قصة قصيرة {الهاجز}

679

فضيلة مرتضى
كان صباح مظلم بغيمة سوداء فوق رأس القرية تنذر بمطر شديد وفاطمة لازالت في الفراش الدافئ تخفي رأسها تحت البطانية الصوفية لتؤخر ولو قليلآ نفسها للأنضمام الى وجبة الفطور مع الأسرة الصغيرة وعددهم ثلاثة أشخاص الأم والأب وهي ثالثهم. نادت الأم بصوت حنون _ ياالله قومي ياأبنتي الساعة قاربت السابعة صباحآ ,عليك أن تسرعي لكي تذهبي الى المدرسة. أشتمت رائحة الخبز الحار والقهوة سحبت نفسها من الفراش بتكاسل وهم قاتم جاثم على صدرها لملمت شعرها الأسود الكثيف على شكل كرة خلف رأسها وأدخلت دبوس التثبيت بين خصلاته لتمنع سقوطه على الظهر . جاءت الى المطبخ المطل على المزرعة العمومية ولم تكن كعادتها كل يوم ..لاحظت الأم أن أبنتها اليوم ليست هي التي تعرفها ,هي مرحة مليئة بالنشاط والحيوية ولديها روح الدعابة والضحك تعرفها منذ طفولتها والآن أبنة الرابعة عشر لم يمر عليها يوم كئيب همست الأم في أذن أبنتها دون أن ينتبه الأب لما يدور بينهما من الحوار.
_مابك عزيزتي
_لاشئ ياأمي
_ إذا لاشئ ولماذاكل هذه القتامة على وجهك
_قلت لاشئ ياأمي
وهي تطرق برأسها وعلى وجهها علامات الحزن والقلق.أنضمت الى مائدة الفطور وبين فترة وأخرى تحملق في الفراغ كأنها تريد أن تصرح بشئ ولكنها تتراجع .
عرفت الأم بفطرتها أن شيئآ ماحدث وأن فاطمة خائفة ومرتبكة . أكمل الأب فطوره وشأنه شأن رجال القرية خرج متوجهآ الى مكان عمله تاركآ الأم والأبنة ولكنه توقف قليلآ أمام باب المنزل المتواضع وألتفت تجاه زوجته وقال:
_لاتزعجي البنت بالأسئلة الكثيرة دعيها تذهب الى المدرسة ولاتنسي أن تعطيها المصروف اليومي
_نعم سأفعل أبو فاطمة وأنت في أمان الله.
بكل نشاط تحركت المرأة نحو فاطمة تعيد عليها نفس السؤال بلهجة حادة لم تعهدها البنت قبلآهذه المرة نبرة السؤال كان ممزوج بالخوف وخارج من بين طيات العرف والتقاليد ومن تحت العبائات السود.
_أنطقي يابنت
أنتصبت قامة فاطمة ورفعت رأسها ورمت نظرة صلابة مع شيء من الحزن.
_لاشيء ممايدور في رأسك ياأماه حين أعود من المدرسة سأخبرك حتمآ بكل شيء.خرجت مسرعة وهي بملابس بسيطة شأنها شأن أقرانها في القرية حيث معظمهم من طبقة بسيطة.
قامت الأم بترتيب الفراش وتنظيف البيت وأعداد الطعام ولكن تتطلع الى السماء السوداء بين لحظة ولحظة وتهمس مخاطبة الرب :
_يارب أجعل يومنا بردآ وسلامآ وأحمي فاطمة من كل شر وكل خطر.
جلست وهي تضم ركبتيها الى صدرها وتلف ذراعيها حولهما وجسدها المنهك في ركن قريب من الباب فوق سجادة مهترئة ولكنها نظيفة تكاد ألوانها تختفي من كثرة الدعك بفرشاة التنظيف.كانت أم فاطمة أمرأة قوية البنية ونظيفة جدآ الى درجة الهوس .وقد أنجبت خمسة أبناء قبل ولادة فاطمة ولم يبقى لها سوى فاطمة كانوا الأبناء يفارقون الحياة منذ أول يوم من الوضع ولذلك كانت حريصة على حياة فاطمة وعلى سلامتها. ظلت مشدودة الأعصاب وشريط من الذكريات يعود بها الى سيرة حياة فاطمة فلا تجد فيها أي شيء يقلقها بهذا الشكل ولماذا هي اليوم قلقة؟فجأة زخت السماء أمطارآ غزيرة وبدأت تدخل الى البيت من خلال النوافذ المفتوحة , تحرك الجسد النحيل نحو النوافد لتغلقها وخرجت بسرعة نحو الباب الخلفي والى الفسحة الخلفية للمنزل لتسحب البساط المنشور على الحبل ,وبسرعة أنجزت كل المهام وعادت تجلس هذه المرة بجانب النافذة المطلة على الطريق العام وهي تقاوم ثقل الأنتظار
_ياألهي متى تصل فاطمة لقد انهكني الأنتظار.
وتارة تخاطب الرب
_ يارب العواقب سليمة.
مرت بذاكرتها يوم بلغت وأدركها الحيض وكيف كان يوم عصيب لفاطمة وخوف ورعب للأم حينها أدركت بأن أبنتها كبرت وكادت يغمى عليها ولكن بعدها هدأت وأصبحتا صديقتان يتقاسمان بحلاوة العلاقة الجديدة بين الأم والأبنة بإطار جديد أكثر نضجآ. عادت من جديد تترقب الطريق مرة وتستمع الى الأصوات المنبعثة من الشارع لعل فاطمة قادمة . الفقر يصيب النساء بالهلع لأنهن الأضعف والحاجة يدفعهن أحيانآ الى دفع الثمن غاليآ لأجل حياة أفضل والنتيجة كارثة تقع على رأس ضحية العازة والفقر . فكرت بأبنتها ركبها الخوف لآنها تعيش تحت عبء الحاجة .المدرسة والتعليم بحاجة الى المصاريف من ملابس وكتب وأكل . همست في أذن نفسها وقالت
_ أبنتي متسلحة بالأيمان والقناعة والرضى وبعيدة كل البعد عن مغريات الحياة.
كانت تعيش أحلام خضراء خلال أبنتها فاطمة يلوح لها الأفق بمستقبل باهر بعد تخرجها من الجامعة وتحسب السنين المتبقية لتحقيق أحلام العائلة وتغير مسارها .
أخيرآ سمعت طرقات متتالية على الباب الخارجي أخرجتها من عالم الخيال الى الواقع أسرعت نحو الباب وكادت أن تسقط فتمسكت بأكرة الباب التي أكلها الصدآ بمرور الزمن. وما أن فتحت الباب عيناها سقطت على وجه فاطمة الجميل أنهمرت سيول الدموع من عينيها فرحآ ,كانت فاطمةبجسدها الرشيق المتناسق ترتعش فرحآ وقد عادت كعادتها مرحة وشقية وفوق شفتيها زغاريد الفرح ومشاعرها عارية تمامآ لفت جسد أمها بذراعيها وهي تصيح .
_أمي لقد وجدته كان في أحدى زوايا قاعة الدراسة عثر عليه حارس المدرسة.
_وجدتي ماذا ياروحي؟
_وجدت خاتم زواجك الخاتم الوحيد الذي تملكينه ياأمي.
قدمت الخاتم الذهبي المرصع بياقوت أحمر الى الأم وفي عينيها بريق قرمزي كلون الياقوت.
_خاتم زواجي؟؟؟؟؟!!!!
_نعم ياأمي لقد أستلفته من خزانتك دون علمك ولبسته لكي أظهر أمام زميلاتي بأني أملك خاتم ذهبي ولكني فقدته أثناء نشاطات الصف وبقيت أبحث عنه أنا وزميلاتي في المدرسة وبنات خالاتي ولكن لم نعثر عليه ولكن اليوم أعاده الي حارس المدرسة بعد أن عثر عليه يوم أمس بعد الدوام الرسمي .أحسست ياأمي كأن نوافذ الدنيا أنفتحت ودخل النور الى أعماق نفسي سامحيني ياأمي سوف لن يتكرر هذا الشئ ماحييت هو كان أختبار من الخالق لم أكن أمينة معك عندما لبست خاتمك دون إستئذان ولم يكن خاتم عادي وإنما يحمل أسمك وتاريخ زواجك وأجمل الذكريات أمطرت عيناها الجميلتان مطرآ ساخنآ وقالت كان يوم أمس واليوم يومان عصيبان ولكن النهاية درس لن أنساه أبدآ. أخذتها الآم في حضن صدرها بقوة ولفت عليها أذرع الرحمة والحب وقالت:
_لاشيء أثمن منك ياأبنة بطني وياأجمل حدث في حياتي لقد زرعت نبة صالحة وسقيتها بدمي وجنيت ثمرة صالحة نقية .
العالم تافه لكن من يزرع الخير يحصد الخير وبدون شك يصبح العالم جميل
29/08/2020

المصدر