نظرة محايدة لدعاء كميل

416

نظرة محايدة لدعاء كميل
من بين كل الأشياء التي كانت ولا تزال تثير لديَّ الإنتباه وتستدعي المزيد من الرعاية والإهتمام ، هذا الدعاء الذي يحمل الكثير و يتضمن الكثير من المعاني و الكلمات الدالة ، والروح العرفانية المفعمة بكل الحيوية والصدق والوضوح ، والذي قد لا نجد له مثيلاً أو نظيراً في باقي الأدعية المبثوثة هنا وهناك ، وهذا ما يدفعنا للتقدم خطوة دائماً من أجل بيانه وتوضيحه للعامة ما تيسر لنا ذلك وأمكننا ، لكن أمراً معرفياً وعلمياً خالصاً كان يواجهنا دائماً ، مما جعلنا نتوقف ونتراجع في سالف الأيام عن شرح الدعاء وتفسيره .
وذلك الأمر هو : – ما يتعلق بصحة هذا الدعاء من جهة السند التاريخي والروائي له ، و من جهة صحة صدوره عن حضرة مولانا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب – ، وفي هذا المقام لا بد من التنويه والإشارة إلى : – إن عامة الأدعية ليست صحيحة الأسناد الروائي والتاريخي – ، وإنما هي مراسيل أو أخبار آحاد مجهولة السند ، وهذا الوهن الروائي يرى فيه البعض دليلاً في رد هذه الأخبار والأدعية وعدم الإعتماد عليها أو الأخذ بها ، مع إن الأمر قد فُصل هناك في قواعد الإستدلال ومن أراد مزيد بيان فليراجع ذلك هناك .
صحيح إن الذي بين أيدينا من المصادر والدفاتر والأوراق التاريخية والتراثية ، لا تعطينا النتيجة المطلوبة والتي نبحث عنها في هذا المجال ، وهذا رأي عامة علماء الرجال والرواية ، وكما قلنا إن غاية ما يُقال هاهنا : – أنها عبارة عن مراسيل – بمعنى إنها لا تمتلك السند الموثق الذي يمكننا الإحالة إليه والإعتماد عليه .
والمُرسل من الأخبار : – هو ما يتم الإبلاغ عنه من المعصوم من دون رؤية المعصوم أو السماع منه على نحو مباشر – ، وهذا النوع من الأخبار يرسل إرسالاً من غير تحقيق ولا تدبر .
لكن الأصوليون ودرءاً للمفسدة هذه قاموا بعملية إسعاف لهذه الأخبار ، و أوجدوا له منفذاً يصح التعامل به والأخذ عنه ، هذه العملية أسموها – [ قاعدة التسامح في أدلة السنن ] – ، والتي يريدون منها معنى المسامحة أو التساهل ، فيما يخص ويتعلق بتطبيق الشروط الموضوعية في عملية قبول الأخبار وإعتمادها ، لكن هنا وجدوا إن تطبيق نفس الشروط هذه في تقييم أخبار الآحاد والأدعية كُلفة ومضنة ، لذلك أعتمدوا على هذه القاعدة المستوحات من الواقع وما تدر عليه وما يستفاد منها في بيان الأدلة العامة وكذلك في بيان الأحكام العامة ، فكان العمل بهذه القاعدة إستجابة و رفعاً للحرج الذي كان يواجه الدارسين في منظومة الأخبار ودورها وأثرها .
ولكن ماذا تعني تلك القاعدة في مجالنا هذا ؟ ، والجواب : إنها تعني ببساطة التساهل في تطبيق الشروط والضوابط المعمول بها في ضبط الأخبار كما جرت العادة في مباحث الفقه والأصول ، فمن جهة تسمح هذه القاعدة بغض الطرف عن ضعف الخبر من جهة السند الروائي له ، وعدم التركيز على ذلك طالما كان المتن صحيحاً وموافقاً لكتاب الله المجيد ، فالمشهور بين العلماء : – إن الخبر إذا وافق كتاب الله فيجب الأخذ به حتى لو كان سنده ضعيفاً أو مجهولاً – ، وتتعزز هذه القاعدة فيما هو مستحب ومكروه من الأعمال و الأشياء ، ولأن الأدعية تتضمن شمائل الأخلاق ومكارمها ، لذلك أعتمدت هذه القاعدة في هذا الشأن بكثافة ولم يُعد السند الروائي يشكل عائقاً في تصريف وبث ونشر تلك الأدعية لما لها من فائدة عامة ، ولم يكتف الفقيه ولا الأصولي في تخصيص العمل بها فيما يتضمن القيم والأخلاق ، بل أجروا العمل بها كذلك في باب الأدلة العامة وكذلك الأحكام العامة .
أقول : لقد تمَّ وبفعل تلك القاعدة السماح لهذه الأدعية ان تجد لها حضوراً فاعلاً في كل شؤون الأدب والثقافة المتخصصة في هذا الباب ، ومن هذا المنطلق فنحن لا نجد حرجاً في إعتبار مضمون الدعاء ( مدركاً يمكن التحاجج فيه والأستئناس به ) ، وجرياً على ذلك ووفقاً له وطمعاً : [ نقول لا ضير من ذلك طالما كان الغرض سامياً ونبيلاً ويهدف لدعم وتأييد ما جاءت به النبوات والرسل ] .
ودعاء كميل هذا مورد البحث بما يتضمنه و يحتويه يخضع بالضرورة لهذه القاعدة ، ولأنه كذلك أعتبر ذلك دليلاً مضافاً على توثيقه من جهة وعلى العمل بما ورد فيه من جهة ثانية ، ونخص في الذكر الجانب الروحي والعرفاني والأخلاقي – الذي هو ، كمال الدين وعموده – ، كما ورد في المأثور مسطورا : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .
ودعونا نقول من غير مواربة : – إن دعاء كميل تاج غرة الأدعية جميعها – ، ولذلك صححنا مقولة البعض من أهل المعرفة في إستحباب قراءته في ليالي الجمع وأيام الأعياد المباركة وعند كل مناسبة أو شعيرة من شعائر الله .
ملاحظة :
ولكن من أين جاء الوهن والضعف الروائي في دعاء كميل ؟ ، والجواب : ركاكة السند ووهنه نقرئه في البداية الموحشة التي ورد فيها الدعاء مروياً عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي عن مولانا أميرالمؤمنين عن الخضر ، وهنا محط الركاب والريبة ولا أظن إن ما قام به البعض من الأعلام أعلى مقامهم في تصحيح هذه النسبة ممكن أو قابل للقبول ، ذلك أن شخصية – الخضر – التي يُحكى عنها هي في الأصل ( شخصية وهمية ) ، أعني لم نجد لها ذكراً في كتاب الله المجيد وكل الذي بين أيدينا من النصوص ومن بينها ، هذا النص ، القائل : – [ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ] – الكهف 65 ، ضمن القصة المشهورة لا يعتبر دليلاً عن وجود هذه الشخصية وحقيقتها ، وهذا يعني إننا نحمل النص ما لا يحتمل من المعاني ، وهذا مخالف للمراد ونكوص عن الحقيقة ، والكتاب المجيد في أستخدامه للفظ – عبد أو العبد – ، أستخدمه بالمعنى العام الذي يصح تطبيقه على كل عبد سواء أكان من الملائكة أو الناس وليس هناك تحديد معنوي ما على ذلك .
وأهل البيان مجمعون على أن هذا النوع من الإستخدام اللفظي يكون في العادة أو يأتي كضرب للمثل من باب الحكاية ، أضف إلى هذا إن تاريخ وتراث المسلمين قد تأثر كثيراً بغيره ، مما سمح للكثير من التصورات والمفاهيم بالزحف على ساحة الأدب والثقافة والأخبار الإسلامية ، ومنها ما يُقال عن – الخضر – وأخباره في حين إن النص إنما يقول : – عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما – ، ولم يقل زيدا أو بكر هذا من جهة البناء العام ، ومن الجهة الثانية هناك الفترة الزمنية التي تفصل الامام علي عن عهد الخضر ، وليس بين أيدينا وثيقة صحيحة تقول أن هناك لقاءاً حصل بين الأثنين ، ومعلوم أن من نسب هذا الدعاء وبهذه الطريقة المرسلة فاته أن يأتي ولو ببينة تثبت صحة هذا الإرسال ، فالقراءة الأولى للدعاء من هذه الناحية تذهب بنا للقول :
كيف تم نسبة الدعاء للإمام في كتاب مصباح المتهد للشيخ الطوسي والمتوفي سنة 460 هجرية ؟ ، والذي نقرئه تحت بند ما يستحب من الاعمال – في أعمال ليلة النّصف من شعبان – قال : إن كميل أبن زياد رواه عن أمير المؤمنين وكان ساجداً وهو يدعو بهذا الدعاء – !!! ، وهناك نسخة ثانية عرضها أبن طاووس أي في نهاية الثاني أي بعد سقوط بغداد على يد هولاكو ، وفي هذه النسخة الكثير من الإضافات والحذف قال أبن طاووس : – وجدت في رواية أخرى ما هذا لفظه ، قال كميل بن زياد: كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين ، في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزّ وجلّ: فيها يُفرق كلّ أمر حكيم ؟ قال : هي ليلة النّصف من شعبان !! ، والذي نفس عليّ بيده أنّه ما من عبد الّا وجميع ما يجري عليه من خير وشرّ مقسوم له في ليلة النّصف من شعبان إلى آخر السنّة في مثل تلك اللّيلة المقبلة، وما من عبد يُحييها ويدعو بدعاء الخضر !! الّا أجيب له ، فلمّا انصرف طرقته ليلاً، فقال عليه السلام : ما جاء بك يا كميل؟ قلت: يا أمير المؤمنين دعاء الخضر، فقال: اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدّعاء فادع به كلّ ليلة جمعة أو في الشهر مرّة أو في السنّة مرة أو في عمرك مرة، تكفّ وتنصر وترزق ولن تعدم المغفرة، يا كميل أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك بما سألت، ثم قال: اكتب… – ، وهنا نسأل ؟
هل يعني ذلك إن ليلة النصف من شعبان تعني ليلة – انزلناه في ليلة القدر – ؟ ، بمعنى أدق : هل أنها تعني ليلة القدر الوارد ذكرها في الكتاب المجيد و التي قال عنها الله إنها في شهر رمضان ؟ !! ، هذه قضية جدلية و معرفية وعلمية لا يمكننا تجاوزها بسهولة ، إذ كيف يتم جعل ما هو وارد في حق ليلة القدر من رمضان من أعمال لها يكون في ليلة النصف من شهر شعبان لتكون هي ليلة القدر ؟ !! ، ولو تتبعنا تاريخ نقل هذا الدعاء نجد فيه ان الخضر قد ألصق إلصاقاً ، حتى وأن أدعى بعض المتأخرين من الأعلام تصحيح صيغة ذلك اللقاء ، لكن ذلك لا يعدو من ان يكون استحساناً منهياً عنه ، وهم أنفسهم لا يميلون إليه في العادة ، مما يجعلنا نؤكد إن قضية نسبة الأخبار أو الترويج لها إنما تتم في العادة من أجل دفع الناس للقبول والتصديق بها دائماً ، كما هو شأن الزيارات المروية أو فيما يسمونه لسان الحال ، والتي أفتى بعدم جوازها غير واحد من المعاصرين ، ولكم أن تتصوروا ذلك كما يمكنكم التفريق بين مراد المعاني وجهة الرواية ، والمعيار اللازم هو في الموافقة لكتاب الله عملاً بوصية الإمام الصادق ، وما دون ذلك فليضرب به عرض الجدار ..
راغب الركابي

المصدر