم يكونوا بدوا، وكانت لفظة العرب تطلق قديما على البدو. هذا ما جاء في تاريخ العرب لفليب حتي.
* مقتبس من كتاب العرب قبل الاسلام لديزير سقال، بيروت 1995 !