كيف سيغدو شكل العالم بعد فايروس كورونا؟

336

كيف سيغدو شكل العالم بعد فايروس كورونا؟
هناك أربعة احتمالات مستقبلية

بقلم: سايمون ماير
ترجمة: د. رمضان مهلهل سدخان

أين سيحلّ بنا المقام بعد ستة أشهر، أو سنة، أو عشر سنوات من الآن؟ أستلقي مستيقظًاً في الليل وأنا أتساءل عما يخبئه المستقبل لأحبائي، وأصدقائي وأقاربي الضعفاء. كما أتساءل عماذا سيحدث لعملي، على الرغم من أنني أكثر حظاً من الكثيرين: إذا أنني أحصل على أجر اعتيادي لا بأس به ويمكنني العمل عن بعد. إنني أكتب هذه المقالة من المملكة المتحدة، حيث ما يزال لدي أصدقاء يعملون لحسابهم الخاص ممن يتوجسون خطر عدم الدفع، أصدقاء ممن فقدوا وظائفهم. فالعقد الذي يدفع 80 بالمائة من راتبي ينتهي في كانون الأول. إذ أن فايروس كورونا مازال يضرب الإقتصاد بشدة. هل سيقوم أيّ شخص بتوظيفي عندما أحتاج إلى عمل؟
ثمة عدد من الاحتمالات المستقبلية، تعتمد جميعها على كيفية استجابة الحكومات والمجتمع لفايروس كورونا وتداعياته الاقتصادية. يحدونا أمل في أن نستغل هذه الأزمة لإعادة البناء وإنتاج شيء ما أفضل وأكثر إنسانية. ولكننا قد ننزلق إلى شيء ما أكثر سوءاً.
أعتقد بأننا يمكن أن نفهم موقفنا – وما قد يتربّص بنا في مستقبلنا – عن طريق النظر إلى الاقتصاد السياسي لأزمات أخرى. يركّز بحثي هذا على أساسيات الاقتصاد الحديث وهي: سلاسل التوريد العالمية والأجور والإنتاجية. إنني أنظر الى الطريقة التي تساهم بها الديناميكيات الاقتصادية في تحدياتٍ مثل التغير المناخي وانخفاض مستويات الصحة العقلية والجسدية بين العمال. لقد جادلتُ بأننا بحاجة إلى نوع مختلف تماماً من الاقتصاد إذا أردنا بناء مستقبلٍ عادلٍ من الناحية الاجتماعية وسليمٍ من الناحية البيئية. ففي مواجهة كوفيد-19، لم يكن هذا جلياً مطلقاً.
إن الاستجابات لوباء كوفيد-19 تتمثل ببساطة في تضخيم الدينامية التي توصل الى الأزمات الاجتماعية والبيئية الأخرى: أي إعطاء الأولوية لنوع واحد من القيم على الأنواع الآخرى. وهذه الدينامية لعبت دوراً كبيراً في دفع الاستجابات العالمية لكوفيد-19 .لذا مع تطور الاستجابات الخاصة بالفايروس، نتساءل كيف يمكن أن يتطور مستقبلنا الاقتصادي؟
ومن منظور اقتصادي، ثمة أربعة احتمالات مستقبيلية وهي: الانزلاق إلى هاوية البربرية، ورأسمالية دولة قوية، واشتراكية دولة راديكالية، والتحوّل إلى مجتمع كبير مبني على المساعدة المتبادلة. إن كل هذه الاحتمالات المستقبلية ممكنة تماماً، إن لم تكن محبّذة على حدّ سواء.

التغييرات الصغيرة لا تفي بالغرض
إن فايروس كورونا، مثله مثل التغير المناخي، يعدّ الى حدّ ما مشكلة في بنيتنا الاقتصادية. وعلى الرغم من أن كلتا المشكلتين تبدو أنها “بيئية” أو “طبيعية”، إلا أنهما تتحركان اجتماعياً.
صحيح أن التغير المناخي يحدث بسبب غازات معينة تمتص الحرارة. لكن ذلك هو تفسير ضحل للغاية. ومن أجل فهم التغير المناخي تمام الفهم، نحتاج إلى فهم الأسباب الاجتماعية التي تجعلنا نبعث غازات الاحتباس الحراري. وعلى المنوال ذاته يحصل الأمر مع كوفيد-19. والسبب المباشر هو الفايروس. لكن إدارة آثار هذا الفايروس تتطلب منا فهم السلوك البشري وسياقه الاقتصادي الأوسع.
إن التعاطي مع كلّ من كوفيد-19 والتغير المناخي يكون أسهل بكثير إذا قللتَ من شان النشاط الاقتصادي غير الضروري. فبالنسبة للتغير المناخي، يحصل هذا لأنه إذا أنتجتَ كمية أقل من المواد، فإنك تستخدم أقل قدر من الطاقة، وتبعث غازات دفيئة أقل. أما علم الأوبئة الخاص بكوفيد-19 فهو تدور رحاه بسرعة. لكن المنطق الأساسي بسيط أيضاُ. إذ أن الناس تختلط معاً وتنشر العدوى. ويحدث هذا في المنازل وفي أماكن العمل وفي الرحلات التي يقوم بها الناس. لذلك من المحتمل أن يقلل تحجيم هذا الاختلاط من انتقال العدوى من شخص لآخر ويؤدي إلى أقل عدد من الإصابات بالمجمل.
كذلك ربما يقوم تقليلُ التلامس بين الأشخاص بدعم استراتيجيات تحكّم أخرى. تتمثل إحدى استراتيجيات التحكّم الشائعة والخاصة بعمليات تفشي الأمراض المعدية [تتمثل] في تتبع الملامسين وعزلهم، إذ يجري تشخيص الملامسين، ثم عزلهم لمنع انتشار المرض. وهذا يكون أكثر فاعلية عندما تتبّع نسبة عالية من الملامسين. فكلما قلّ عدد الملامسين للشخص، قلَّ اضطرارك الى تتبعه للوصول إلى تلك النسبة الأعلى.
وبوسعنا أن نرى من خلال ووهان بأن إجراءات التباعد الاجتماعي واجراءاتِ حظرٍ كهذه تكون فعالة. الاقتصاد السياسي مفيد في مساعدتنا على فهم سبب عدم ادخال هذه الاجراءات في وقت مبكر الى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.
اقتصاد هش
يشكّل الحظر ضغطاً على الاقتصاد العالمي. لذلك نواجه ركوداً خطيراً. وقد حدا هذا الضغط ببعض قادة العالم إلى الدعوة إلى تخفيف إجراءات الحظر.
وحتى عندما كانت فيه 19 دولة في حالة حظر، دعا كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو إلى التراجع عن تدابير تخفيف الحظر. فقد دعا ترامب بأن يعود الاقتصاد الأمريكي إلى سابق عهده في غضون ثلاثة أسابيع (لقد اعترف الآن على ضرورة الحفاظ على التباعد الاجتماعي لفترة أطول). فيما قال بولسونارو: “يجب أن تستمر حياتنا. ولابد من الحفاظ على الوظائف … وعلينا، نعم علينا، العودة إلى حياتنا الطبيعية”.
في غضون ذلك، في المملكة المتحدة، قبل أربعة أيام من الدعوة إلى حظرٍ لمدة ثلاثة أسابيع، كان رئيس الوزراء بوريس جونسون أقل تفاؤلاً نوعاً ما، قائلاً بأن المملكة المتحدة بإمكانها أن تغيّر دفّة الأمور في غضون 12 أسبوعاً. ومع ذلك، حتى لو كان جونسون على صواب، فإن الحالة تظل بأننا نعيش مع نظام اقتصادي يهدّد بالانهيار عند الموجة التالية من الوباء.
إن الاقتصادات في زمن الانهيار تكشف عن ساقها قليلاً. إذ أن الشركات التجارية موجودة لتحقيق الربح. وإذا لم تتمكن من الإنتاج، فلا يمكنها بيع الأشياء. وهذا يعني بأنها لن تحقق أرباحاً، مما يعني بأنها أقل قدرة على توظيفك. يمكن للشركات التجارية أن تُبقي (لفترات زمنية قصيرة) على العاملين الذين لا تحتاجهم حالياً: فهي تريد أن تكون قادرة على تلبية الطلب عندما ينتعش الاقتصاد مرة أخرى. ولكن، إذا بدأت الأمور تسوء حقاً، عندها لن تستطيع أن تبقيهم. لذلك، يفقد المزيد من الناس وظائفهم أو يخشون من فقدان وظائفهم. وهكذا يشترون أقل ما يمكن. فتبدأ الدورة بأكملها مرة أخرى، ونغرق في كساد اقتصادي.
في خضم أزمة عادية، تكون وصفة الحل لهذه المشكلة بسيطة. الحكومة تنفق، وتنفق حتى يبدأ الناس في الاستهلاك والعمل مرة أخرى. (هذه الوصفة هي ما اشتهرَ به الخبير الاقتصادي جون مينارد كينز).
لكن التدخلات العادية لن تفلح هنا لأننا لا نريد أن يتعافى الاقتصاد (على الأقل، ليس بشكل فوريّ). وبيت القصيد من فرض الحظر هو منع الناس من الذهاب إلى العمل، حيث ينشرون المرض. وأشارت إحدى الدراسات الحديثة بأن رفع إجراءات الحظر في ولاية ووهان (بما في ذلك الحظر المفروض على أماكن العمل) سرعان ما جعل الصين تشهد ذروة ثانية من الحالات بعد ذلك من العام 2020.
وكما كتب الخبير الاقتصادي جيمس ميدواي، فإن الاستجابة الصحيحة لكوفيد-19 ليست اقتصاداً في زمن الحرب – أي زيادة هائلة في الإنتاج. بل، نحن بحاجة إلى اقتصاد “ضد الحرب” وتقليص هائل في الإنتاج. وإذا أردنا أن نكون أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة في المستقبل (وتجنّب الأسوأ في ظل التغير المناخي)، فنحن بحاجة إلى نظام قادر على تقليص الإنتاج بطريقة لا تعني فقدان سبل العيش.
إذن ما نحن بحاجة اليه هو عقلية اقتصادية مختلفة. كوننا نميل إلى التفكير بأن الاقتصاد يعني الطريقة التي نشتري بها الأشياء ونبيعها، وخاصة السلع الاستهلاكية. لكن هذا ليس ما يرمي اليه الاقتصاد. ففي جوهره، يكون الاقتصاد هو الطريقة التي نأخذ بها مواردنا ونحوّلها إلى الأشياء التي نحتاجها للعيش. وعند النظر إليه بهذه الطريقة، يمكننا أن نبدأ في رؤية المزيد من الفرص للعيش بشكل مختلف والتي تسمح لنا بإنتاج أشياء أقلّ من دون زيادة في البؤس.
ولطالما كنتُ مهتماً أنا وعلماء اقتصاديون بيئيون آخرون بمسألة كيفية إنتاجٍ أقل بطريقة عادلة اجتماعياً، لأن التحدّي المتمثل في إنتاجٍ أقل يعدّ أيضاً أمراً أساسياً لمعالجة التغير المناخي. كل شيء آخر يكون على قدم المساواة، كلما زاد إنتاجنا، زاد انبعاث غازات الاحتباس الحراري. إذن كيف تقلل من كمية الأشياء التي تصنعها مع إبقاء الناس في العمل؟
تتضمن الاقتراحات تقليل طول أسبوع العمل، أو، كما ناقشتُ ذلك في بعض أعمالي الأخيرة، يمكنك السماح للناس بالعمل بشكل أبطأ وبضغط أقل. لكن لا ينطبق أيّ من هذين الأمرين بشكل مباشر على كوفيد-19، إذ يكون الهدف هو تقليل الاتصال بدلاً من تقليل الإنتاج، لكن جوهر المقترحات هو نفسه. وهو عليك أن تقلل من اعتماد الناس على الأجر حتى يتمكنوا من العيش.
لماذا الاقتصاد؟
إن مفتاح فهم الاستجابات لكوفيد-19هو السؤال عن الغرض من الاقتصاد. حالياً، يكون الهدف الأساسي للاقتصاد العالمي هو تسهيل تبادل الأموال. وهذا ما يسميه الاقتصاديون “القيمة التبادلية”.
الفكرة السائدة عن النظام الحالي الذي نعيش فيه تكمن في أن القيمة التبادلية هي نفسها قيمة الاستخدام. في الأساس، سوف ينفق الناس الأموال على الأشياء التي يريدونها أو يحتاجون إليها، وعملية إنفاق النقود هذه تعطينا شيئاً ما عن مدى تقديرهم لـ “استخدامها”. وهذا هو السبب في أن الأسواق تعدّ أفضل طريقة لإدارة المجتمع. فهي تتيح لك التكيّف، وتتميز بالمرونة الكافية لمطابقة القدرة الإنتاجية مع قيمة الاستخدام.
إن ما يُبرزه كوفيد -19 بوضوح شديد هو مدى خطل معتقداتنا بشأن الأسواق. في جميع أنحاء العالم، تخشى الحكومات من تعطّل الأنظمة الحيوية أو زيادة العبء عليها، أنظمة من قبيل: سلاسل التوريد والرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية بشكل أساسي. وثمة الكثير من العوامل المساهمة في ذلك. لكن دعونا نأخذ اثنين من هذه العوامل.
أولاً، يصعب جداً كسب المال من معظم الخدمات المجتمعية الأساسية. ويرجع ذلك الى حدّ ما إلى أن المحرك الرئيسي للأرباح هو نمو إنتاجية العمل: أي القيام بالمزيد وبعدد أقل من الناس. إذ يمثل الأشخاصُ عاملَ تكلفةٍ كبير في العديد من الشركات التجارية، لاسيما تلك التي تعتمد على التعاملات الشخصية، مثل الرعاية الصحية. وبالتالي، يميل نمو الإنتاجية في قطاع الرعاية الصحية إلى أن يكون أقل من بقية الاقتصادات، لذلك ترتفع تكاليفه بشكل أسرع من المتوسط.
ثانياً، أن الوظائف في العديد من الخدمات الحيوية لا تمثّل تلك الوظائف التي تميل إلى أن تكون ذات قيمة عالية في المجتمع. ولا توجد الكثير من الوظائف ذات الأجور الأعلى إلاّ لتسهيل التبادلات من اجل كسب المال. فهي لا تخدم غرضاً أوسع للمجتمع: هي ما يطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا ديفيد غرايبر بـ “الوظائف الهراء” bulllshit jobs. ومع ذلك، لأنها تجني الكثير من الأموال، فإن لدينا الكثير من الاستشاريين، وهي صناعة إعلانات ضخمة وقطاع ماليّ كبير. وفي غضون ذلك، نعاني من أزمة في الرعاية الصحية والاجتماعية، إذ غالباً ما يضطر الناس إلى ترك الوظائف المفيدة التي يتمتعون بها، لأن هذه الوظائف لا تدرّ عليهم ما يكفي للعيش.
وظائف عديمة الجدوى
حقيقة أن الكثير من الناس يعملون في وظائف عديمة الجدوى هي الى حدّ ما سبب عدم استعدادنا الكامل للاستجابة لكوفيد-19. ويُبرز الوباء بأن العديد من الوظائف ليست ضرورية، مع ذلك نحن نفتقر إلى العمال الرئيسيين الكفوئين للاستجابة عندما تسوء الأمور.
يضطر الناس إلى العمل في وظائف عديمة الجدوى لأنه في مجتمعٍ تكون فيه القيمة التبادلية هي المبدأ الموجِّه للاقتصاد، فإن السلع الأساسية للحياة متاحة بشكل أساسي عبر الأسواق. وهذا يعني بأنه لابد من شرائها، ومن أجل شرائها تحتاج إلى دخلٍ يأتي من الوظيفة.
الجانب الآخر لهذه العملة هو أن أكثر الاستجابات ثورية (وفعالة) التي نراها عند تفشي كوفيد-19 تتحدى هيمنة الأسواق والقيمة التبادلية. كما تتخذ الحكومات في جميع أنحاء العالم إجراءات بدت مستحيلة قبل أشهر من الآن. ففي إسبانيا، تم تأميم المستشفيات الخاصة. وفي المملكة المتحدة، أصبح احتمال تأميم مختلف وسائل النقل أمراً حقيقياً للغاية. كذلك أعلنت فرنسا عن استعدادها لتأميم الشركات الكبيرة.
وبالمثل، نشهد الآن انهيار أسواق العمل. إذ تقوم دول مثل الدنمارك والمملكة المتحدة في تزويد الناس بدخلٍ من أجل منعهم من الذهاب إلى العمل. وهذا يمثل جزءاً أساسياً من عملية الحظر الناجحة. لكن هذه الإجراءات أبعد ما تكون عن الكمال. ومع ذلك، فهذا تحوّل عن المبدأ القائل بأن الناس يجب أن يعملوا لكسب دخلهم، كما أنه خطوة نحو الفكرة بأن الناس يستحقون أن يكونوا قادرين على العيش حتى لو لم يتمكنوا من العمل.
وهذا يعكس الاتجاهات السائدة في الأربعين سنة الماضية. عبر هذا الوقت، كان يُنظر إلى الأسواق وقيم التبادل على أنها أفضل طريقة لإدارة الاقتصاد. ونتيجة لذلك، تعرضت الأنظمة العامة لضغوط متزايدة في التسويق، أي من إدارتها كما لو كانت شركات يتعين عليها كسب المال. وبالمثل، أصبح العمال أكثر فأكثر تعرّضاً الى السوق – فقد أزال اقتصادُ العقود والوظائف المؤقتة طبقةَ الحماية من تقلبات السوق التي كانت العمالة المستقرة طويلة الأجل توفرها.
يبدو أن كوفيد-19 يعكس هذا التوجّه، عن طريق إخراج سلع الرعاية الصحية والعمالة من السوق ووضعها في أيدي الدولة. تقوم الدول بالأنتاج لأسباب عديدة. بعضها أسباب وجيهة وبعضها غير وجيهة. ولكن على عكس الأسواق، فإن الدول لا يتعين عليها الإنتاج مقابل القيمة التبادلية وحدها.
هذه التغييرات تبعث الأمل فيَّ. فهي تمنحنا الفرصة لإنقاذ العديد من الأرواح. كما أنها تلمح إلى إمكانية التغيير على المدى الطويل الذي يجعلنا أكثر سعادة ويساعدنا على معالجة التغير المناخي. ولكن لماذا الوصول الى هذا يستغرق منّا كل هذا الوقت؟ ولماذا كانت العديد من الدول غير مستعدة لإبطاء الإنتاج؟ تكمن الإجابة في تقرير حديث أصدرتْه منظمة الصحة العالمية مفاده: لم يكن لديهم “العقلية” الصحيحة.
خيالاتنا الاقتصادية
لقد كان هناك إجماع اقتصادي واسع النطاق طيلة 40 عاماً. وقد حدَّ هذا من قدرة السياسيين ومستشاريهم على رؤية التصدعات في النظام، أو تخيل البدائل. هذه العقلية راجعة الى معتقدَين وثيقّي الصلة ببعضهما البعض هما:
• السوق هو الذي يوفر نوعية جيدة من الحياة، لذلك يجب حمايته.
• السوق سيعود دائماً إلى طبيعته بعد فترات قصيرة من الأزمة.
وهذان الرأيان رائجان في العديد من الدول الغربية. لكنهما أقوى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، اللذَين بدا كلاهما غير مستعد للاستجابة لكوفيد-19.
ففي المملكة المتحدة، تشير التقارير الى أن الحاضرين في القطّاع الخاص لخصوا نهجَ كبيرِ مساعدي رئيس الوزراء في التعامل مع كوفيد-19 في “مناعة القطيع، وحماية الاقتصاد، وإن كان ذلك يعني وفاة بعض المتقاعدين، فهذا أمر سيء للغاية”. وقد نفت الحكومة ذلك، ولكن إذا كان حقيقياً، فلن يكون مثيراً للإستغراب. وفي مناسبة حكومية في وقت مبكر من تفشي الوباء، قال لي موظف حكومي رفيع: “هل يستحق الأمر هذا الاضطراب الاقتصادي؟ إذا نظرتَ إلى تقييم الخزانة [وزاة المالية] للحياة، فربما لا.”
وجهة النظر هذه موجودة في طبقة نخبوية معينة. ويمثلها أحسن تمثيل مسؤول من تكساس رأى بأن العديد من كبار السن سوف يموتون مسرورين بدلاً من رؤية الولايات المتحدة تغرق في الكساد الاقتصادي. لكن هذه الرؤية تهدّد العديد من الأشخاص المعرضين للإصابة (وليس كل الأشخاص المعرّضين للإصابة هم من كبار السن)، وكما حاولتُ أن أوضّح هنا، أن هذا هو خيار خاطئ.
إن أحد الأشياء التي يمكن أن تفعلها أزمة كوفيد-19 هو توسيع ذلك الخيال الاقتصادي. وإذ تتخذ الحكومات والمواطنون خطوات بدت مستحيلة قبل ثلاثة أشهر، فإن أفكارنا بشأن كيفية قيام العالَم بعمله يمكن أن تتغير بسرعة. لننظرْ إلى أين يمكن أن تأخذنا عملية إعادة التخيل هذه.
أربعة احتمالات مستقبلية
وبغية مساعدتنا في زيارة المستقبل، سأستخدم تقنية مأخوذة من ميدان الدراسات المستقبلية. وتتلخّص في أن تقوم بأخذ عامليَن تعتقد بأنهما سيكونان مهميَن في قيادة المستقبل، وتتخيل ما سيحدث في ظل مجموعات مختلفة لهذين العامليَن.
العاملان اللذان أريد أن اتناولهما هما القيمة والمركزية. تشير القيمة إلى المبدأ الموجِّه لاقتصادنا. هل نستخدم مواردنا لتعظيم التبادلات والأموال، أم هل نستخدمها للأرتقاء بالحياة؟ أما المركزية فتشير إلى الطرق التي يجري فيها تنظيم الأشياء، إما عن طريق الكثير من الوحدات الصغيرة أو عن طريق قوة مسيطرة كبيرة واحدة. بإمكاننا تنظيم هذين العاملين في شبكة، يمكن أن تنطوي بعد ذلك على سيناريوهات مختلفة. لذا يمكننا التفكير فيما قد يحدث إذا حاولنا الاستجابة لفايروس كورونا بأربع مجاميع متطرفة:
1. رأسمالية الدولة: وهي استجابة مركزية، تُعطي الأولوية للقيمة التبادلية.
2. البربرية: وهي استجابة لامركزية تُعطي الأولوية للقيمة التبادلية.
3. اشتراكية الدولة: وهي استجابة مركزية، تُعطي الأولوية لحماية الحياة.
4. المساعدة المتبادلة: وهي استجابة لامركزية تُعطي الأولوية لحماية الحياة.
هذه التشكيلات الأربع يمكن توضيحها بالشكل التالي:

رأسمالية الدولة
إن رأسمالية الدولة هي الاستجابة المهيمنة التي نراها في جميع أنحاء العالم الآن. وينطبق هذا على المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.
يواصل المجتمع الرأسمالي للدولة السعي وراء القيمة التبادلية بوصفها الضوء الموجِّه للاقتصاد. لكنه يدرك بأن الأسواق التي تعاني من الأزمات تتطلب دعماً من الدولة. ونظراً لأن العديد من العمال لا يستطيعون العمل بسبب مرضهم، وخوفاً على حياتهم، فإن الدولة تتدخل في زيادة الرفاهية. كما أنها تسنّ حافزاً كينزياً [نسبة الى الاقتصادي الانكليزي جون مينارد كينز] هائلاً عن طريق توسيع الإئتمان وتقديم مدفوعات مباشرة للشركات التجارية.
وتشير التوقعات هنا الى أن هذا سيكون لفترة قصيرة. إن الوظيفة الأساسية لهذه الخطوات التي يجري اتخاذها تتمثل في السماح لأكبر عدد ممكن من الشركات للاستمرار في الاتجار. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، ما يزال الطعام يوزَّع عن طريق الأسواق (على الرغم من أن الحكومة قد خففت قوانين التنافس). وإذ يجري دعم العمال بشكل مباشر، فإن هذا يحصل بطرقٍ تسعى إلى تقليل تعطيل الأداء الطبيعي لسوق العمل. لذلك، على سبيل المثال، كما هو الحال في المملكة المتحدة، يجب أن يقوم أرباب العمل بتقديم مدفوعات العمال وتوزيعها. فضلاً عن أن حجم المدفوعات يجري على أساس القيمة التبادلية التي يخلقها العامل عادة في السوق، وليس على اساس الجدوى من عملهم.
هل يمكن أن يكون هذا سيناريو ناجحاً؟ ربما، ولكنه لا يكون ناجحاً إلاّ إذا ثبت بأن كوفيد-19 يمكن السيطرة عليه في فترة قصيرة. ونظراً لتجنب الحظر الكامل من أجل ديمومة أداء السوق، فإنه ما يزال من المحتمل استمرار انتقال العدوى. ففي المملكة المتحدة، مثلاً، ما تزال أعمال البناء غير الضرورية مستمرة، مما يترك العمال يختلطون في مواقع البناء. لكن التدخل المحدود للدولة سوف يصبح من الصعب بشكل متزايد تطبيقه [الإستمرار عليه] إذا ارتفع عدد القتلى. إذ أن تزايد حالات المرض والوفاة ستؤدي إلى إثارة الاضطرابات وتعميق الآثار الاقتصادية، وهذا يجبر الدولة على اتخاذ المزيد والمزيد من الإجراءات الحاسمة من أجل الحفاظ على أداء السوق.
البربرية
وهذا هو أكثر السيناريوهات كآبة. فالبربرية ستكون هي المستقبل إذا استمرينا في الاعتماد على القيمة التبادلية بوصفها مبدأنا الموجِّه ومع ذلك يصاحب هذا رفضُ تقديم الدعم لأولئك الذين حُرموا من الأسواق بسبب المرض أو البطالة. هذا السيناريو يصف حالة لم نشهدها بعد.
إن الشركات تفشل ويتضور العمال جوعاً لعدم وجود آليات لحمايتهم من حقائق السوق القاسية. فالمستشفيات غير مدعومة بإجراءات استثنائية، وبالتالي تقف عاجزة عن القيام بواجبها. والناس يموتون. البربرية في نهاية المطاف تمثّل حالة غير مستقرة تُفضي الى الخراب أو الانتقال إلى أحد أقسام الشبكة الأخرى بعد فترة من الخراب السياسي والاجتماعي.
هل يمكن أن يحدث هذا؟ ما يثير القلق هو إما أنه يمكن أن يحدث عن طريق الخطأ أثناء الجائحة، أو عن قصد بعد أن يصل الوباء ذروته. الخطأ يحصل إذا فشلت الحكومة في التدخل بشكل فعّال بما يكفي في أسوأ حالات الوباء. لذلك ربما يجري تقديم الدعم للشركات والعوائل، ولكن إذا لم يكن ذلك كافياً لمنع انهيار السوق في مواجهة تفشي المرض، عندها ستحدث الفوضى. ربما يجري إرسال المزيد من الأموال والأشخاص إلى المستشفيات، ولكن إذا لم يكفِ ذلك الإجراء، فإن المرضى سيجري إبعادهم بأعداد كبيرة.
من المحتمل أن يتمخض الأمر عن احتمال حدوث تقشف هائل بعد أن تكون الجائحة قد بلغت ذروتها فيما تسعى الحكومات الى العودة إلى الوضع “الطبيعي”. هذا الوضع يتهدد ألمانيا، الأمر الذي يجعله كارثياً. وليس مردّ هذا لأن وقف تمويل الخدمات الحيوية أثناء التقشف قد أثّر على قدرة البلدان في الاستجابة لهذه الجائحة.
إن الفشل الناجم عن ذلك والذي يلحق بالاقتصاد والمجتمع سوف يولّد اضطرابات سياسية واجتماعية، مما يؤدي إلى دولة فاشلة وانهيار كلّ من الدولة وأنظمة رفاهية المجتمع.

اشتراكية الدولة
تمثّل اشتراكية الدولة أولَّ احتمال مستقبليّ من بين الاحتمالات المستقبلية، ذلك الاحتمال الذي يمكن أن نراه مشفوعاً بتحوّل ثقافي يضع نوعاً مختلفاً من القيمة في قلب الاقتصاد. وهذا هو المستقبل الذي نصل إليه مع توسيع الإجراءات التي نراها في الوقت الحالي في المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.
المفتاح هنا هو أن اجراءات مثل تأميم المستشفيات ومدفوعات العمال لا يُنظر إليها على أنها أدوات لحماية الأسواق، بل هي وسيلة لحماية الحياة نفسها. وفي مثل سيناريو كهذا، تتدخل الدولة لحماية أقسام من الاقتصاد سيما تلك التي تكون ضرورية للحياة: إنتاج الغذاء والطاقة والمأوى على سبيل المثال، بحيث لا يمكن أن تكون المواد الأساسية للحياة تحت رحمة نزوة السوق. فالدولة تؤمّم المستشفيات وتوفر الإسكان مجاناً. وأخيراً، توفر [الدولة] لجميع المواطنين وسيلة للوصول إلى السلع المختلفة، سواء الأساسية منها أم أيّ سلعة استهلاكية يمكننا إنتاجها بأيدي عاملة مخفّضة.
لم يعد المواطنون يعتمدون على أرباب العمل بوصفهم وسطاء بينهم وبين مواد الحياة الأساسية. إذ يجري تقديم المدفوعات الى الجميع بشكل مباشر ولا ترتبط هذه المدفوعات بالقيمة التبادلية التي يخلقونها. وبدلاً عن ذلك، تكون المدفوعات هي نفسها للجميع (على أساس أننا نستحق أن نكون قادرين على العيش، ببساطة لأننا مازلنا على قيد الحياة)، أو أنها [أي المدفوعات] تستند إلى فائدة العمل. وهكذا فإن عمال الأسواق المركزية وسائقي التوصيل وعمال المستودعات والممرضات والمعلمين والأطباء هم الرؤساء التنفيذيون الجدد.
من الممكن بأن تظهر اشتراكية الدولة نتيجة لمحاولات في رأسمالية الدولة وآثارِ جائحةٍ طويلةِ الأمد. فإذا حدثت عمليات ركود عميقة وكان هناك اضطراب في سلاسل التوريد بحيث لا يمكن تأمين الطلب عن طريق نوع السياسات الكينزية [نسبة الى كينز] القياسية التي نراها الآن (طباعة النقود، وتسهيل الحصول على القروض، وغير ذلك)، فلأن الدولة قد تتولى عملية الإنتاج.
وثمة مخاطر تكتنف هذا النهج؛ لأنه علينا أن نكون حريصين على تجنب الاستبداد. ولكن إذا جرى ذلك بشكل جيد، فقد يكون هذا هو أفضل أمل لنا في مواجهة التفشي الشديد لكوفيد-19. أي سوف تكون هناك دولة قوية قادرة على توجيه الموارد لحماية الوظائف الأساسية للاقتصاد والمجتمع.
المساعدة المتبادلة
إن المساعدة المتبادلة هي المستقبل الثاني الذي نعتمده في حماية الحياة بوصفها مبدأ موجِّهاً لاقتصادنا. لكن في هذا السيناريو، لا تلعب الدولة دوراً محدداً. فبدلاً عن ذلك، يبدأ الأفراد والمجموعات الصغيرة في تنظيم الدعم والرعاية داخل مجتمعاتهم.
تكمن المخاطر التي ينطوي عليها هذا المستقبل في أن المجموعات الصغيرة تكون غير قادرة على حشد الموارد اللازمة بسرعة لزيادة قدرة الرعاية الصحية بشكل فعال، على سبيل المثال. لكن المساعدة المتبادلة يمكنها أن تساعد في الحدّ بشكل كبير من التفشي، من خلال بناء شبكات دعم مجتمعية من شأنها أن تحمي القواعد المعرضة للخطر وقواعد العزل التي تمارسها الشرطة. ان الشكل الأكثر طموحاً لهذا المستقبل يشهد بروز بنى ديمقراطية جديدة. أي ظهور تجمعات مجتمعية قادرة على تعبئة موارد كبيرة بسرعة نسبية. بمعنى يجتمع الأشخاص معاً لتخطيط الاستجابات المناطقية لوقف انتشار المرض ولعلاج المرضى (إذا كانت لديهم المهارات).
هذا السيناريو يمكن أن ينبثق من أيٍّ من السيناريوهات الأخرى. فهو طريقة ممكنة للخروج من البربرية، أو رأسمالية الدولة، ويمكن أن يدعم اشتراكية الدولة. نحن نعلم بأن استجابات المجتمع كانت منصبّة على معالجة تفشي فايروس إيبولا في غرب إفريقيا. وها نحن نرى بالفعل جذور هذا المستقبل شاخصة اليوم في المجاميع التي تقوم بتنظيم حزم الرعاية والدعم المجتمعي. إننا نرى هذا على أنه فشل في استجابات الدولة. أو يمكننا أن نراه استجابة مجتمعية رحيمة، براغماتية لأزمة لم تتكشف أسرارها بعد.
الأمل والخوف
هذه الرؤى هي بمثابة سيناريوهات متطرفة وصور كاريكاتورية، ومن المحتمل أن تتداخل مع بعضها البعض. خوفي هو الانحدار من رأسمالية الدولة إلى البربرية. لكن أملي هو مزيج من اشتراكية الدولة والمساعدة المتبادلة: أي دولة ديمقراطية قوية تحشد الموارد لبناء نظام صحي أقوى، وتعطي الأولوية لحماية الضعفاء من نزوات السوق وتستجيب للمواطنين وتمكّنهم من تشكيل مجموعات مساعدة متبادلة بدلاً من أداء وظائف لا معنى لها.
ويحدونا أمل في أن كل هذه السيناريوهات تترك بعض الأسباب للخوف، لكن أيضاً تعطينا أسباباً للأمل. إن كوفيد-19 يسلّط الضوء على أوجه القصور الخطيرة في نظامنا الحالي. لذا فإن الاستجابة الفعالة لهذا الأمر من المحتمل أن تتطلب تغييراً اجتماعياً جذرياً. لقد جادلتُ بأن الإستجابة تتطلب تحركاً جذرياً بعيداً عن الأسواق واستخدام الأرباح بوصفها طريقة أساسية لتنظيم الاقتصاد. إن الجانب الإيجابي لهذا يكمن في إمكانية بناء نظام أكثر إنسانية من شأنه أن يجعلنا أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة في المستقبل والأزمات الوشيكة الأخرى مثل التغير المناخي.
إن التغير الاجتماعي يمكن أن يأتي من أماكن وتأثيرات عديدة. وتتمثل المهمة الرئيسية لنا جميعاً في المطالبة بأن الأشكال الاجتماعية الناشئة تنطلق من أخلاقيات تقدّر الرعاية والحياة والديمقراطية. لذلك تكمن المهمة السياسية المركزية في وقت الأزمة هذا في العيش والتنظيم (تنظيماً فعلياً) حول تلك القيم.
*** *** ***

سايمون ماير: زميل باحث في الاقتصاد البيئي، في مركز فهم التنمية المستدامة، جامعة سري.
المصدر: The Conversation في 3 نيسان 2020.

المصدر