لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! ح3 * د. رضا العطار
لقد حقق مكسيم غوركي انجازات رائعة في مجالات العلم والادب التي جعلت الشعب الروسي ينظر اليه معتبرا اياه الحامي للثقافة الانسانية الوطنية. فمؤلفات مكسيم تدور حول حياة الفقراء الذين عرفهم في حياته وهو ينزع فيها جميعا الى الاكبار من الشجاعة والجرأة والمجازفة . وكثيرا ما كان يدفعه هذا الاتجاه الى جرح عواطف المتدينين وخاصة المتمسكين منهم بقشور الدين.
من اين جاءته هذه القدرة الخارقة على الكتابة ؟
ان هذه الاختبارات العديدة التي مرت به علمته, فعرف منها واقع الناس في معاشهم. ولكن من اين جاءت احلامه ؟ وكيف نبغ في الكتابة ؟ وما الذي بعثه على الدرس وشوّقه الى الثقافة ؟ كيف تمكن ملتقط الخرق في الطرقات ان يدرس افلاطون ويناقش ادباء اوربا ويتفهم الادب الروسي ويتعمق فيه, ثم يبني من دراساته هذه الامال والاحلام التي غيرت الواقع المؤلم للمجتمع الروسي.
انه وصل الى ذلك بأتصاله بالمثقفين و بالمنظمات الثورية في كل ارجاء البلاد . فألروس الوطنيين الذين شرعوا منذ السنين الاخيرة في القرن التاسع عشر يفكرون في تغيير الواقع الفاسد لمجتمعهم, بدأوا يؤلفون الكتب ويؤسسون الجمعيات, الكتب للتنوير والجمعيات للعمل. وقد قرأ غوركي جميع هذه المنشورات, السرية منها والعلنية, درس وتعب وكافح امّيته التي نشأ عليها. وهو يحدثنا في مجلداته الثلاثة عن الجامعات التي تعلم فيها والتي اخرجته استاذا فذّا في الادب والسياسة الروسية.
وعندما نقرأ مجلداته لم نجد فيها اسما لاحدى الجامعات, فقد اعتبر مكسيم المجلدات التي الفها هي جامعته. كيف يمكن لبائع التفاح المتجول ان يدخل احدى الجامعات ؟ كانت ثقافته هي المنهل للثورة التي طالبته ببرامج عمل. لقد اتصل بالمنظمات السرية وعرف عن طريقها كيفية العمل لأجراء التغيير . اي تغيير وسائل العيش في المجتمع ونقلها من المبدأ الانفرادي الى المبدأ الاشتراكي . مع تغيير حكومة القيصر الاستبدادية الى حكومة ديموقراطية اشتراكية . هذا هو برنامج العمل.
ولكن هذا المنهج بعث فيه الرغبة بل الشوق الى دراسة اكثر واعمق. فدرس الاقتصاد والادب والعلم والتاريخ والدين والفلسفة. جامعاته هي كتبه, واعظم ما اثر فيه هو العلم, العلم هو الذي جعله يحلم ويبني ويتأمل فيجعل قصصه لذلك واقعية خيالية .
كان غوركي يشمئز احيانا من حياة العمال من قذاراتهم وسكرهم وجهلهم وضربهم لزوجاتهم واستسلامهم الى العقائد البالية والخرافات السخيفة التي كان المشعوذون يبثونها بينهم . ولكنه مع ذلك كان يرى بوادر المستقبل المشرق امامه, ويشعر بالتفائل في برنامج تغيير وضع الدنيا الى الاحسن.
تمتاز ثقافة غوركي بانها لا تنفصل عن ثقافة الشعب بعيدا عن السوق والمصنع . اذ كان هو خبازا, يحمل ويخبي في صدره رسائل صغيرة, هي عبارة عن دراسات مقتضبة حول الاجور و علاقتها برأس المال وكيفية زيادة الانتاج حتى يتحرر الفقير من فقره. ثم هذه الثقافة ايضا تمتاز بانها لم تحمله على اضاعة وقته في دراسات ومناقشات موروثة واهية عن القرون الوسطى او في التعليقات والتفسيرات لاشعار شكسبير او درامات الاغريق القدماء .
كان غوركي يقرأ ويدرس وفق حاجاته الذهنية وكان يستوعب الفكر الجديد ويطبقه ولا ينسى ما قرأ. كان احساسه بجاهلية شبابه يجعله يحس الظمأ للمعرفة. ولكن تقلبه في الحِرف الوضيعة جعله يحس احساس الشعب. وكانت لقمة العيش الجافة التي كان يحصل عليها بعرق الجبين تحمله على التفكير في غيره ممن يأكلون مثل هذه اللقمة وهم لا يستسيغونها.
وحين يكون الشعب هو الاساس او الهدف للادب, يزدهر هذا الادب وتزخر الثقافة . وذلك لان احوال الشعب في البؤس والشقاء لا تنتهي. ولذلك نحن نجد في ابطال القصص التي الفها غوركي شخصيات تتعدد وتتنوع . نجد الراهب في صومعته, والصبي المدلل والشاب الثائر والصحفي المكافح والثري المستبد والرجل الناهض.
ومكسيم يحب هؤلاء الاشخاص : الرجل الناهض الذي افاق من نومه وشرع يستطلع الدنيا, يدرس ويكبر. اي الانسان الذي ينفض عن نفسه غبار الكسل ويرتفع من الوهدة التي خلفها له المجتمع ثم حبه للخير والاستقلال والاستطلاع وكذلك كان يحب المتشرد فأنه يؤثره على الثري الناعم الذي لا يكاد يعرف من متع الدنيا غير الراحة و الكسل و شهوة الطعام والشراب. كما يؤثره على التاجر الجشع الذي هدفه الوحيد جمع المال حتى لو كان ذلك على حساب قوت الجماهير المنكودة .
وهنا يقارن بين حياة شريحة صغيرة من المترفين المتخومين وبقية شرائح المجتمع العاطلين الذين يحملون في صدورهم عواطف فجّة بدائية للثورة . فيهيمون على وجوههم كما كان هو عندما استقر فترة من حياته على صيد الطيور . وهو في هذه المقارنة يكاد يقول لنا ان في هذه الدنيا ما هو اهم من جمع المال . ان في حياتنا حقولا وطيورا وزهورا وانغاما بل اكثر من ذلك هناك لذة الاستيقاظ في الصباح لرؤية الشمس و متعة الحب الخارج على القواعد والائتناس بالحديث الى الناس بمختلف الاعمار والثقافات .
الرجل الذي يكون هدفه الوحيد هو جمع المال واقتناء العقارات هو الثمرة المرة للمباريات الاقتصادية في المجتمع الذي يحيا على المبادئ الانفرادية وليس على المبادي التعاونية ومثل هذا الانسان لا يرتفع الا بسقوط العشرات من نظراءه ولا تزداد ثروته الا على حساب آلام المئات من الفقراء و الضعفاء . ان الجاهل الذي يرضى عن جهله والذليل الذي يرضى بذله هو كالحيوان الذي يمارس لذائذ غرائزه ولا يعرف ماهو اسمى منها.
الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب محاولات للموسوعي سلامة موسى.