الروائي ( علي بدر ) يتميز بمحاولات التجريبية في أسلوبية السرد والمتن الروائي , في توظيف اساليب سردية متنوعة ومتعددة , يسوقها حسب مناخ النص الروائي . ونجد في هذه الرواية ( الوليمة العارية ) وثقت بالتخيل التاريخي لفترة عصيبة من تاريخ العراق , هي عشية احداث الحرب العالمية الاولى عام 1914 وسقوط الدولة العثمانية وانتصار المحتل الانكليزي ودخوله الى بغداد . يتناول النص الروائي في اسلوب الساخر والانتقادي الى حد السخرية والتهكم في اتجاه الكوميدية التراجيدية . يتناول احداث عشية السقوط من زوايا وجوانب متعددة في جوهر المجتمع وتأثيراته المؤثرة . لذا فان الرؤية المتن الروائي يدخل في خانة السيسولوجية . بتناول الكولونية المستبدة في البطش في نهج عقلية المحتل العثماني . وتناول النخبة الاجتماعية والثقافية البارزة على الساحة في تلك الفترة المنصرمة . وهي تمثل : رجال الحكم , رجال السياسة . الجندرمة , الفئة الدينية ورجال الدين المعممين . الفئات الثقافية والفكرية بتنوع ثقافاتها , ومنهم من برزوا في الادب والفكر ومنهم . الشاعر جميل صدقي الزهاوي والشاعر معروف الرصافي وغيرهم من الذين برزوا في تلك المرحلة , والروائي استخدم الشخصيات الفعلية بأسمائها الحقيقية , والاسماء الوهمية من صنع الخيال الروائي . وكذلك فئات الافندية . وتدور احدث المتن الروائي بين بغداد ومعالمها واسطنبول ومعالمها المشهورة والمعروفة . وكذلك تطرقت الرواية الى شرائح آخرى من المجتمع مثل . اللصوص وقطاع الطرق والشحاذين والمتسولين. حتى عرجت بشكل موسع الى العاهرات ودور البغاء والراقصات وملاهي بغداد . ولكن ركز بشكل خاص على الصراعات والمشاحنات والمناوشات الساخنة , بين رجال الدين المعممين وفئات الافندية ومثقفيها . الفئة الاولى تعتمد على التيار الديني الداعي لنصرة الامبراطورية العثمانية والدفاع عنها , بحجة المحافظة على الاسلام والامة الاسلامية , بذريعة المسلم المحتل أفضل من المحتل الكافر والزنديق . وفريق الافندية بالضد من هذه التوجهات الدينية . لذا فان هذين الفريقين يشكلان نخبة المجتمع في صراعهما المحتدم , ومنهم انصار العلم والعمران واوربا . الجناح الاصلاحي . الذي يمثل تياره شخصية ( منيب أفندي ) , وهو عكس جناح الديني المحافظ . الذي يدعو الى نصرة السلطان العثماني والدعوة الى الجهاد الاسلامي ضد الكفرة والزاندقة اتباع الانكليز والافرنج . وتتصاعد دعوات التيار الديني في خطابه المناصر للعثمانيين , الذي يمثله شخصية ( الشيخ أمين ) بالدعوة الى الجهاد والتطوع والتجنيد لحروب العثمانيين خارج الحدود الى القوقاز . بحجة توسيع رقعة الاسلام والمسلمين ( الجهاد ….. الجهاد يا مسلمين . الجهاد ) ص144 . , وبحجة بأن الامة الاسلامية تمتحن هذه الايام , وخاصة بعدما زحف الانكليز على بغداد . وتتعالى هذه الدعوات في المراكز والتجمعات الدينية وفي الجوامع . ولكن رغم صخب وضجيج هذه الدعوات الجهادية , فأنها لم تحظى بصدى وقبول ورضاء من عامة الناس , لذلك يساقون الى الحرب بقوة العنف والعسف والتهديد بالقتل والاعدام لكل من يتخلف عن التجنيد الاجباري . في حين بغداد تعاني الاوبئة والامراض والفيضانات , والجوع والفقر . والحياة الشحيحة , حتى اصبح الفقراء يفتشون في المزابل من اجل العيش . وحارس القشلة المأمور العراقي ( محمود بك ) الضابط في الجندرمة , يملك صلاحيات واسعة في الحكم , واستخدامها في البطش والتنكيل والاذلال بالناس , وسوق المجندين تحت طائلة التهيديد بالقتل والاعدام , وكانت مهمته مطاردة وملاحقة الفارين , والتفتيش المنازل والطرقات عن الشباب لزجهم في التجنيد . وكان يظهر بمظهر الخادم المطيع من اجل ان يحظى بقبول من الباشا والسلطان العثماني . ويحاول عبثاً في وقف زحف الانكليز على بغداد . بدفع اكبر عدد من المجندين , لكن اكثرهم يحاول الهروب رغم وطئة الاعدامات لفارين , لقد اوغل في التنكيل والبطش , ولكن عندما دخل الانكليز الى بغداد , اصبح عارياً , وهو يرى بأن انهيار السلطة العثمانية اصبح حقيقة فعلية لا يمكن وقفها . وعشية دخول الانكليز الى بغداد , اجتاحتها فوضى عارمة في الحرائق والخراب , في النهب والسلب المحلات والمتاجر والمخازن . حتى البيوت لم تسلم من اللصوصية والسرقات , واشتعلت الحرائق في كل مكان , وهرب الباشا العثماني من بغداد, واسدل الستار على الاحتلال العثماني . ولكن ظل السؤال يدور في اذهان الناس في العهد الجديد . ماذا سيكون حكم الاحتلال البريطاني , هل يكون شبيهاً او نسخة من السلف الساقط ( وهل سيفعل الانكليز مثلما فعل العثمانيون ؟ ) ص 232 , وكذلك رجال الجندرمة استغلت الفوضى العارمة التي عصفت ببغداد . واصبحت هي تمارس النهب والسرقة على نطاق واسع , لتعويض على عدم دفع مرتباتهم الشهرية . وفي حالة تدل على عدم اللامبالية الناس بالمحتل الجديد , في جولة تفقدية قام بها الحاكم العسكري البريطاني في موكب عسكري كبير في شوارع بغداد . وصادف شاهد احد المواطنين يتغوط على حافة الشارع , فنهالوا عليه بالعصي , لكنه واجههم ببرود الاعصاب فقال بكل هدوء ( مستر ….. هي خريه . . أنت شبيك صاير عصبي ) ص283 .
× احداث المتن الروائي :
يهتم السرد الروائي في ابراز صورة الصراع الدائر بين التيار الديني والتيار العلماني أو بما يطلق عليه افندية اوربا . ما تشد العلاقة بينهما في المشاحنات والرفض والحقد وخاصة من التيار الديني المعمم , الذي يكشف عقليته المتعصبة والمتزمة الى حد الدعوة الى استخدام القتل والحرق وخاصة تجاه الشاعر الزهاوي الذي يبشر بافكار دارون والسوبرمانية واوربا العلم والتطور والعمران , ومناصرة المرأة وتحريرها من القيود والظلم ( منيب أفندي …….. امضيت الليل كله وانا أقرأ كتاب الزهاوي , الذي اعطيتني أياه بالامس . وانا اتسائل لماذا لا نحرق الزهاوي مع كتبه ؟ ) ص10 . ولاشك بأن الزهاوي حرك المياه الراكدة بالهيجان , بما يسوقه الى النظرية الدارونية , بأن أصل الانسان قرد , مما هاجت عليه عامة الناس بالويل والثبور والتهديد بقتله , بدافع من رجال الدين المعممين . وتحشيد الناس للهجوم عليه وهو داخل بيته ( يا ناس أنا عبدالعليم أبو شجه . أنا شقي باب الشيخ وقنبر علي والحيدرخانه … هذا اللي شتمني وقال جدي قرد …. راح اسويه إلكم اليوم قرد ابن قرد .. )
ودق الباب هذا المتطوع بقتل الزهاوي . وانتظر دقائق لم يفتح الباب فصرخ بالغضب ( لك جميل …. اسمعني زين . ترا … راح اكسر الباب ) وانفتح الباب بهدوء وخرج جميل أفندي وهو يرتعش , كل ناحية من جسمه تهتز مثل سعفة .. وصاح به ( لك …. آني جدي قرد ؟ )
( لا والله العظيم , انت جدك رسول الله ….. بس آني جدي قرد ابن قرد ) ص64 .
فانفجرت العامة بالضحك . لقد اخذت الجماهير تضحك وتقهقه باعلى صوتها . . حتى كانوا يضايقونه بالشتائم والسباب والاستهزاء والتهكم بالسخرية في اي مكان كان موجوداً ( بالله فد سؤال ……. انت قرد من جانب الاب , لو من جهة الام ؟ ) ص213 .
هذا ما يثير حفيظة رجال الدين المعممين , وفي مسألة المرأة يدعون بأنه يدعو علانية المرأة المسلمة الى الدعارة والعهر , بينما رجال الدين يدعون بصيانة شرف المرأة المسلمة بالحجاب وعدم الاختلاط , بينما يدعون بأن المرأة غير المسلمة حلال اغتصابها كما يدعي ( الشيخ أمين ) وكما يصرح برأيه بارتياح ( المسيحيات مشركات , حلال على المسلمين . جعلهن الله لي بقرة ) ص30 .
× محمود بك : الضابط في الجندرمة العثمانية الحاكم المستبد وحارس قشلة بغداد المأمور المطيع باخلاص الى الباشا والسلطان العثماني . اليد الحديدية الضاربة بالبطش والتنكيل في خدمة السلطة العثمانية . كان يستخدم الارهاب والقتل والاعدام لكل من يتخلف عن التجنيد الاجباري وارساله خارج الحدود في الحروب العثمانية , كان لا يتوانى عن مطاردة وملاحقة الفارين من التجنيد الاجباري , يداهم البيوت والمنازل بحثاً عن الشباب , ليتم ارسالهم الى الحروب العثمانية . اصبح جلاداً في بغداد على رقاب الناس , وفرض الضريبة والفدية على التجار , لدعم المجهود الحربي . ولكن عندما دخل الانكليز الى بغداد وقع في الفخ , وفشل في الهروب مثلما هرب الباشا وقادة العسكر العثمانيين , انكشف سره رغم ملابس التنكر التي تخفي هويته . وقع في الاسر ونزع من ملابسه حتى اصبح عارياً تماماً . وهو يسير الى حبل المشنقة وتجمعت حشود الناس الهائلة , لترى مصير جلادها وهو عارياً وسط صيحات الفرح والابتهاج , وسط دقات الطبول كأنها تعيش اعراساً عظيمة , ان ترى الجلاد الباطش وهو يصعد الى المشنقة عارياً , وتلاحقه صيحات الشماتة والسخرية من العار الذي وصل اليه. ونظر محمود بك بالحشود حوله , والتي ترميه بنظرات الانتقام والحقد , بجانب صيحات الفرح والرقص لاعدام جلاد بغداد , فصرخ بأعلى صوته كلاماً وهو يشير الى الزهاوي , الذي حضر مع جموع الناس المحتشدة ليشاهد عملية الاعدام , صاح بالزهاوي :
( جميل أفندي . لقد قرأت كتبك كلها ولم افهم الفكرة القردية . إلا اليوم ….. الفكرة القردية أن تصير في زمن العثمانيين عثماني , وفي زمن الانكليز أنكليزي ) ص266 .
والتف الحبل حول عنقه وسقط على الارض , وبأعدامه اسدل الستار على انهيار الدولة العثمانية , ودخول العراق في احتلال جديد .
وكما اسدل الستار على رواية ( الوليمة العارية ) في مغزاها البليغ والعميق . بأن العراق اصبح وليمة عارية للمحتلين على مختلف مسمياتهم . أصبحت بغداد وليمة عارية . كما اصبح الضابط الجلاد وليمة عارية نحو حبل المشنقة . ولكن ما أشبه اليوم بالبارحة . بأن العراق أصبح وليمة عارية .
× الكتاب : رواية ( الوليمة العارية )
× المؤلف : علي بدر
× الطبعة : عام 2005
× عدد الصفحات : 287 صفحة
جمعة عبدالله
تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
السابق بوست
كل هذه الفصائل المرتزقة من حبايب الله ستبقى عالة على النظام الإيراني بعد انسحاب القوات الأمريكية
القادم بوست