حميد الكفائي
مازالت إيران تشكل السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فهي التي ترعى الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة وتستضيف الإرهابيين المطلوبين دوليا، وتؤسس مليشيات مسلحة على أسس دينية وطائفية، وتقدم لها التبريرات الدينية والسياسية كي تمارس الإرهاب والقتل والخطف والسرقة، وتثير النعرات الطائفية والعرقية في العالم الإسلامي، وتعتدي على البعثات الدبلوماسية داخل أراضيها وخارجها.
وفوق كل هذا فإنها تتحدى القانون الدولي ودول العالم، المتقدمة منها والمتأخرة، وتأمر مليشياتها بمهاجمة البعثات الدبلوماسية الأجنبية في العراق بهدف تخريب علاقاته والإضرار بمصالحه كي يبقى سوقا لمنتجاتها من الكهرباء والغاز والمواد الغذائية والسلع والبضائع، وساحة لنشاطات مليشياتها، وتعلن دون خوف أو وجل بأن قائد فيلق (القدس) إسماعيل قاآني أمر (حلفاء) إيران في الشرق الأوسط بعدم مهاجمة الأهداف الأمريكية في المنطقة خلال الفترة المتبقية من حكم الرئيس دونالد ترامب، بهدف عدم استفزاز الإدارة الأمريكية باتخاذ إجراءات عسكرية رادعة! ولكن، ومع كل هذه النصائح والأوامر، التي قيل إن قاآني قد أفاض بها، فإن المليشيات المرتبطة بإيران في العراق لم تأخذ بأمره، ولم تستمع لنصيحته، أو هكذا يراد لنا أن نصدّق، بل ربما تمردت عليه، لأنها أكثر حماسا لتنفيذ الأجندات الإيرانية منه، لذلك قررت مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد بصواريخ كاتيوشا في اليوم الذي أعلن فيه البنتاغون تقليص عدد الجنود الأمريكيين في العراق بخمسمئة جندي ما يعني أنها لا تسعى فعليا لإخراج القوات الأمريكية من العراق، كما تدعي، بل تسعى لتوريط العراق في حرب مع دولة عظمى، وإعطاء انطباع للدول الاخرى بأن العراق ليس دولة مستقرة لذلك لا يمكن إقامة علاقات جيدة معه والاستثمار فيه. وقد تسببت هذه الصواريخ بقتل طفلة، وجرح خمسة مدنيين عراقيين.
أما الحكومة العراقية فقد بقيت تتفرج على هذه المهازل التي تجري على أرض العراق يوميا، وباستثناء إصدار البيانات، التي عادة ما تتضمن عبارة “إن هذا الفعل لن يمر دون عقاب”، لم تسعَ، على الأقل علنا، لملاحقة هذه الجماعات الإرهابية الإجرامية، التي قتلت العراقيين، والآن تتمادى في التجاوز على القانون، وتسعى جادة لتخريب علاقات العراق مع أعظم دولة في الكون. وقد عزز هذه التصرف من الانطباع السائد لدى البلدان الأخرى بأن العراق بلد غير مستقر، وأن حكومته ضعيفة وغير قادرة حتى على حماية البعثات الدبلوماسية في العاصمة.
لكن الدولة العراقية قادرة على ملاحقة هذه الجماعات وضربها بيد من حديد، فلا تنقصها القوى البشرية المدربة المنضوية في الجيش والشرطة وبقاي الأجهزة الأمنية، فهناك أكثر من مليون منتسب، ولا السلاح المتطور، ولا أجهزة الرصد والرقابة، ولا الدعم الشعبي لاتخاذ إجراءات رادعة، ولا التعاون الدولي في مجال الأمن، فكل ذلك متوفر لها، لكن غير المتوفر هو الإرادة والكفاءة الحكومية، وعدم استعداد المسؤولين لتقديم التضحيات في سبيل تحقيق الأمن وإرساء دعائم دولة القانون. يبدو أن البقاء في المنصب دون منغصات يشكِّل أهم دافع عند كبار المسؤولين العراقيين، وليس تلبية مطالب الشعب العراقي في إقامة دولة قوية تحمي سكانها ومصالحها وتعاقب المعتدين والسرّاق والفاسدين.
أما الولايات المتحدة، فما زالت تتخذ إجراءات طويلة الأمد، وهذه حال الدول الكبرى جميعا، فهي، على العكس من إيران المختنقة اقتصاديا وسياسيا، غير مستعجلة، لأن هناك شعورا سائدا لدى مسؤوليها بأنها قادرة دائما على حماية مصالحها وتحقيق أهدافِها ولا داعيَ للاستعجال. لكن هذه الاستراتيجية لا تبدو ناجعة في ردع الملالي في طهران وإيقاظهم كي يعوا أن أحلامهم غير قابلة للتحقيق، لأن هناك دولا أقوى من دولتهم وهناك قوانين وعلاقات وتوازنات وتحالفات ومصالح دولية تتعارض مع أحلام الولي الفقيه الطوباوية.
لكن صبر دول المنطقة وشعوبها مع إيران نفد، أو أوشك على النفاد، وقد ملَّ أهلها من العنجهية والتزمت والاستفزازات والتدخلات الإيرانية والنشاطات الإرهابية المتواصلة منذ عام 1979 حتى اليوم! الإدارات الأمريكية المتعاقبة فشلت في التعامل مع النظام الإيراني وردعه كي يتوقف عن نشاطاته التخريبية في المنطقة. صحيح أن الرئيس ترامب كان الأشد على إيران، لكنه هو الآخر لم يقم بما فيه الكفاية كي يردع النظام الإيراني عن التغلغل في العراق مثلا، وتأسيس عشرات المليشيات لتقويض أسس الدولة العراقية وجعلها كيانا هزيلا يثير الشفقة في نظر سكانه وشعوب المنطقة. هذا العراق الذي أوقف التمدد الإيراني سابقا، أصبح أداة في أيدي إيران ووكلائها، وأصبحت حكومته تتردد حتى في ملاحقة القتلة والخاطفين والسراق وجلبهم للعدالة، وقد حصل جلّ ذلك، وتفاقم، في عهد الرئيس ترامب. والمضحك المبكي أن الحكومة تعلن أنها توصلت إلى معرفة هوية قاتلي الخبير الأمني، الدكتور هشام الهاشمي، لكن “جهة ما” قامت بتهريبه إلى “خارج العراق”! ونحن نعلم أن هناك جهة واحدة تستقبل الإرهابيين والقتلة والسراق، ألا وهي إيران، التي تدعي الفضيلة وتتشدق بالدين واتّباع أهل البيت!
العراقيون يتوقون إلى الانفتاح على دول العالم وخصوصا الدول الغربية والعربية، وقد حاولت الحكومة الانفتاح على الجارة الجنوبية الغربية، المملكة العربية السعودية. وفعلا رحبت المملكة في هذا التقارب، فهذا هو الوضع الطبيعي للعلاقة مع العراق، الذي تشترك معه بحدود طويلة وعلاقات عضوية تمتد آلاف السنين. القبائل العربية على جانبي الحدود لم تنقطع علاقاتها على مر السنين، إذ استمر العراقيون والسعوديون في تواصلهم بأخوتهم على جانبي الحدود، فهذه العلاقات أقوى من أن تتعرض للاهتزاز. وفي هذا الإطار، أرسلت المملكة وفدا للنظر في سبل التعاون والاستثمار في العراق فيما يخدم مصالح البلدين.
إلا أن هذه التعاون أثار إيران وأصابها بالهلع ما جعلها توظِف كل إمكانياتها لإيقافه. فقد جندت بعض رجال العشائر فعقدوا اجتماعات لمناقشة “أخطار” الاستثمار السعودي في العراق بينما خرج أحد أبواق إيران، الذي سلم ثلث العراق إلى داعش، ليبرر “أضرار” الاستثمار السعودي في العراق! وهذا الرجل كان يجب أن يحاسب على تسببه بأضرار بشرية ومادية بحق العراقيين، سواء الذين عاشوا في المناطق التي غزتها داعش، ووقعوا ضحايا مباشرين لجرائمها، أو الذين هبّوا للدفاع عن العراق وقدموا التضحيات الجسام في سبيل إلحاق الهزيمة بداعش وإخراجها من العراق.
كل هذه الحملة المحمومة تهدف إلى إيقاف التفاعل العراقي مع البلدان العربية، خصوصا المؤثرة منها في الساحة العربية والدولية، والقادرة على مساعدة العراق، مثل المملكة العربية السعودية، كي يبقى العراق مرتبطا بإيران وأسيرا لخططها الرامية إلى تهميشه وإضعافه وجعله يدور في فلكها. لكن كل هذه الحملات لن تثني العراقيين التائقين إلى الاستقلال والعودة إلى المحيط العربي، فهذه هي بيئتهم الطبيعية، وهؤلاء هم قومهم وأهلهم، وليس الإيرانيين الذين لم يرَ العراقيون منهم سوى التخريب والحروب والمليشيات المسلحة التي تقتل وتخطف وتسرق وتفتري على الأبرياء وتستهتر بكل الأعراف والقوانين والقيم والمقدسات.
الاستثمار يجب أن يُبنى على أسس اقتصادية متينة، وليست عاطفية، كي يكون نافعا ومستداما، لذلك فإن الحملات التضليلية التي يشنها وكلاء إيران في العراق، لن تجدي نفعا، خصوصا في عصر الضيق الاقتصادي الذي يتطلع فيه الناس إلى بصيص أمل ينبئ بتحسين أوضاعهم المعيشية. إن كان مشروع الاستثمار السعودي في الصحراء العراقية مجديا، من الناحية الاقتصادية، ولابد أن يكون كذلك، فالشركات لا تتورط في مشاريع خاسرة، فإن العراقيين أنفسهم سيطالبون به، لأنه يوفر لهم فرص عمل في وقت تواجه فيه الدولة العراقية صعوبات جمة في إيجاد الأموال لدفع رواتب موظفيها. الاستثمار السعودي والخليجي في العراق مطلوب لأسباب كثيرة تأتي في مقدمتها المنافع الاقتصادية للعراق، لأن مثل هذا الاستثمار يربط العراق بدول ناجحة اقتصاديا ومستقرة سياسيا واجتماعيا، ومتطورة عمرانيا وتكنولوجيا، كما يوفر دعما عربيا للاقتصاد العراقي المترنح بسبب الفساد والتبعية لإيران، ويوفر أسواقا ذات قوة شرائية عالية للمنتجات العراقية، أما بالنسبة للدول الخليجية فإنه يعيد العراق إلى البيئة العربية كي يكون سندا لها، ويدرأ خطر إيران الداهم عنها، ويمكِّنها من الاستفادة من الخبرات والأيدي العاملة الماهرة العراقية، بالإضافة إلى المنافع المعنوية والسياسية المتعلقة بالتضامن العربي.
قد يكون الاستثمار السعودي في صحاري السماوة والنجف والأنبار بداية للحضور العربي القوي في العراق، وهذا هو المطلوب عاجلا، لكن التعاون يجب أن يتوسع ليشمل مشاريع أخرى نافعة للطرفين، فهذا المشروع يحتاج إلى جهود واستثمارات كبيرة كي يتطور إلى مشروع كبير ونافع على مستوى البلدين. أما معارضة أتباع إيران، الذين تحولوا إلى ظاهرة صوتية نشاز في البلد، فلم تعد لها أي أهمية، خصوصا بعد أن عرفهم العراقيون على حقيقتهم، وأدركوا بأنهم يخدمون دولة معادية للعراق، سواءٌ بقصد أو دون قصد. أما جدوى المشروع الاقتصادية، فإنها حسب خبراء، غير مؤكدة، إذ لا توجد مصادر مياه جوفية كافية لإدامة المشروع لخمسين عاما مقبلا، كما يرغب السعوديون، ولكن هذه المسألة تحتاج إلى دراسة جدوى معمقة يقوم بها متخصصون، فربما تكون هناك مياه جوفية غزيرة في بعض المناطق، ويمكن المشروع أن يبدأ فيها.
الوجود العربي في العراق مهم جدا لأسباب كثيرة، فإيران وأتباعها يريدون الاستحواذ على العراق، وهذه أُمنية لم تتحقق لإيران منذ عهد كسرى نوشروان، لكن الأمريكيين حققوها لهم عبر إسقاط الدولة العراقية وتركِها لجماعات تربَّت على الخرافات وتجردت من الوطنية وعاشت معزولة عن مجتمعها العربي، فأصبحت تابعة لإيران وخائفة من دول العالم الأخرى، بسبب شعورها الذي رسَّخه عندها الإيرانيون، بأنها غير قادرة على العيش دون حماية إيرانية. فإن كان الأمريكيون والأوروبيون قد أخلّوا بالتزاماتهم تجاه شعب العراق، أو أخطأوا في تقييم الأوضاع فيه، وأغفلوا الخطر الإيراني، فإن على العرب ألا يرتكبوا هذا الخطأ، أولا، لأن العراق يهمهم جميعا، فهو مهد الحضارة العالمية، إذ قامت فيه أولى الحضارات وتطورت فيه معظم العلوم الإنسانية، وقامت على أرضه أعظم الحضارات العربية، وتطورت فيه المدارس الفكرية واللغوية والأدبية والدينية، فأصبح مهما جدا للثقافة العربية، لذلك فإن تركه لعبث الإيرانيين سيحدث خللا كبيرا في العالم العربي على الأمد البعيد.