طالب عبد العزيز اسقطت الفنونُ الحديثة الكتابيةُ وغيرُها من الفنون، بما فيها الشعر جملةَ الاساطير، التي كانت تقول بأنَّ الشعراء والخطباء إنما يتلقون الالهام في قول الشعر والخطابة من الآلهة، أو الجن، فقد كان الاعتقاد قائماً في اوروبا، ولقرون طويلة بانَّ ملهمات الشعر وربات الفنون التسع في الاسطورة اليونانية، هنَّ من يُلهمن الشعراء قصائدهم، فهذه (كاليوبي) إلهة الشعر الملحمي، التي تهبُ الشعراء والملوك والامراء النُّطق الفصيح، والالهام، وتمكنهم من القول المُعجز، وهذه (يوتيريبي) ملهمة الشعر الغنائي، ومثلهما هناك الرَّبات، اللواتي يلهمن الفنون الاخرى. وفي ثقافتنا العربية كان الاعتقاد سائداً بانَّ الشعراء إنما يُلهمون الشعر من مكوثهم في وادٍ سحيق، بنجد اسمه (عبقر) الذي منه جاء مصطلح العبقري، وهناك يسكن الجِّنْ، الذين يلهمون الشعراء القصائد، التي لا تشبه كلام أحدٍ من الناس، حتى أنَّ ضابطاً كبيراً في حكومة عبد الكريم قاسم، ترأسَ إدارة الميناء في البصرة- محبّاً للشعر- كان قد شيّد لهُ ركناً في حدائق الاندلس العامة، بالمعقل والتي بناها، سمّاهُ (وادي عبقر) متأثراً بالفكرة تلك، والتي تقول بانَّ الجنَّ، التي في الوادي، هي التي تلهم الشعراء قصائدهم، وهذا امرؤ القيس يقول: تُخيّرني الجِّنُّ أشعارَها — فما شئت من شِعرهنَّ اصطفيتُ. وفكرة الالهام وانتظار الوحي، ومصارعة الشعر قائمة في العقل العربي منذ القِدم، فهذا سُويد بن الاكرع، وهو شاعر جاهلي واسلامي، يقول في حيثيات كتابة قصيدته: أَبِيتُ بأَبَوابِ القَوافي كأَنَّما … أُصادِي بها سِرْباً منَ الوَحْشِ نُزَّعَا أُكالِئُها حَتَّى أُعَرَّسَ بَعْدَ ما … يَكُــونُ سُحَيْراً أَو بُعَيْدَهُ فأَهْجَعـــــَا وحتى وقت قريب كنا نقرأ عن بعض الشعراء الرومانسيين في لبنان وسوريا، الذين هاجروا والذين لم يهاجروا، بانهم كانوا يلجؤون الى الطبيعة (الغابة والنهر والجبل) في ظنٍّ بانَّ ربّة الشعر لا تدخل عليهم بيوتهم، وهم على كراسيهم، وأنَّ الالهام لا يوجد في المدينة، وأنَّ المشاغل وحركة الناس فيها لا تمنحهم اللحظات الاستثنائية للكتابة والقول، فالإلهام من وجهة نظرهم إنما يزورهم خارج الاماكن تلك، هناك، حيث تقوم الطبيعة بواجبها في تزويد الشاعر بما بين يديها من رُسل وسحْر وجمال. فضحَ العلمُ الاقوالَ تلك، وبدد فكرة الربّات المُلهمات والوحيَ والجن، وجعل الروبوت يكتب الشعر، ويؤلف الموسيقى، وصار الكمبيوتر يرسم أجمل اللوحات. ترى هل أفسد العلم علينا صنعة الشعر؟ بما جعل آلاف الناس يكتبونه، حتى ضاع صنّاعُه الكبار وسط حشد الطارئين عليه، بما افسد علينا السرَّ الذي كان قائماً هناك، أم أننا، الشعراء ما زلنا ننظر الى قول الشعر بوصفه هبة ملائكية وربانية، وقد هُزمتْ الرَّباتُ الأثينيات وردم وادي عبقر العربي.
العراقالمصدر
تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.