شارع ٥٢

154

كفاح الزهاوي

كانت الساعة السابعة والنصف مساءً عندما غادر المقهى الكبير الواقع في شارع ٥٢. زوجته داهمها قلق شديد وهي تنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط في غرفة المعيشة، كانت قد تخطت العاشرة مساءً بقليل.

ردت بعض الكلمات بصوت مسموع:

– ماذا حدث؟ لماذا لم يعد الى البيت كعادته مبكراً؟

ران عليها الأسى. راحت تذرع الغرفة ذهابا وجيئةً وتترنح من شدة الصدمة. توقفت عن الحركة للحظة، وضعت يديها على صدرها المنقبض واخذت تضغط عليه بقوة. كانت عيناها محدقتين وكأن رموشهما تؤشران إلى توقف حركة الزمن. وبعد برهة سددت بصرها إلى النافذة المطلة على الشارع، أرسلت نظرات سريعة ومضطربة عبر الزجاج، حاملةً معها ثقل الحزن المتصاعد. اختلج جسدها، دوت رعدة متأججة في أوصالها، تلتلت بدنها من عدم معرفة أسباب تأخر زوجها.

كانت تردد ناظريها ما بين امتداد الشارع وركون بعض السيارات على جانب الرصيف والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني التي تواجه نافذتها، وكأن عينيها تبحث في ذلك الفضاء، العديم الطعم عن حلقة ضائعة تعيد للسلسلة ترتيبها الصحيح. كانت ترى بعضها تشع منها ضياء خافت واخرى تلبث في ظلام دامس تدفع الى الاكتئاب. ذلك السكوت الجنائزي، لا ينم عن أي أثر لحياة. كل شيء في ذلك الموقف لم يكن سوى تعبير عن العدم. كان الخوف حاضرا في اروقة الغرفة يزحف في ارجاء المكان يترك آثاره هنا وهناك.

قالت بصوت يكتنفه الشجن:

– ماذا جرى لك يا حكمت؟ لم تتعود ان تتسكع خارج البيت هكذا.

ثم مالت رأسها قليلا وكأنها تريد التأكد من صحة تصوراتها وقالت:

– هل يصح ان …..

أطبقت فمها وذابت حروفها في طوفان لعابها فارتفع منسوب الوجع، حيث تجلت آلامها على شكل كآبة أفرزتها عصارة عينيها.

تحولت عن النافذة بفؤاد مكلوم وعيناها كنهر جارف تتدفق منهما الدموع. اِدهمَّت الغرفة، صعد بصرها إلى السقف بقلب مهموم، وكأنما تتضرع الى السماء، بعد ان احست ان مكروها قد ألم بزوجها.

كانت تُخامرها من شعور عدم الارتياح قد ينذر بمصيبة تعصف بالعائلة. فهل تلبث في مكانها طوال الليل في مواجهة القلق العارم؟ إلى أي مدى عليها احتمال هذا الجمود الراكد في صراعها مع الزمن؟ أفزعها رنين جرس الساعة فإذا به يعلن منتصف الليل.

في تلك اللحظة استثارها بشدة غيابه، وعدم اتصاله بها قد ضاعفت من تأثيره جثوم الليل، هذا الليل الذي صار طويلا ليس كعادته والفجر بعيد عن الطلوع، حتى لم تعد تسمع تصاعد بكاء طفلها الذي استيقظ من النوم طلبا إلى ثدي أمه. كلما طال غيابه أصابها حالة من المد والجزر اغرقت حلمها على شاطئ الأمل، وانصهر الفرح في نار الحزن.

بالرغم من انغماس الهدوء في نسيم الليل، إلا انه كان يضفي شعوراً مضطرباً. كان يُنيخُ على الشقة عبء كبير من جراء الصمت. فهي تكره الهدوء على هذا النحو، فهو أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة. كيف لها ان تكف عن هذا التفكير العقيم والإقلاع عنه وهي غارقة في حيرة من الفوضى الفكرية.

كانت ليلة مروعة فظيعة، تدفقت في ذهنها أفكار مخيفة، تحمل التعاسة والشقاء.

وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت الصورة على المنضدة التي تجمعهم في إطارها الرشيق المذهب. رمشتها برفق وروية. بعد ان سحبت نفس عميق ملء رئتيها، امسكت الصورة بكلتا اليدين بحسرة مغمورة، وحدقت اليها طويلا بعيونها الحزينة. انكفأ وجهها على زجاج الصورة حتى لامسها فطبع عليها دمعات صغيرة. تسللت الى مخيلتها ذكريات الأيام الجميلة، أيام الحب والاحضان الدافئة، أيام الدراسة الجامعية، ولقاءات العشق والغرام. ذكريات اول اللقاء على الحان نسائم الاحلام وروائح الزهور، توقظ مشاعر مدفونة وتحرك ذكريات هائمة في الضباب.

تراءى لها في تلك القطرات طيف حكمت وهو واقف على غيمة وحيدة وسط سماء صافية وابتسامة عريضة مرتسمة على وجهه الوسيم. مددت يدها بتمهل نحو قطرات الدموع المتجمعة كبلورات فضية على الصورة، توقفت فجأة خشية من ان تفقد صورته امام ناظريها وتسقط بعدها في متاهة معتمة. أرادت ان تديم حضوره الغائب في غمرة حزنها الذي سقط عليها دون انتظار.

عادت الى الغرفة والتقطت طفلها، الذي توا بلغ من العمر ثلاثة أشهر. جلست متكئاً ظهرها على الاريكة واضعا رأس طفلها على ذراعها الأيسر وأخرجت ثديها، بينما التقط الطفل حلمته بثغره الصغير، فخيم على الغرفة سكون مطبق.

قالت بعد ان سقطت دمعة حزينة من احدى عينيها:

– الليل يمضي ببطء. متى سيشرق فجر غد؟

وبينما كان طفلها الرضيع منغمسا بالرضاعة. غطت شذى في النوم وهي جالسة بعد ان أنهكها الانتظار والفكر. حلمت بحكمت وهو يحملها على ظهره في الغابات البعيدة يطوفون في فسحتها الخضراء وارضها المبللة بالحب تحت السماء الزرقاء الصافية متلاصقين وتحتضنهم الأشجار الباسقة المنتشرة في الأرجاء التي تلعب بأوراقها المخضلة بأمطار الليل. كانوا غارقين في خضم هذا التفاعل الحي مع الطبيعة الباهرة بجمالها. كانت السعادة هي اللحظة الحاسمة في حياتهم، الاحزان تتلاشى والقلوب تتداخل في بودقة العشق، والازهار تفتح افواهها لتعانق أفواه العصافير، ونسمات الريح تهز جسد الأغصان فترقص أوراقها.

أسراب من الحمام تنتقل مسقسقة من شجرة إلى أخرى وتتجمع على أغصانها، وخيوط ضوئية من شعاع الشمس تتسلل من خلال أوراقها الخضراء الكثيفة. وإذا بشمس الصباح المنعشة تنسل عبر النافذة، فتتكسر خيوطها على وجهها. فتحت عينيها بفزع، كانت صرخات الوجع لا تزال تئن داخل نفسها، وبينما طفلها لا يزال يغط في نوم عميق على ذراعها.

وفي الصباح مرت على الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفاء زوجها.

استقبلها ضابط شاب ببدلته الرسمية، طويل القامة، حليق بعناية. حالما وقع بصره عليها أثار عنده نوع من الفضول ولا سيما شذى كانت شابة جميلة وفاتنة.

دخلت شذى بأناقتها المعهودة وهي تحمل طفلها:

– صباح الخير.

اجابها بشكل يضفي على وجهه شيء من الجدية ولكن ملامحه كانت طفولية.

– صباح النور. تفضلي بالجلوس.

– شكرا

بعد ان تعارفا كل من الضابط وشذى عن نفسيهما، وبعد معاينة سريعة، أدار الضابط وجهه واستقرت عينيه على الكاتب وقال بلهجة آمرة:

– افتح المحضر واكتب البلاغ.

– تفضلي بالحديث.

– زوجي حكمت لم يتأخر يوما عن البيت ولم يمكث خارجه. فهو دائما بعد انتهاء من عمله يقصد الدار مباشرة. ولكن يوم أمس اتصل وقال سيعود إلى المنزل في الساعة الثامنة مساءً. ولكن لم يحضر على الإطلاق. وهذا ما أثار قلقي.

وقال ضابط آخر، جالس في ركن الغرفة يعاني من بعض الحروق على خده الايسر متهكماً.

– أخشى ان لديه زوجة أخرى وقضى ليلته معها.

شذى تجاهلته ولم تعر أي اهتمام لمزاحه السخيف.

ثم استمر الضابط الشاب بطرح الاسئلة وكأنه لم يسمع سفاهة الضابط الفضولي وقال:

– هل كان لديه اعداء.

– لا

– هل تتذكرين مكان تواجده آخر مرة؟

– نعم

– اين

– شارع ٥٢. قالت بصوت واضح.

– قلتِ شارع ٥٢…

ثم أردف قائلا:

– حدثت أمس مشاجرة في هذا الشارع وجرى إطلاق نار هناك مما ادى الى مقتل شاب في العشرينيات من عمره. ولكن لم يكن في حوزته اوراق تشير الى هويته.

تجهم وجه شذى وتجمعت الدموع في حدقات عينيها. كانت على وشك الانهيار.

ثم أضاف الضابط بعد تفكير قصير:

– جثته راقدة الآن في الطب العدلي.

قالت في نفسها وهي تجول بعينيها في ذهول:

– كانت لحكمت مشاعر عظيمة تشده بعنفوان الى الحياة رغم العثرات المتكررة في حياته الصعبة.

ثم قالت بصوت خفيض موجهةً كلامها الى الضابط دون ان تنظر في عيونه:

– مستحيل فهو يحب الحياة ويحبنا. ولا يتورط في مشاجرات قد تلحق الأذى به. لا يمكن ان يتشاجر. فهو هادئ الطبع، طيب النفس.

بعد ان أكمل الضابط طرح الاسئلة المطلوبة، توجها معا بسيارة الشرطة الى الطب العدلي وهي تعيش حالة من الرعب والإحباط.

وفي الطب العدلي وقف الجميع من الاطباء والمساعدين والضابط وشذى حول السرير الميت، ورائحة الفورمالين المنبعث من الجثة تزكم الأنوف. وبينما يشرع الطبيب الى رفع الشرشف بإبهامه مع سبابة واصبعه الوسطى للكشف عن وجه الجثة، كادت شمعة الامل ان تنطفئ، وان تسقط شذى في الهاوية السحيقة. كانت شذى تراقب المشهد بصبر شديد ممزوجة بآيات التوسل. هناك في ركن ما تخبئ القدر شيئا مريعا تحت الظلام. كانت هذه اللحظات القصيرة في حياتها قد تنطوي عليها جروح عميقة لا تندمل أو بزوغ فجر جديد يعيد للحياة وهجها.

التفت الضابط إلى شذى وطلب منها ان تتقدم بإشارة من يده وقال:

– هل هذا هو زوجك.

تحركت بخطوات مثقلة وانزلقت عينا شذى على وجه الجثة الراقدة في سكون مطبق. كان الوجه طبيعيا ولكن شاحبا. أجابت بعد ان ألقت نظرة سريعة بنبرة واثقة، وكأنها القت عن كاهلها جبل شامخ:

– لا. ليس هو.

سرعان ما تضاءلت من عينيها نظرة الوجع وكأنها نجت من اليأس ورسمت على محياها الأمل بعد ان علتها صفرة باهتة.

ما ان تأكدت ان الجثة لا تعود لزوجها، بدأت بعد ذلك رحلة البحث. راحت تسأل هنا وهناك في جميع المؤسسات الامنية. أكد الجميع أن الشخص الذي يحمل هذا الاسم غير موجود لديهم في السجل. ومرت ايام وليالي من الأسى والوجع، تلك الأيام كانت معتمة مكسوة بأنفاس الموتى، ذابلة في ارض مجهولة.

لم تنعم برقاد آمن لفترات طويلة بعد تلك الليلة الفاجعة التي أفضت إلى اختفاء زوجها. كانت ساعات الانتظار تمتد في كل ليلة، لعل المشاعر الخامدة تجدد الأمل بعد ان تنفض عن جدارها غبار اليأس وتبعث فيها إيقاعات موسيقية هادئة فتوقظ الحياة الجامدة.

شذى كرست كل حياتها من أجل تربية ابنها دون ان تنسى لحظة واحدة ملامح حكمت التي كانت حاضرة رغم غيابها الطويل. بقيت تداري مشاعرها على امل ان يعود. ابنهم دخل الجامعة وتَخَرجَ منها وأصبح رجلا وله حبيبة وقد بلغ عمره خمس وعشرين سنة.

وفي احدى الليالي بينما شذى منهمكة بأعداد الطعام في المطبخ. وفي هذه الاثناء دخلت الى غرفة المعيشة حيث ولدها يشاهد الاخبار على التلفاز والابتسامة العريضة مرسومة على وجهها وتحمل صَّينِيَّة الطعام…

أعلن المذيع على الشاشة الملونة:

– تمكنت الشرطة اليوم من العثور على مقبرة جماعية يعود تاريخها الى ما قبل خمس وعشرين سنة في ضواحي المدينة على بعد خمس كيلومترات عن شارع ٥٢.

ظهر امام الكاميرا رجل يبرز هوية أحد المغدورين عليها صورة داكنة، وفجأة تجمدت شذى لحظة، ممسكة بالصَّينِيًَة بيدين مُرتعشتين، تتماوج في الهواء محلقةً في جهاز التلفزيون. وما الا ثوانٍ معدودة وإذا بصوت صاخب يرتفع، ليهز المكان بفعل سقوط الصَّينِيَّة وتناثر الصحون الى اشلاء محطمة على الأرض، بينما انهارت شذى ودخلت في غيبوبة عميقة عندما أعلن الشرطي اسم الشاب المغدور حكمت نوري الراوي عمره ٢٥ سنة.

المصدر