الانسان وفضائل الأخلاق !

38

الانسان وفضائل الأخلاق ! * د. رضا العطار

الغاية من هذا الحديث توضيح ميزة الأخلاق للشباب التي تضعهم في تساؤلات استطلاعية طيلة حياتهم، مؤكدين لهم : ان الاخلاق تعين لهم لون مستقبلهم، تفتح لهم الأبواب التي تبقى موصدة امامهم لو لم تكن للانسان اخلاق مقبولة لدى المجتمع . فالجريدة والمجلة والكتاب في مقدمة الوسائل التي لا يجوز ان يخلو منها بيت متمدن.

ان الكثير من العظماء الذين قادوا الامم في عالم السياسة و الأداب اوالعلوم لم يحظوا على تعليم مدرسي او جامعي، انما حققوا اهدافهم العالية بفضل ما امتاز به مجتمعهم من شغف القراءة بمستوى مرموق، لأنه عرف قيمة الجريدة والمجلة والكتاب.
والمجتمع الراقي يحسن الأدارة الحديثة. وبهذا التنظيم يزيد من وقت الفراغ لكل انسان حتى يستطيع ان يرصد منه وقتا كافيا لترقية ذهنه بالمعارف تجعله قادرا على الاستمتاع الثقافي بزيارة المعارض والمتاحف والمسارح والمكتبات العامة. ولكل واحد من هذه الاشياء لها قيمتها الثقافية الكبيرة في المجتمع المتطور لكن هذه القيمة تتضائل في المجتمع المتخلف.

ففي المجتمع المتأخر، الذي تحدد السلطة الحكومية فيه من حرية الشعب تغدو الصحف المحلية نخالة ثقافية، بعد ان يستحوذ الرقيب ويبدأ يالحذف والتعديل والتبديل مما يدفع الكاتب الحر الى ان ينفر من كل التزام , فهو يمقت القيد والشرط اللذان يشلاّن حركته الأبداعية. ان مثل هذا المجتمع يكون غير قادرا على ان يربي جيلا صالحا حرا يتخرج منه اعلام مثقفون، فضلا عن علماء مبتكرين.

تصور حرية الأنسان مثل نبتة طرية لا تزهو الا في هواء طلق وماء عذب ونور ساطع وتربة صالحة، فعن طريقها يزدهر النبات ويثمر، اي يزدهر المجتمع ويتقدم.
ان المجتمع الراقي يعني بالمكتبة كما يعني بالمدرسة. ففي لندن كان قبل اكثر من مئتين وخمسين سنة، اكثر من مئتين مكتبة عامة، وكانت الكتب تستعار بالمجان، الى جانب اكثر من مائة متحف، وكانت كافة محلات شرب الشاي في المدينة، مزودة بخزانة للصحف اليومية و الكتب والمجلات كي يقرأها الجمهور.

اما الحكومة الامريكية فقد اباحت منذ اوائل القرن العشرين ان ينتسب السجناء الى الجامعات. و منذ عام 1870 تبعث السلطات المحلية لكل ولاية بشاحنات كبيرة تحمل الكتب الى الآرياف كي تعيرها الى الفلاحين بقدر ما يشاؤون. ثم تعود بعد اسابيع كي تستبدلها بكتب و مجلدات اخرى. كما كان المسؤلون يقصدون الى القرى النائية فيضربون خيامهم هناك ويقدمون لجماهير الفلاحين المرطبات، ويلقون عليهم المحاضرات الثقافية و تأنسهم بعروض من انواع التسلية من رقص وغناء وموسيقى بهدف جذبهم الى الكتاب واثارة روح الشوق في نفوسهم بأتجاه الثقافة الرائدة.

واذا نحن قارنا بين المدرسة والمجتمع من حيث اثرهما في التربية الثقافية مع فرض ان الاثنين يستويان في الرقي فلا مفر من القول ان الأسرة تحسن التربية، والمدرسة تحسن التعليم، والتربية اعم من التعليم، والثقافة في المدارس والجامعات اسلوبية تسير وفق قواعد جامدة، ولكن الشاب الذي يربي نفسه تربية ذاتية يتجه اتجاها ابتكاريا في ثقافته، وهو لهذا السبب يصبح اكثر حرية في تفكيره من طالب المدرسة. ثم ان القواعد الببغاوية في استظهار البرنامج تمنع الطالب من التوسع في الموضوع الذي يدرسه وتعيقه من الاستطراد الى دراسات اخرى، في الوقت الذي يكون الأختيار بالنسبة الى الطالب الحر متوفرا .

يعسر على الرجل المثقف ان يشرح للناس الاسباب التي يجب ان يتبعها الأفراد حتى ينشأوا مثقفين. خاصة وان لكلّ انسان ظروفه الشخصية وهو في هذا الشرح قد يزجرهم في تخلفهم وتوحشهم على ما هم عليه من حال، يوضح لهم مثلا قيمة النظافة والسلوك الحسن و اهمية النظام ومعنى التمدن. فالشباب المتخم بوقت الفراغ يجب عليه ان يقرأ حتى لا يفسد، وفي هذا الصدد قال خليفة المسلمين علي بن ابي طالب : الفراغ مفسدة .

كما يجب أن نعلم إن الحياة الناضجة تحتاج الى الثقافة، وان هناك من الناس من يصح ان نسميهم بقولا بشرية، اذ ليس لهم من علامات الحياة سوى الطعام والشراب والنوم والأنجاب، كما ليس لهم من سمات الحياة سوى النمو الجسمي، كأنهم باقة فجل، او خضرة الشلغم، وسيبقون نفسيا وبيولوجيا يتراوحون في عداد البقول، تنطبق عليهم قول الشاعر العربي الذي قال يوما:

في الجهل قبل الموت، موتُ لأهله * * * فأجسادهم قبل القبور، قبورُ

ان الحياة الخاوية تحدث سأما في النفوس، لا نتخلص منه الابالثقافة التي تحفز عقل الأنسان وتبسط افاق اهتماماته الذهنية، تجعله مقبولا لدى اوساط مجتمعه، كونه انسان متعلم، يعرف كيف يعامل الاخرين باللطف والاحسان، فسمة المثقف تتجلى في شخصه، انه ينظر الى الحياة دوما بنظرة انسانية تفاؤلية.

* مقتبس بتصرف من كتاب حرية الفكر للموسوعي سلامة موسى.

المصدر