ما معنى التاريخ
والفرق بين التاريخ (بالألف الليّنة) والتأريخ( بالألف المهموزة)
علاء الدين صادق الأعرجي
باحث عراقي مقيم في نيويورك
ملاحظة إيضاحية: هذه الدراسة جزء من مشروع كتاب مستقبلي ، تحت عنوان ” نحو”إعادة كـتابة التاريخ العربي الإسلامي ؛ ، وقد نشرنا شيئاً عن هذا المشروع في بعض الدوريات. كما نشرنا بعض تفصيلات هذا المشروع في ملحق كتابنا” الأمة العربية بين الثورة والانقراض؛ بـحث في نظرية العقل المجتمعي، تفسيراً لأزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي”. دار نيبور، بغداد، 2015، ص 365.
تعريف التاريخ على وجه العموم
تعريفات التاريخ البشري كثيرة ومتشعبة، نستعرض بعضها باختصار شديد:
لفظة التاريخ ،باللأف الليّنة، لغة ً: من فعل “أرَخ َ”، الكتابَ حدد تاريخه ، وأرخ الحادث َ ونحوه: فصَّـل تاريخه وحدد وقته. ( المعاجم العربية مادة أرخ) . وقد تكون الكلمة عربية جنوبية اعتمادا على رواية تقول أن أول من أرخ تاريخ حدث ما، هو” يعلي بن أمية”حين كان باليمن. فكتب إلى الخليفة عمر كتاباً مؤرخاً. فاستحسنه عمر وقال “هذا حسن فأرِّخوا”. ويرى المستشرق جـِب(H.A.R. Gibb) أن لفظة تاريخ مشتقة من اللغة السامية القديمة التي تعني القمر أو الشهر، وقد وردت في اللغة العبرية بلفظة “ي رخ”.1
اصطلاحاً : يقول ابن خلدون” إن فنّ التاريخ” ّ من الفنون التي تـتداولُه الأمَمُ والأجيالْ، وتُشَدُّ إليه الركائبُ والرحالْ… إذْ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام ِوالدولْ، والسوابق من القرون الأُوَلْ… ويؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت ْ بها الأحوالْ، و اتسع للدول فيها النطاق والمجالْ، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحالْ، وحان منهم الزوالْ، وفي باطنه نظرٌ وتحقيقْ ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيقْ، وعلمٌ بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميقْ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريقْ، وجدير بأن يُعدَّ في علومها وخليق.” وهكذا قد يجوز القول إن ابنُ خلدون فتح بوَّابة “علم التاريخ”، بالمعنى الحديث على مصراعيها، ولأوَّل مرَّة.2
وتدل كلمة التاريخ عند سقراط على المعرفة، وعند أرسطو على جمع الوثائق. وعند بيكون هو “البحث في أحوال تاريخ البشر ووقائعهم الماضية”. وتطلق كلمة التاريخ في العصر الحديث على ” العلم بما تـَعاقـَبَ على الشيء في الماضي من الأحوال المختلفة، سواء أكان ذلك الشيء ماديا أو معنويا: كتاريخ الشعب وتاريخ الأسرة وتاريخ القضاء وتاريخ العلم وتاريخ الفلسفة إلخ . . .3
ويعرَّف قسطنطين زريق التاريخ بـأنه ” السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه 4. ثم يُسهب ويُـجيد في تفسيره وتفصيله لهذا التعريف، بل يبرر، إلى حدّ بعيد، وبشكل غير مباشر، دعوتنا لإعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي.
ويعرفه ريمون أرون Raymond Aron، في كتابه ” مدخل إلى فلسفة التاريخ” بمعناه الضيق، بأنه “علم الماضي البشري”. وبمعناه الأوسع يقول إنه يعني “دراسة صيرورة le devenir الأرض والسماء والأجناس البشرية بالإضافة إلى الحضارة.5 (6)
ونقترح أن نميز بين مفهوم لفظة “التاريخ”(بالألف اللينة) كأسم ، باعتباره يدل على الماضي البشري ذاته، والتأريخ (بالهمز)كمصدر للفعل “أرَخَ “، على الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضي، أو العِلم المعني بهذا الموضوع. وقد حاول بعض الباحثين الفرنسيين التمييز بين المفهومين، بجعل لفظة Histoire تكتب بـحرف الـ H الكبير، لتدل على الماضي ذاته، بينما histoire تدل على العلم المعني بالتاريخ.6
* * *
كذلك نرى، خلافا للتعريف الوارد في “المعجم الوسيط ” الذي لا يـفرق بين “التاريخ” و”التأريخ”( بالهمز)، أنه يجب أن نفرق بين المصطلحين. فالأول “اسم” يطلق على مسمى يتعلق بماض أو أصل، فتقول تاريخ أوربا أو تاريخ الأمة العربية، أي ما كانت عليه أوروبا أو الأمة العربية من أحوال في ماضيها، القريب أو البعيد، أو تحديد أصلها وفصلها. أما لفظة “تأريخ”(بالهمز) أوروبا أو تأريخ الأمة العربية، فهي “مصدر”، وتعني عملية صناعة “التاريخ” المتعلقة بهما، بكل ما فيها من بحث في الوثائق ودراسة الآثار وتحقيقها ونقدها. كما يعني أيضا تحديد وقت الحدث أو زمانه، فتقول مثلا ً تأريخ الرسالة أو الكتاب أو تأريخ الوثيقة أو الأثر التاريخي ، أي عملية تحديد زمن الأثر أو صدور الرسالة أو الكتاب.
وهكذا، نقترح أن نميـّز، ربما خلافا لكثير من المؤرخين المعروفين، حسب علمنا، بين أربعة معانٍ للفظة التاريخ، بدل معنيـَيْـنِ فقط:
اللمعنى الأول، هو التاريخ المعروف، كخبر عن الماضي، بقدر كبير أو قليل من الدقة والتفصيل( أي الخبر المحكي، أو المكتوب، نفسه أو المستخلص من الآثار المكتشفة ). وهكذا يعتذر أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري، المتوفي في عام 310 هجري، صاحب الكتاب المعروف بـ “تاريخ الأمم والملوك”، فيقول في مقدمته :
فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قـارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا..[2]»
المعنى الثاني، هو التاريخ ذاته، أي الوقائع والأحداث كما حدثت فعلاً ، لا كما نُـقلت إلينا، خصوصا ًبعد مرور الزمن عليها، إذ تداولتهأ الألسن والآذان فتشوهتْ وتحرفتْ فـتغيرت. وكل الدلائل تشير إلى تعذر معرفة أحوال الماضي كما كان فعلا ً ، كلما بَعـُد. فمعظم أخبار الماضي ضائعة أو غير منقولة بتمامها أو بالدقة اللازمة، لأنها مستنتجة بقدر كبير من التخمين وقليل من الثقة والتحقيق.
فنحن إذا أردنا الدقة، لا ندري فعلاً ما حدث بالضبط أمس أو اليوم في عالمنا بل في مدينتنا، لاسيما إذا كانت مدينة كبيرة، على الرغم من تطور وسائط الاتصال، فما بالك بما حدث فعلا ً قبل آلاف الأعوام أو أكثر! ! ونحن لا نقصد بالطبع كل ما يحدث للأفراد من شؤون يومية عادية مألوفة، بل الأحداث الهامة التي تتضمن دلالات مجتمعية معينة، أو يمكن أن تؤدي إلى نتائج لها أهميتها. ومع ذلك يمكن أن تشكل هذه الأحداث اليومية العادية المألوفة مادة خصبة للدراسات التاريخية والسوسيولوجية، خصوصا بعد مرور فترة معينة من الزمن. فنحن مثلا، نهتم جدا اليوم بالعثور، على “رقيم” طيني، يقدر عمره بـ3000 عام، يوثــِّق صفقة عادية لبيع الناتج من القمح في حقل “ألف” من الناس، إلى “باء”من الناس، في موقع مدينة “أور”، في جنوب العراق. ذلك لأننا نستخلص من دراسة هذه الوثائق، التي كانت تعتبر عادية في وقتها، نتائج تلقي ضوءاً على العلاقات التجارية والاجتماعية، وطريقة حياة الناس وتعاملاتهم، في ذلك الزمن. خصوصا وإن المؤرخين القدماء، لم يعتادوا التحدث عن أساليب حياة الناس العاديين، بينما درجت المناهج التاريخية الحديثة على دراسة أحوال المجتمعات، من خلال تعقب أخبار أفرادها وعلاقاتهم المتفاعلة. وهذا اتجاه معقول ومفيد، لأن هؤلاء الناس العاديين ، هم الجزء الأكبر الذي يحدد السيرورة التاريخية والصيرورة التطورية لأي أمة أو مـجتمع.
و المعنى الثالث، هو التأريخ (بالهمز )، كمصدر للفعل ” أَرَخَ “ ، وهو “عملية” دراسة التاريخ، كما ذكرناها أعلاه. فنقول مثلا: نحن ندعو إلى إعادة كتابة “التاريخ العربي الإسلامي”، عن طريق “التأريخ” له (بالهمز). أي من خلال ما نقوم بـه من “عمليات وإجراءات” متعددة لاستخلاص الحقائق التاريخية، قدر الإمكان ، بما في ذلك البحث في المصادر المعتمدة ، وإجراءات تمحيصها ونقدها، و المقارنة الدقيقة والعميقة فيما بينها، ثم التحقيق في خلفيات المؤرخ وميوله وسيرته، ومدى التزامه بإرضاء السلطة الحـاكمة. ثمّ التنقيب في الآثار الشاخصة أو المطمورة، والتدقيق في أصلها وفصلها، إلى غير ذلك من عمليات السبر والحفر المتبعة في الأوساط العلمية المتقدمة . لذلك يصح أن نقول، مثلا ،” نحن نقوم بـ “تأريخ التاريخ”،(الأول بالهمز والثاني بدونه) أي نؤرخ للتاريخ نفسه، فندرس كيف ومتى بدأت الدراسات التاريخية وجرت عمليات تدوين التاريخ، أو تمحيص وقائعه، وكيف تطورت تلك الدراسات، فضلا عن دراسة وسائل البحث التاريخي التي أفضت إلى اكتشاف تاريخ هذا المجتمع أو ذاك.
أما المعنى الرابع للتاريخ ، فهو التسمية التي تطلق على الأعمال المكتوبة المتعلقة بتدوين التاريخ، فنقول مثلا: تاريخ محمد ابن جرير الطبري، ونقصد به كتاب “تاريخ الأمم والملوك”، للطبري. كما نقول تاريخ المسعودي، لنعني كتاب” مروج الذهب ومعادن الجوهر”، لأبي الحسين علي المسعودي، أو تاريخ الجبرتي، لنعني “تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار” لمؤلفه عبد الرحمن الجبرتي، وهكذا.
وتعقيباً على المعنى الأول والثاني، نرى أن الحدث لا يصبح حدثاً تاريخيـّاً إلا إذا عُرف، ولا يُعرف إلا إذا شُهد، ثم نُـقل شفويا أو تحريريا، وهكذا يتحول إلى حدث تاريخيٍّ. ولكن مع ذلك، فربما هناك وراء كل حدث يـُنقل شفويا ًأو تحريريا، عشرات الأحداث الكبيرة أو الصغيرة التي لم تُنقل. وهذه الأحداث المجهولة تتزايد كلما ابتعدنا عن الزمن الحاضر. وذلك لا بسبب عدم أهميتها أو خطورتها كما أسلفنا، بل لأنها لم تـُشهد أصلا ً أو شُهدت ولم تدون، أو شُهدت ودُوِنت، ولكن وثيقتها ضاعت. وهكذا فالتاريخ الذي نقرأه يمثل، على الأرجح، جزءاً يسيرًا من الحقيقة التاريخية التي حصلت بالفعل، أو جزءاً من حقيقة مشوهة أو معدلة.7 وفي هذا السياق يقول عبد الله العروي :” كل حدث يصبح حدثا عندما يوصف، حتى بالنسبة للمعاصر، المشاهد له. ولا يـُتـصور وصف يطابق الواقع كامل المطابقة”.8(9)
من جهة أخرى- ونحن ما زلنا في إطار تحليل أو تفكيك التعريفين الأول والثاني- فان الخبر التاريخي يرتبط بالمؤرخ ، أو ناقل الخبر، أو الصحافي. وكل منهم كائن بشري ، يتأثر بالخبر وبظروفه كحدث، وبظروفه الشخصية الخاصة به هو، بدرجات وكيفيات مختلفة. كما يمكن أن ينقله بأشكال مختلفة تؤثر في فحواه أو مغزاه.
وهكذا تقع على المؤرخ المعاصر عامة، والعربي خاصة، مسؤولية كبرى في تحقيق مختلف النصوص وتمحيصها ومقارنتها ونقدها، كما أسلفنـا، بل استقصاء نـيَّـة المؤرخ، الظاهرة أو الخفية، أو مصدره في نقل الخبر، فضلا عن اتجاهاته وميوله ومعتقداته، لاكتشاف مدى موضوعيته وحيدته، وبالتالي، اكتشاف ما يمكن أن يكون قد أهمله المؤرخ ، بوعي أو بغير وعي.
وكمثال على ذلك، نشير إلى حالة معينة في كتاب التاريخ المعروف بـ”فتوح البلدان” للبلاذري. ذلك أن صلات هذا المؤرخ الوثيقة بالخلفاء العباسيين ووزرائهم، أَثـَّرَتْ في كتابته للتاريخ المذكور أعلاه . فقد مدح المأمون وأصبح من ندماء المتوكل المقربين، وتقرب من المستعين والمعتز، الذي عهد إليه بـتـثـقيف ولده، كما يشير ياقوت الحموي في “معجم البلدان”. وهكذا، مع أنه عاصر الثورة “البابكية”،بمبادئها التقدمية(إلغاء ملكية الأرض وتوزيعها على الفلاحين وتحرير المرأة إلخ)، وهي مبادئ تتعارض تماماً ومصالح الطبقة الحاكمة في الخلافة العباسية، فحاربت تلك الثورة خلال 22عاما؛ أقول مع أن البلاذري عاش تلك الثورة منذ شبابه، إلا أنه أهملها في تاريخه تقريبا، ولم ْ يُـشر إليها إلا إشارة قصيرة وعابرة، وأطلق على زعيمها “الكافر الخرمي”، وذلك تقرباً للعباسيين.(10)
ولزيادة التدليل على أهمية وخطورة تدخل ناقل الخبر(باعتبار أن الخبر هو المادة الأولية الخام التي تشكل معلومة المؤرخ) في حقيقة الحدث ذاته، يمكن أن نأتي بأمثلة عديدة تتعلق بطريقة نقل الأخبار في العصر الحديث، الذي من المفترض أن يكون أكثر العصور صراحة ومصداقية ودقة وموضوعية، انطلاقا من توفر الإمكانات المادية والتقنية، واختصار المسافات، وتقارب أصقاع المعمورة، التي أصبحت توصف بالقرية الصغيرة. لكننا نكتفي بإيراد مثال واحد، نـُذكـِّر فيه بالفروق، الصغيرة أو الكبيرة أحيانا، بين طريقة نقل الخبر من جانب فضائية “الجزيرة”، في قطر، أو “الميادين” في بيروت ، ونقله من جانب محطة الـ”سي إن إن” CNN أو محطة “فوكس” Fox N، الأمريكيتين، لاسيما إذا تعلق الخبر بقضية الصراع العربي الإسرائيلي والمنطقة العربية عامة. فهنا تتدخل الخلافات السياسية والأيديولوجية والمصلحية، بين الأطرف التي تـتناول الخبر. وهذا ما يحدث في الغالب في عصر التقدم الحضاري وعصر حرية الكلمة وصراحة التعبير، فما بالك بما كان يحدث قبل مئات أو آلاف السنين؟.
وفي نفس السياق أيضا، يذهب الشاعر والمؤرخ العراقي معروف الرصافي، إلى الحد الأقصى، فيقول إنه بعد أن “كان يكتب للتاريخ ويحسب له حساباً ويجعل له منزلة. . . ” يستحقها، أنضجته الأيام بحوادثها فأحالته من حال إلى حال. ويضيف:”وكذلك فعلت بي الأيام حتى أصبحت لا أقيم للتاريخ وزنا ً ولا أحسب له حسابا ،ً لأني رأيته بيت الكذب ومُناخ الضَلال ومتشجم أهواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت فيه ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة فيتعذر أو يتعسر على المرء أن يستخلص من طيس أباطيله ذرات شذور الحقيقة”. وقد عـبَّر عن ذلك في قصيدة طويلة بعنوان “ضَلال التاريخ”(الضاء مفتوحة) قال فيها:
وما كـُـتـُب التاريخ في كل مـــا روت لقرائها إلا حديث ٌ مُـلـَـفـَقُ
نظرنا لأمــر الحـــاضرين فرابنا فكيف بأمــــر الغابرين نـُصدِّقُ
وما صدَّقـتنا فــــي الحقائق أعينٌ فكيف إذن فيهن يصدق مُهْرَقُ ؟
وهل قد خَصَصْنا دون مَن ماتَ قبلنا بـِخُبْثِ السجايا؟ شـَدَّ ما نـَتـَحَمَقُ
(المهرق، بصيغة المفعول، الصحيفة، أي النص التاريخي)(11)
وهذه النقطة الأخيرة بالذات، حتى إذا بالغ في وصفها الرصافي، تشكل أحد الأسباب المهمة التي تبرر الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي.
* * *
وثمة مفهوم آخر للتاريخ، يتجاوز مفهوم الماضي إلى الحاضر والمستقبل. وينطلق هذا المفهوم من اعتبار التاريخ حركة:”حركة الكون وحركة الأرض وحركة الأحياء والناس على سطح الأرض وما تستتبعه هذه الحركة من تغير دائم. وإذ تعتبر الحركة تغيراً مستمراً منذ بدء الخليقة إلى نهايتها، فإن التاريخ أيضا متصل منذ الأزل إلى الأبد، وهو يشمل الماضي والحاضر والمستقبل جميعا، فكله تاريخ وكله ميدان عمل المؤرخ، وهو نهر الحياة المتدفق الجاري المتجدد دائما، بما تأتي منابعه وما تأتي به روافده” (عبد الرحمن الشيخ، المرجع الوارد في الحاشية 2 ، نقلا عن حسين مؤنس” الحضارة”،الكويت: المجلس الوطني للثقافة، عالم المعرفة 1 ، ص121.)
* * *
و ختاما نشير إلى نظريتنا في “العقل المجتمعي” التي تفترض أن لكل “وحدة مجتمعية”، ( أو مجتمع ) ككيان قائم بذاته، عقلاً أطلقنا عليه تعبير ” العقل المجتمعي” وهو ذلك الجهاز الذي تكــوَّن أو تـَخَـلَّقَ، خلال عمر ذلك المجتمع المديد، نتيجة تراكم الأحداث والماجريات التي تُختزن مُحَصِّلاتها فيه منذ أقدم العصور إلى ا ليوم . فهو بمثابة مرآة يمكن من خلالها اكتشاف أحداث ماضي ذلك المجتمع وملابساتها، التي ضاع معظمها بمرور الزمن، أو أُهملت أو غُـيِّـبَت لأسباب متعددة. فنحن نرى أن العقل المجتمعي يمثل الذاكرة التاريخية للمجتمع، أو الصيرورة التاريخية الحقيقية له، منذ أقدم العصور إلى اليوم. لهذا نعتبر”نظرية العقل المجتمعي” ذات أهمية أساسية ليس فقط في فهم تاريخ المجتمع العربي الماضي، وحسب، بل في تَــفهم وضعه الحاضر، وتفسير وتحليل إخفاقاته الراهنة، وعوامل تخلفه عن المسيرة الحضارية القائمة والمتفجرة. وقد فصَّلنا هذا الموضوع في كتاب ” أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل”(بيروت: دار كتابات، 2004)، ص76 .
المراجع والحواشي
2 -عبد الرحمن الشيخ،”المدخل إلى علم التاريخ”(الرياض : دار المريخ للنشر، 1984)، ص17.
3- عبد الرحمن بن خلدون، “مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” (بيروت: دار الفكر العربي ، 1997)، ص5.
4- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مادة تاريخ.
5- قسطنطين زريق”نحن والتاريخ” في “الأعمال الكاملة”(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1996)، ص41 وما بعدها.
6- Raymond Aron,Introduction a la philosophie de l’histoire, P.17, Galimart. Paris,1986.
7- قسطنطين زريق” نحن والتاريخ”، المرجع السابق، ص13.
8-
9- عبد الله العروي “العرب والفكر التاريخي”( الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، بلا تاريخ )، ص77-78.
10- برهان الدين دلو”مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي”(بيروت:دار الفارابي، 1985)، ص13.
11- معروف الرصافي”كتاب الشخصية المحمدية”(كولن ، ألمانيا : منشورات الجمل، 2002)، ص15. نحذر القارئ من أن تلك الأبيات المذكورة في هذا الكتاب، تتضمن أخطاء تشوه الوزن الشعري والمعنى. لذلك عدّلناها وضبطناها من الأصل. أنظر “ديوان الرصافي”، تحقيق وشرح وتعليق مصطفى علي(بغداد:منشورات وزارة الإعلام العراقية، 1077)، ص 12.
12- يـُروى عن جعفر ابن أبي طالب، أحد أفراد فريق المسلمين، الذي هاجر إلى الحبشة، هربا من اضطهاد المشركين، أنه قال للنجاشي:” كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي بالفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي الضعيف . . .” ( السيرة النبوية لابن هشام(بغداد: مطبعة وأوفسيت منير، 1986)، الجزء الأول، ص 336).
13- بالإضافة إلى شرح بعض معالم هذه الفرضية في كتابنا المشار في الحاشية 8 أعلاه، شرعنا بشرح تفصيلاتها الهادفة إلى إثباتها، من خلال خمسة بحوث نشرت تباعا في مجلة”صوت داهش” الفصلية(نيويورك)، تحت العنوان الرئيسي”أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي”، وعناوين فرعية:”الصراع بين البداوة والحضارة من تجليات العقل المجتمعي العربي الغارق بالتراث”،”إحراق المراحل: عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة”، ” الثورة الزراعية وأهمية العمل المنتج في إرساء دعائم الحضارة البشرية”،” نتائج الطفرة الخليجية؛ مقارنة بين حال العرب بعد الفتوح الإسلامية وحال عرب الخليج بعد الطفرة النفطية”، “محددات العقل السياسي العربي: القبيلة، الغنيمة، العقيدة؛ نظرية الجابري في قراءة التاريخ السياسي العربي”( أنظر أعداد ربيع وصيف وخريف 2004 وشتاء وربيع 2005 من المجلة المذكورة).