نازك الملائكة: أمثولة النسوية الناقدة

577

د. نادية هناوي تصدرت نازك الملائكة طليعة النقد العربي الحداثي نظراً لتفردها المنهجي وريادتها الابداعية سواء في الاستهلالات النقدية لدواوينها الشعرية، أو في تأليفها الكتب المستقلة التي اتبعت فيها منهجيات نقدية تخصصت بالشعر العربي. وما كان لنازك أن تحظى بهذه الفرادة وتلك الريادة لولا ما تحلت به من اختلاف جعلها أمثولة طليعية في النقدية العربية كمفكرة ومشرعة اتخذت من الحداثة مسعى حياتيا دامت عليه زمنا امتد الى العقود الأخيرة من القرن العشرين. وكان من مسوغات الفرادة والريادة أن نازك الملائكة لم تقبل السير على المنوال النقدي كما لم تتقولب في البحث والتحليل على التطبيق حسب؛ بل تعدت ذلك إلى النظر التجريدي، متخذة من الاختلاف ديدنا لها، فلم يكن يعنيها التطبيق بقدر ما يهمها التنظير سواء بالتمثيل للقضايا النقدية أو بالاستجلاء للظواهر الأدبية. وهذا الاختلاف في الفكر النقدي منحها الجرأة في الخروج على المنهجيات المعتادة، لتتجه نحو التجديد، مناوئة المتداول والتقليدي، متمتعة بالنظر الإشكالي، مراهنة على المتغيرات لا الثوابت، معارضة التنميط النقدي، غير معتبرة الوعي وحده في النقد. ومنذ ديوانها الأول (شظايا ورماد) ومرورا بديوانها (قرارة الموجة) رفضت الملائكة التوافق، متحيرة إزاء أولئك الذين يريدون الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة. ولقد قادها اختلافها النقدي إلى استحداث أسس فكرية وفنية قرَّبت النقد العربي من الشكلانية وجعلته متحايثا مع البنيوية، برؤية نصية تنشغل بالشكل لكنها لا تنسى المحتوى ولو بدرجة معينة. ولولا هذا النزوع الاختلافي ما كان لفكر نازك أن يتسم بالشمول متعايشا مع الفضاء القرائي تعايشا به تصبح طبقات النص مراوغة في مدياتها ومتناظرة في طبقاتها. ومن النقاد الذين اعترفوا لنازك بالريادة الدكتور صلاح فضل الذي وجد في دراستها لهيكل القصيدة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) محاولة تطبيقية بنيوية، لاسيما وصفها لهذا الهيكل بالتماسك والصلابة والكفاءة والتعادل التي هي خصائص تشارف خصائص البنية. استقلاب النقد وحقيقة الأمر أن ريادة نازك الملائكة النقدية لم تنحصر في كتابها أعلاه ؛بل شملت كتبها كلها، على وفق رؤية تريد استقلاب النقد العربي، دافعة بعجلته نحو الحداثة. ولهذا نجدها لا تبالي بالجمع بين نظرية النص ونظرية التحليل النفسي، أو بين السيرية والنصية، مبتغية ايجاد منطقة ثقافية في الدراسة النقدية سابقة لأوانها. وهو ما تجلى في كتابها (الصومعة والشرفة الحمراء دراسة نقدية في شعر علي محمود طه) الذي فيه وطدت الملائكة اختلاف فكرها النقدي عن غيرها، متبعة منظورا شكليا في معالجة النصوص الأدبية منها والنقدية. وإذا كان متن الكتاب أعلاه يصب في باب النقد الشعري، فإن مقدمته تصب في باب نقد النقد، وفي هذه المقدمة تناولت نازك التحديد المعياري لسمات التبويب الجيد الذي يحفظ للكتاب النقدي تماسكه من ناحية البناء الفكري والتسلسل الموضوعي. هذا أولا وثانيا التوضيح لكيفيات البحث والاستقراء والاستنتاج والدراسة التحليلية والصبر عليها حتى لا يكون النقد عابرا، ولا يكون الكتاب مجموعة محاضرات أو أبحاث غير مترابطة لا يشدها سوى كونها تتناول شاعرا بعينه. وثالثا العنونة وشروطها في التماشي مع عناوين الكتب للمؤلف الواحد واهمية أن يكون اختيار العنوان حرا اصيلا متميزا بالتعبيرية التي تشخص عقدة الموضوع والعمود الفقري فيه. ورابعا الاختلاف في تشخيص شاعرية علي محمود طه وهو بيت القصيد الذي أولته نازك اهتمامها ودرسته على مستوى نقد النقد مخصوصا في مقدمة الكتاب حسب. رؤية الذكوريَّة وناقديتها النسوية جعلتها تعارض الرؤية الذكورية لنقاد كانوا قد عنوا قبلها بالشاعر علي محمود طه وهم أربعة: شوقي ضيف وانور المعداوي ومحمد مندور وسهيل أيوب. وأساس مخالفتها لما اسندوه للشاعر من عبثية واهوائية وحسية، مبني على رؤيتها الانثوية لشعر علي محمود طه وأن فيه روحانية وهوى متساميا وانتشاء خالصا من كل لذة أو نفعية مع تلازم في التوجهين الواقعي والجمالي. فرفضت تشبيه أنور المعداوي حب الشاعر علي محمود طه لامرأة واحدة كالعيش في غرفة واحدة، لكونه غير انساني كما رأت ولانه ينطوي على نظرة خطيرة تقتل انسانية الانسان وتسلمه لقلة الاحساس والفوضى والمرض والجريمة كأن الأصل في العاطفة الانسانية هو اللهو والعبث والمجون أو أن الوفاء لحبيب واحد هو التكلف والانحراف. وبنزعة انثوية تساءلت نازك :"والحق أني لا أفهم كيف فات المعداوي أن يلاحظ المعاني الفكرية العميقة في هذه الأبيات.. فالمشكلة هنا أبعد من مجرد حرمان من جسد المرأة كما يريد انور أن يستنتج". ووجدت في ما ذهب اليه محمد مندور في الابيقورية اتهاما لعلي محمود طه بامتاع الحواس الجسديَّة. فنازك الملائكة هنا تستقلب رؤيا العالم الذكورية التي ترى المرأة كيانا محدودا ضيقا ومسطحا كالغرفة إلى رؤيا نسوية للعالم فيها المرأة حية وشاسعة بامتداد لا نهاية له، ككيان له هوية وكذات مترامية ذات عمق وثقافة وحرارة. ولا غرو أن هذه الرؤية للعالم متقدمة في وقتها، وما كان لنازك أن تستدل عليها لولا أنها انطلقت من الاختلاف النقدي رافضة الامتثال للمعتاد، مراهنة على التشبث بالتجريد والمعارضة التي تؤاخذ وضع النظرية أولا كرؤية منهجية ثم الاتيان بشعر الشاعر ليتم ضغطه ضغطا شديدا يلائم تلك النظرية. وهو ما يجعل نقد نازك الملائكة مدرجا في خانة ( التدميرات الضرورية) التي تعني القدرة المبدعة القادرة على قلب كل الانظمة وكل التمثلات. وهذه التدميرات هي التي جعلت الملائكة ترفض الحسية وترتكن إلى الروحانية معلنة بذلك عن هوية نقدية لها سعة نفسية وامتدادية حياتية قوامها الخصب والعمق والابعاد الفكرية الشاسعة البعيدة عن السطحية والعاطفة الحارة. وكثيراً ما تتسم تمثيلات نازك الملائكة النقدية بالرفض للنظريات المتداولة التي تصفها بأنها فاسدة في سوق الأدب، بحثا عن نظرية جديدة ذات أفق نقدي جديد، نظرية لا تمالئ فيها الملائكةُ من سبقها بل تكشف لمن سيلحقها عن جديد تجترحه. وفي هذا دلالة على الاختلاف الذي ميزته في شعر علي محمود طه التصارع بين المتضادين العقل والقلب. والعقل بحسب نازك يحس لكن إحساسه يمكن أن يكون اعصارا من عواطف تجابه باتساع الفلسفة وامتداد الفكر. ولان الروحانية عقلية يمكنها إذن أن تلقي بالمبدع في أتون الرغبة الصوفية وقد أفنى قلبه في الهوى مرتفعا إلى مرتبة الخلود.
العراقالمصدر