لا يعرف معظم الأميركيين أن فنجان قهوتهم الصباحي يربطهم بالإمبراطورية العثمانية، ويدرك قلة منهم فقط أن هذه الدولة الإسلامية التاريخية ساعدت على ولادة البروتستانتية، المذهب السائد للمسيحية في أميركا، أو أن المستكشفين الأوروبيين الذين “اكتشفوا” الأميركتين، فعلوا ذلك بسبب سيطرة العثمانيين والمسلمين الآخرين على التجارة بين أوروبا وآسيا.
هكذا بدأ الكاتب آلان ميخائيل أستاذ التاريخ بجامعة ييل الأميركية، مقاله في صحيفة واشنطن بوست (Washington Post) الأميركية، مسلطا الضوء على دور السلطان سليم الأول (1470-1520) في اكتشاف العالم الجديد ونمط الحياة الأميركي الذي يبدأ بالقهوة الصباحية.
يقول ميخائيل إن الأميركيين عندما يفكرون في الشرق الأوسط، فإنهم غالبا ما ينظرون إليه على أنه مسرح للحروب الأميركية ومنطقة أساسية لنفطه، ومع ذلك “فنحن جميعا مدينون بأجزاء مهمة من ثقافتنا وتاريخنا لأهم إمبراطورية في تاريخ الشرق الأوسط، الإمبراطورية العثمانية، وعلى وجه التحديد لسلطان واحد عاش قبل نصف ألف عام”.
السلطان سليم الأول
ويوافق شهر سبتمبر/أيلول من هذا العام الذكرى السنوية الـ500 لوفاة سليم الأول، السلطان التاسع للإمبراطورية العثمانية الذي امتدت حياته وعهده ربما أكثر نصف قرن من تاريخ العالم.
وذكر الكاتب أن انتصارات سليم الأول في حروب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقوقاز، ضاعفت الأراضي العثمانية 3 مرات تقريبا أكثر من المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس، والكاهن الكاثوليكي الألماني مارتن لوثر، والدبلوماسي الإيطالي والفيلسوف السياسي نيكولو مكيافيلي وغيرهم من معاصريه؛ إذ غيرت انتصارات سليم العالم حرفيا.
وفي عام 1517، سار سليم وجيشه من إسطنبول إلى القاهرة وهزموا منافسهم الأول في العالم الإسلامي، إمبراطورية المماليك. وحكم سليم أراضي أكثر من أي دولة أخرى تقريبا في زمنه، وكان يحمل مفاتيح الهيمنة العالمية، بحسب تعبير الصحيفة الأميركية.
وكان سليم يسيطر على وسط العالم ويحتكر طرق التجارة بين البحر الأبيض المتوسط والهند والصين، ويمتلك موانئ في جميع البحار والمحيطات الرئيسية في العالم القديم. وأصبحت سلطته الدينية في العالم الإسلامي منقطعة النظير، وكانت لديه موارد هائلة من الأموال والأراضي والقوى العاملة، وحصل على لقب “ظل الله على الأرض”.
وأدت هزيمة المماليك إلى تغيير ميزان القوى العالمي بالكامل بين القوتين الجيوسياسيتين الرئيسيتين في العصر: الإسلام والمسيحية. في هذه الفترة، لم يكن الدين مجرد مسألة إيمان شخصي، بل كان منطقا منظما للسياسة في جميع أنحاء العالم. وفي عام 1517، ضم سليم مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحوّل إمبراطوريته من غالبية مسيحية إلى أغلبية مسلمة، مما جعله سلطانا وخليفة للمسلمين.
التحدي والاستجابة
وشكلت هيمنة سليم على الأراضي تحديا روحيا لأوروبا المسيحية التي كانت آنذاك قارة للإمارات الصغيرة ودول المدن الوراثية المتشاحنة، التي لم تكن -فرادى أو مجتمعة- تضاهي الإمبراطورية الإسلامية العملاقة.
وفي محاولة لتفسير هذا الخلل في توازن القوة، وجد العديد من الأوروبيين إجابات ليست فقط في السياسة ولكن فيما اعتبروه إخفاقاتهم الأخلاقية، في عالم كان فيه الدين مرتبطا بالسياسة، وكان انعكاس الثروة يمثل أحكاما من الله، بحسب تعبير الكاتب.
وإلى حد بعيد، جاء أكثر هذه الانتقادات شمولا وتأثيرا من الراهب الألماني مارتن لوثر الذي أشار إلى أن ضعف المسيحية في مواجهة الإسلام نابع من الانحراف الأخلاقي للكنيسة الكاثوليكية، حيث أدى فساد البابا إلى تآكل الروح المسيحية من الداخل، مما جعل جسد العالم المسيحي بأكمله هشا، وبالتالي عرضة للأعداء الخارجيين، بحسب مقال الصحيفة الأميركية.
واستفاد المصلح البروتستانتي مارتن لوثر من الصراع الأوروبي مع العثمانيين، وأكسبه ذلك وقتا؛ فبسبب التعبئة العسكرية ضد العثمانيين، لم تتمكن القوى الكاثوليكية (المناهضة للبروتستانت) من إرسال قوات إضافية لقمع التحركات البروتستانتية المبكرة. ونتيجة لذلك، تمكن لوثر وأنصاره من الحصول على موطئ قدم لنشر العقيدة البروتستانتية عبر المدن الألمانية، ثم انتشرت في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم.
اكتشاف القهوة
وكانت السيطرة على تجارة البن العالمية من العوامل المحركة لاقتصاد الإمبراطورية العثمانية منذ عهد سليم وحتى أوائل القرن 18. في الواقع، كان جيش سليم هو أول من اكتشف نبات البُنّ أثناء توغله في اليمن، واكتشف العثمانيون كيفية تحضير القهوة، وأنشؤوا مقاهي مكرسة فقط لشربها.
وكان المقهى العثماني معلَما أساسيا لثقافة الإمبراطورية، وجمعت هذه المقاهي العثمانيين بشتى أنواعهم، وجذبت شعبيتها اهتمام الحكومة التي أرسلت إليها عيونها لاستطلاع الرأي العام، ولاحقا اعتمد الأوروبيون المقاهي وغيرها من العادات الترفيهية العثمانية خلال حقبة الحداثة المبكرة، ولعبت مقاهي إسطنبول دورا بارزا في تعميم المقهى والقهوة عالميا.
القاهرة العظيمة
أثبتت قوة سليم الأول أن تأثيره وصل إلى ما وراء أوروبا والشرق الأوسط عبر المحيط الأطلسي إلى أميركا الشمالية. وفي عام 1517، وبعد أسابيع من مسيرة قواته العثمانية لغزو القاهرة، هبط الأوروبيون الأوائل في المكسيك.
وحين دفعتها الأمواج نحو شبه جزيرة يوكاتان (في أميركا الوسطى)، رأت ثلاث سفن إسبانية مدينة كبرى من حضارة المايا، هي أكبر من أي شيء رآه أي منهم على الإطلاق. هذه المدينة هي “كيب كاتوش” اليوم بالقرب من كانكون. لكن في عام 1517، أطلق هؤلاء الإسبان عليها اسم “El Gran Cairo”، أي “القاهرة العظيمة”.
واعتبر تقرير الصحيفة الأميركية أن القاهرة كانت في نظر الإسبان عاصمة عظيمة تتسم بالغموض والدموية، حيث أرسلت لقرون سفنا لأسر سكان المستوطنات الإسبانية في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية، وهددت العواصم الإمبراطورية، فضلا عن سيطرتها على القدس، ومنعها الأوروبيين من التجارة مع الهند والصين.
ويوضح الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإسبان على مدينة المايا أنهم كانوا مسكونين بعمق بخيال السلطان سليم. ويعتبر الكاتب أن ذلك السلوك دليل على الضعف الأوروبي، إذ إن المسيحيين -حتى في منطقة البحر الكاريبي- كانوا لا يزالون متأثرين بالأشباح العثمانية.
واستمر العثمانيون لاعبين أساسيين على المسرح العالمي منذ عهد سليم حتى انتهاء دولتهم عقب الحرب العالمية الأولى، بعد أكثر من 6 قرون من الحكم، عندما بدأت القوى الأوروبية تتفوق على الإمبراطورية في القرن 19.
ويختم ميخائيل قائلا إنه بفضل سليم الأول “تمتع العثمانيون بسلطة أكبر، وسيطروا على المزيد من الأراضي، وحكموا عددا أكبر من الناس، واستمروا لفترة أطول من جميع الدول الأخرى تقريبا”.
وأضاف “يساعدنا فهم هذا التاريخ على رؤية المكانة المتكاملة -التي عادة ما يتم تجاهلها أو رفضها- للمسلمين في ماضينا المشترك. وفي حين يتم تصوير الإسلام في كثير من الأحيان على أنه تهديد معاصر، فإنه في الواقع جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا، وقوة ثرية وبناءة في ماضينا المتشابك. أميركا والبروتستانتية والقهوة لها تاريخ إسلامي”.