“مهنة القراءة” لبرنار بيفو.. ذاكرة العصر الذهبي للبرامج الثقافية

451

في وقت يمر فيه الإعلام الثقافي المرئي بأزمة وتراجع شديدين في القنوات العالمية والعربية وكذلك تراجع حضور الكتاب فيه وما نتج عنه من تراجع نشاط القراءة خاصة عند الشعوب العربية، تصدر عن “منشورات تكوين” وضمن سلسة “الكتابة عن الكتابة” ترجمة “مهنة القراءة” لبرنار بيفو.

وبرنار بيفو واحد من أيقونات البرامج الثقافية الفرنسية، فهو كاتب وإعلامي فرنسي عصامي من مواليد 5 مايو/أيار 1935 بمدينة ليون، وقدم عددا من البرامج التلفزيونية التي تعنى بالكتاب أطبقت شهرتها الآفاق، وتحولت إلى برامج جماهيرية رغم استضافتها لفلاسفة ومفكرين وروائيين كبار.

وقد كان للبرنامج تأثير في جل المشاهد الثقافية العالمية الغربية منها والعربية، حيث اكتشف القراء عبره العديد من الكتاب، كما أثر برنار بيفو في العشرات من مقدمي البرامج الثقافية. وتحول في وقت ما إلى سلطة معرفية واكتسب نفوذا ومصداقية، فتقلد رئاسة العديد من لجان الجوائز الأدبية أهمها جائزة الغوكور.

كما فاز بجوائز كثيرة، منها جائزة النقد من الأكاديمية الفرنسية، وجائزة صامويل دي شامبلان، وجائزة ألفونس ألي، ولبيرنار بيفو أكثر من 20 كتابا، منها النقد الأدبي، كلمات حياتي، نعم ولكن ما السؤال؟، النجدة، إن الكلمات التهمتني، ومهنة القراءة الذي يروي فيه ذكرياته مع برامجه وخاصة “أبوستروف” و”حساء الثقافة”.

قصة الكتاب

يقول الناشر إن فكرة الكتاب جاءت نتيجة علاقة صداقة ثقافية وإنسانية جمعت بين الكاتب والإعلامي المرموق برنار بيفو والأكاديمي والمؤرخ بير نورا. انطلقت نواته من مراسلات بين الكاتبين عام 1990 وامتدت بين شهري يناير/كانون الثاني ومارس/آذار من العام التالي، ثم تواصلت بعد ذلك.

ترجمة كتاب برنار بيفو صدرت بالعربية عن “منشورات تكوين” وضمن سلسة “الكتابة عن الكتابة”

وتمحورت المراسلات حول تجربة بيفو الإعلامية والثقافية التي يسميها الكاتب نفسه بـ”مهنة القراءة”، لأنه اشتغل طوال 15 عاما في مجال الصحافة الثقافية الفرنسية؛ كناقد أدبي ومدير تحرير ومعد ومقدم لبرامج ثقافية مؤثرة، وأهم هذه البرامج “القراءة للجميع” و”فتح قوسين” و”أبوستروف” و”حساء الثقافة” و”وجها لوجه”.

ثم اشتغل بيفو على هذه المراسلات والحوارات شهورا لتتحول إلى كتاب تحول بدوره إلى مرجع أدبي وإعلامي يكشف أسرار الكتب والجوائز وسلوكات الكتاب والمؤسسات الإعلامية.

ويعتبر الناشر أن هذا الكتاب لا ينكر طابعه التعليمي للمقدمين على تقديم وإعداد البرامج الثقافية. ويكشف أسرار نجاح بعض الكتاب والناشرين وظاهرة الكتب الأكثر مبيعا، مما يرتقي بالكتاب إلى الدليل الثقافي الشامل لفعل الكتابة وصناعة الكتّاب والكتاب والتوزيع والدعاية.

في تقديمه للكتاب يشير المؤرخ بيير نورا إلى جدية برنار بيفو في إعداد وتقديم برنامجه فيقول “كنت أرٍاه يجذّف على متن قارب برنامجه كل مساء جمعة؛ استمتع أنا بتخيله في اليوم التالي وهو يعمل مثلما يفعل التلميذ في إنجاز واجباته المدرسية خلال عطلة نهاية الأسبوع.

ذكريات أبوستروف

يخصص برنار بيفو القسم الأكبر من كتابه لبرنامجه الأكثر شهرة “أبوستروف”، وجاء قسم منه في شكل حوار مع بيير نورا. يتحدّث في البداية عن برنامجه “وجه لوجه” ويعتبره الأقرب إلى قلبه لطابعه الحميمي، حيث كان يتنقل بنفسه إلى بيت الكاتب لإجراء الحوار.

ويشير بيفو إلى إخفاقاته أيضا عندما أجل إجراء مقابلة مع المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل لكن الموت لم يتأجل، يقول “أعتبر فشلي مع فرناند بروديل فشلا لا يغتفر، لم أكن في عجلة من أمري، كنت أقول لنفسي، لنجر المقابلة في العام المقبل، دعنا نعد المسألة بشكل جيد، وكان التاريخ أكثر سرعة مع بروديل مما هو معي، كنت في النهاية بمثابة المتفائل الكسول”.

هكذا يقدم بيفو مثالا على ضرورة القنص السريع وردة الفعل السريعة للصحفي الجيد، فلا شيء ينتظر في عالم الصحافة ولا شيء يؤجل. والصحفي الجيد هو الذي لا يثق في الغد وفي الزمن ولا يصغي لهاتف الكسل، كما أن التذرع بالتحضير الجيد للتأجيل قد ينتهي بتبخر اللقاء.

ولكن بيفو تعلم من ذلك ولم يفلت حواره مع “نابوكوف” الذي كان قبل سنة فقط من وفاته، وكانت الحلقة من أفضل حلقات البرنامج رغم شروط نابوكوف، التي من ضمنها أن يقرأ إجاباته من الورقة وأن يغير المقاعد.

يتذكر بيفو أنه استضاف المئات من الكتاب المهمين، لكنه فشل في استضافة كتاب يحبهم كسيوران ورينيه شار وغراك وجون بول سارتر الذي يقول عنه إنه كان من المستحيل استضافته خاصة بعد أن كتب نقدا لاذعا لرواية سيسمون دي بوفوار التي لم تنس ذلك قط ولم تسامحه مطلقا.

ومع ذلك نجح في استضافة ألبير كوهين الذي كان يرفض إجراء لقاءات تلفزيونية، ونجح في استضافة أشهر المنفيين السوفيات “سولجنتيس” صاحب رواية “السنديان والعجل” وكتاب “أرخبيل غولاغ”.

أسلوب بيرنار بيفو

عندما سأل بيير نورا الإعلامي برنار بيفو عما إذا كان له تقنية معينة يعتمدها في محاوراته وطرح الأسئلة، أجاب بيفو أنه لا يملك أي تقنية في المحاورة ولكنه يملك أسلوبا في الاستماع والتحدث والتحفيز، ويعتبر أنه يمارس مهنته بشكل طبيعي ولا يتحوّل أثناء المحاورة، فهو يتحدث خارج التصوير كما في داخله، ولا يختلف الأمر إلا في مسألة هاجس الوقت، فالتصوير يتم تحت ضغط الوقت ولذلك عليه أن يضبط إيقاع المحاورة.

يقول” كيف يمكننا أن نكون بخلاف ما نحن عليه بعمق؟ إلا إذا كنت ممثلا بارعا لتؤلف على شاشة التلفزيون شخصية خارجة عن سياقها الحقيقي، لتغدو شخصية بهلوانية حقيقية. لا أستطيع تخيل نفسي على المستوى الإعلامي في مكان الدكتور جيكل والسيد هايد”.

ويوضح بيفو أنه قدم لنفسه بعض القواعد الفطرية كطرح أسئلة قصيرة واعتبار أي إجابة حتى لو كانت مخيبة للآمال، وألا ننسى أبدا أن المشاهد يطرح السؤال ويسمع الجواب أيضا، لذلك عليه أن يستوعبك قبل أن يستوعب الضيف.

ومع الخبرة وتقدم البرنامج يعترف بيفو أنه يتحسن دائما، و”الذي لم يتغير هو مقدار العمل الكبير المتعلق بشكل أساسي بالقراءة”، وكيف يكون الصحفي “مترجم الفضول العام” أي يطرح الأسئلة التي يريد الجمهور أن يطرحها عليه، ولا ينشغل بطرح أسئلته الخاصة طوال الوقت.

أما الدرس المهم الذي يقدمه بيفو لمقدمي البرامج الثقافية الذين يستضيفون الكتاب فهو القراءة بالمناولة أو فريق إعداد الأسئلة، حيث يعتبر بيفو أن ذلك خداع للمشاهد ولا يمكنك محاورة كاتب لم تقرأ له، ويعتبر بيفو أن على الصحفي الثقافي ألا يتذمر من حلقة ضعيفة، وعليه تجاوز أثرها، كما الصحفي الرياضي الذي لا يظفر كل الوقت بمباريات ممتعة ومشوقة تجعله ينفعل حماسة. ويقول إنه تعلم كيف ينسى الكتب بسرعة أكبر من قراءتها.

أسرار في حياته المهنية

يروي بيفو في كتابه العديد من أسرار المهنة وخاصة ما تعلق بنفسيات الضيوف وسلوكاتهم، فطباع المبدعين مركبة جدا ومزاجاتهم متقلبة وعليه أن يؤمن الحلقة كل مرة، خاصة أن برنامجه كان يبث مباشرة.

فأحيانا يجد نفسه مع ضيف فظ أو عنيف أو شخص سطحي الخطاب، ولكن الأسوأ بالنسبة إليه هو استضافة كاتب يقدر تجربته وكتابه ولكن الضيف يغرق كما يقول و”لا يسمع أسئلتي ويجيب كما اتفق ويفشل في التقاط كل أطواق النجاة التي أرسلها له من أجل إنقاذه”. ويعتبر أن الكتاب هو الخاسر في هذا الفشل في التواصل بينهما.

وفي قسم “ذكريات أبوستروف” يروي بيفو قصصا كثيرة مثيرة عن ضيوفه من الكتاب، لكن أكثرها إثارة هي قصة الكاتب الأميركي المثير للجدل تشارلز بوكوفسكي الذي غادر اللقاء في المباشر يوم 22 سبتمبر/أيلول 1978 وأحدث فضيحة كبيرة، فبعد 723 حلقة من أبوستروف تحدث تلك الفضيحة حين كان بوكوفسكي يشرب ويعربد في المباشر حتى قال له الكاتب كافانا “اخرس يا بوكوفسكي”، فنهض بوكوفسكي من مكانه أثناء البث ولم يعجبه الحديث وغادر بعد أن تحرش بكاترين بايزان التي نهضت صارخة “هذا غير معقول” أمام قهقهات الجمهور.

يقول بيفو “بفعل حرارة الأضواء، أصبح النبيذ أكثر تأثيرا، فاشتد نحيبه وتجشؤه، وبدأ بوكوفسكي يتلوى في مقعده، فتذكرت أنه ذات يوم في الولايات المتحدة تقيأ عمدا على ميكروفون الراديو، ولا بد أنه سيفعل الشيء ذاته أمام كاميراتي، كنت مرعوبا، ومع ذلك واصلت طرح الأسئلة على الدكتور فيردير كافانا، وفي الآن نفسه كنت أراقب بوكوفسكي أيضا، كنت مستعدا للقفز كي أمنعه من وضع أصابعه في فمه. لكنه أشار إلى زوجته وناشره بأنه غير قادر على الاستمرار وأنه يريد المغادرة، فساعداه على النهوض والمشي”.

وإذا كان العالم كله قد شاهد ما حصل في الإستوديو مباشرا أو مسجلا وكان حديث الصحافة العالمية أياما، فإنه لم يسمع بالمضايقات التي تعرض لها برنار بيفو، فقد تعرض لنقد شديد من بعض الجهات الفرنسية التي نادت بالتخلي عنه وتوقيف البرنامج.

وقد انقضّت الصحافة عليه -كما يقول بيفو- فبالنسبة للبعض قالوا “ما كان يجدر بي أن أستضيف في برنامج مباشر سكيرا يدين لشهرته ليس لموهبته ككاتب، ولكن لقسوة حياته ولغته الفظة تجاه الآخرين”.

ووصفت ليبيراسيون ما حدث بالخطأ الذي لا يغتفر، لأن بيفو طرد كاتبا حقيقيا من برنامج أدبي، فهو لم يحاول ثنيه عن الانصراف بل قال له “تشاو”. ولكن بيفو يقول إنه بعد تلك الحادثة التي تسببت في شهرة عالمية للبرنامج كان يتساءل دائما لماذا لم تجعل الآخرين مجانين ومضحكين وغريبي الأطوار أيضا؟” والجواب بسيط، لأنه لا يوجد سوى بوكوفسكي واحد. مؤلف حكايات الجنون اليومي ومذكرات رجل عجوز مثير للاشمئزاز”.

وربما لا يعلم بيفو أن حلقة من حلقات أبوستروف أيضا كانت مؤثرة جدا في ترسيخ كاتب آخر مغاربي هو محمد شكري الذي ظهر في البرنامج بروايته السيرية “الخبز الحافي” في ترجمتها الفرنسية، وهي إلى الآن أكثر الحلقات مشاهدة في المغرب العربي.

“مهنة القراءة” لبرنار بيفو يعتبر كتاب مرجعي لأي مقدم ومعد برامج ثقافية أو غير ثقافية لأنه يقدم له كل وصفات الصحفي الناجح وكل المهالك التي تعرض لها وكيف تخلص منها.

وهو كتاب يطرح معرفة بطريقة سردية سيرية مشوقة، وعبر أساليب متنوعة من الحوار الصحفي إلى المقال إلى البورتريه.

ولعله كتاب يحتاجه كل مدير مؤسسة تلفزيونية ليعرف قيمة برامج الكتاب ومن يجب أن يقدمها وأثرها على المجتمع، وكيف أن تلك البرامج يمكن أن تصنع الفرجة وهي تقدم خدمة عمومية في تربية المجتمع على الثقافة الحق وبناء إنسان يفكر.

المصدر : الجزيرةOriginal Article