قراءة الشاعر والناقد د. سعد ياسين يوسف لمجموعتي (على أثير الجليد)

703

عبد الستار نورعلي

تجلّيات الغربة …

بين صخرة سيزيف … وحلم السّندباد .

قراءة نقديّة في مجموعة “على أثير الجليد” (1)

د . سعد ياسين يوسف

تشكل الغربة المكانيّة ممثلة بالإغتراب عن الوطن ” ظاهرة إنسانيّة عامه لا ينفرد بها جيل دون جيلٍ آخر فهي موجودة منذ وطئ الأنسان هذه الأرض وبدأ طريق المعاناة ” (2)

ويبدأ الإحساس بالغربة عند الإنسان منذ لحظات الولادة الأولى ومغادرتة رَحِمَ أمه الذي مكث فيه لأربعين أسبوعاً قبل أن يُقطع الحبل السِّري ويدخل الهواء لأوّل مرة في رئتيه مشكلا له صدمةً وإحساساً غريباً، دافعاً إياه لإطلاق الصرخة الأوّلى.

وعلى مدى سني عمره يتكرر هذا الإحساس ولكن بشكل آخر وبدرجات متفاوتة عند الإنسان فيعبر عنه بصراخ ٍ من نوع آخر وقد ينعكس على سلوكه وردّات فعله وطرق التعبير عنها.

غير أنَّ تجلّيات هذا الشعور عند الشعراء يأخذ منحىً إبداعياً بعد أن يفقد الغبطة الحقيقية بعيداً عن وطنه وقد “قيل لأحد الأعراب ما الغبطة ؟ : قال : الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الأخوان، قِيل له: فما الذلّة؟ قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان (3)

وقد لازم الإحساس بالغربة الشعراء منذ القصائد الأولى التي خطتها يدُّ الإنسان معبراً عن حنينه لأرضه ولأحبائه وللغبطة المُفتقدة، وأمتدَّ ليتجسد بالأساطير الرافدينيّة، وليس أدلّ على ذلك من غربة كلكامش بعد أن فقد صديقه أنكيدو، لتستمر هذه الظاهره في الأدب الجاهلي والتي تمثلت بالبكاء على الأطلال، وما برز بعد ذلك في العصور الأمويّة والعباسيّة وصولاً إلى الأدب في العصر الحديث، ليظهر مفهوم (المكانيّة) في الأدب العالمي والتي وصفها غاستون باشلار” …بأنَّها الصورة الفنية التي تذكرنا بذكريات ماضية ” (4)

ولأنَّها ماضية ومهشمة فإن الشاعر يلوذ بالحلم ليحقق توازناً عبر كتابة القصيدة فالشعر على حدِّ وصف باشلار “حلم مكتوب ”

وفي مجموعة (على أثير الجليد) للشاعر العراقي المغترب (عبد الستار نورعليّ) تتجلى معاني الغربة بأوضح صورها عبر نصوصه التي تراوحت بين القصيرة والطويلة والمتوسطة.

* سيميائيّة الغلاف وتجلّيات العتبات النصيّة :

منذ النظرة الأولى يمنحك الغلاف شعوراً بالغربة، وبمدى الألم الذي تكتنزه الرموز والإشارات المرئية فيه حينما يتسع الجليد، ويتشكل ككائن الفقمة الذي يرفع رأسه إلى السماء وقد تجمّد جسده المكتنز، ومن زاوية أخرى يبدو كقاربٍ غرقَ في الجليد لترتفع مقدمته إلى الأعلى على خلفية تتساوى في فضاءاتها الزرقاء الأرض بالسماء لولا فاصلٍ من خط ضوءٍ شحيح هو كل ما تبقى من مساحة الأمل بعد أن تجلّل العنوان واسم الشاعر باللون الأسود تعبيراً عن حزنه لما فقده، وما فقده كان كبيراً، عالمه، أرضه، ووطنه، فسعى إلى لملمة حلمه المكتوب، وليكون “العنوان خلاصة دلالية لما يظنّ الشاعر أنَّه فحوى قصيدته أو الهاجس الذي تحوم حوله، فهو إذاً يمثّل تفسيرالشاعر لنصه ” (5) وهو من العتبات النصيّة الأوّلى التي تحدد معالم المجموعة ومرجعياتها الإبداعيّة.

وقد عرّف علماء الألسنية العناوين: ” بأنها مجموع الدلائل اللسانيّة من كلمات وجمل وحتى من نصوص تظهر على رأس النصّ لتدلَّ عليه، وتهيئهُ وتشير

لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف “(6)، وهذا ما يؤكده نصّ الشاعر الوارد في مقدمة المجموعة تحت كلمة (استهلال) والذي جاء فيه:

” حين تضيق السبل، يشعّ من الداخل ضياء يطفو لينير…حلم أنْ ترى الحروف سبيل النهار. الحروف التي عبرت مضائق المعاناة، واجتازت صخور الألم المدببة الملساء، تدمى أقدامها، تنزلق، ثم تنتصب، لتنطلق همسةً، صرخةً، من أعماق سيزيف، لا أنْ تنام في الظلِّ ملقاةً، يسامرها الغبار….” (7)

وجاء الإهداء ليضيف عتبة أخرى تؤكد لنا الإحساس ببرد الفقد وضياع الغبطة (والكفاية في لزوم الأوطان) كما قالها الجاحظ، ليلوذ شاعرنا بوطن ٍ ابتكره لنفسه وضاق به عليه هو وأسرته والتي أسماها وطنه والحضن الأثير وشعبه الأعزّ ليصنع غبطة ً وليذيب بعض الجليد كي تتسعَ مساحات النور.

وتأتي قصيدة المجموعة (أغنيات تُبثُّ على أثير الجليد) التي اجتزأ منها الشاعر العنونة والمؤلفه من عدد من المقاطع بعناوين فرعية لتؤكد تجلّيات غربته بكلِّ وضوح وتمنحنا إحساسا باللاجدوى والألم ومقدار الإحباط الذي عاشه الشاعر كما في نصّ (المغني):

“صعد المغني مسرحَ الكلامِ ،

غنّى…

ثمَّ غنّى

طربَ الناسُ ،

انتشوا ،

فبكى…

وتوارت كلماتُه …”(8)

فما بين فرح الناس وطربهم ونشوتهم، يأتي بكاء المغني وهذا الشعور كافٍ أن يزرع الغربة في الروح في وقت لا يستطيع أن يبوح بما في قلبه وروحه.

ويأتي نصّ (الغريب) ضمن مجموعة النصوص المندرجة تحت عنوان (أغنيات تُبثُّ على أثير الجليد) لتمثل تصريحاً واضحاً على ما ذهبنا إليه :

“وكلُّ شيءٍ يُشعل الضجرْ

نحملُ فوق القلبِ والرقابْ

حقائبَ السفرْ

فكلَّ يومٍ نختفي عن أرضْ

ونلتقي بأرضْ

ترفضنا الخطوط بين الطولِ…

بين العرضْ …” (9)

وكذلك نصّ (القفز) يظهر لنا أثر الاغتراب والبعد عن الوطن في تفاقم الشعور بالقلق والألم وعدم الاستقراروهذا ما يزيد إحساس الشاعر بالغربة وهو الساعي إلى الاستقرار والركون إلى أرضٍ تحتويه.

“قفزتَ بين الأرض والأرضِ…

والأرضِ..

وسُحْتَ

فتخطيتَ المكانْ

قلْ لي متى تشعرُ بالأرضِ

وبالأمانْ؟! ” (10)

لقد عبّر شاعرنا هنا عن أحاسيسه والتي وصلت إلى ذروة التأجج حينما يتوجه بالسؤال لنفسه قائلا: ” قلْ لي متى تشعرُ بالأرضِ وبالأمانْ؟!” فهو بين الفعل الظاهر وهو القفز بين الأرض والأرض ،وبين الكثير من الألم الذي لم يعد ظاهراً، بل كشف عنه السؤال المرير لنفسه ، يحقق تواجد “خصائص العناصر التي تجعل من الشعر شعراً… العناصر الظاهرة والخفية… ” (11)

وجاء مقطع (الأمان) بما يشبه مقطع (القفز) من حيث المعنى والأفكار ولتأكيد المعاناة في رحلة الشاعر للبحث عن الأمان :

” لا شيءَ يستاهلُ أنْ تحملَهُ إلا الأمانْ

فكلُّ ما مرّ على الانسانْ

في كلِّ عصرٍ وأوانْ

البحثُ عن مكانْ

ينعم فيهِ بثياب الحبِّ والأمانْ” (12)

* تجلّيات صخرة سيزيف :

في قصيدته (الأحجار) يستدعي الشاعرهنا ثلاثة رموز الأول أسطوري اغريقي وتجسّد ب(سيزيف) ورمزين تأريخيين عربيين هما (عمار بن ياسر) وأمه (سميّة) من مشاهير الصحابيات في الإسلام، ليعبّر من خلاله الشاعر عن ألمه وسخطه على هيمنة القوة والسلطة، وما ينجم عن ذلك من ظلم ٍ ، فسيزيف يرفع الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلى قمته وتسقط ليعود فيرفعها دلالة على ديمومة المعاناة والألم والعذاب الأبديّ، أما عمار وأمه سميّه فقد وُضعت الحجارة الكبيرة على صدريهما وهما مشدودان إلى رمال الصحراء الساخنة وتحت أشعة الشمس المحرقة ليوجه أبو جهل طعنة مميتة إلى قلب سميّة فماتت تحت أنظار ابنها لتكون أوّل شهيدة في الاسلام… وكلاهما تعرض لغضب الأرباب، فسيزيف حصل له ماحصل بسبب غضب الآلهه لتمرده عليها، وكذلك للرمزين العربيين بتمردهما على دين أسيادهما وإيمانهما بالإسلام وبقيمه السمحاء وهذا ما أختزله الشاعر في هذا النص ّ:

“يحمل فوق الكاهل حجراً

يتسلق جبل الآلامْ

يصعدُ…

يهبطُ…

في دائرةٍ، والأفقُ ظلامْ،

عمارٌ يحبسُ صرختهُ

سيزيفُ دؤوبٌ، مصروعٌ كالدولابْ

………. ……

وسُميّةُ

فوق الصدرِ الضامرِ حجرٌ

ما أثقلُهُ ! ” (13)

وقد اختصر الشاعر النصّ بكلمتين وصف فيهما غربته وهما (الأفق ظلام) تعبيراً عن اليأس واللاجدوى وهما شكل من أشكال الغربة والابتعاد عن الحلم، الذي طالما سعى إليه وهو يبحث عن حياة آمنة مستقرة .

إن الشاعر بهذا الاستخدام الرمزيّ لم يسعَ إلى التوثيق وكتابة هذه القصة تأريخيا، بل سعى إلى تمرير رؤاه الفلسفيّة في رفضه لغربة روحه حينما يكون مستلبا ومسحوقا بقوى عليا مهيمنة وبكل ما يمس كينونة الإنسان وسعيه إلى تحقيق أحلامه وخلوده حتى لوتطلب منه ذلك، وقوفه بوجه الآلهة. وبهذا الصدد يقول الفيلسوف أرسطو وهو يتحدث عن قيمة الشعر: ” بأنَّه أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ “(14) ….. ”وإنَّ الشاعر في محاكاته للأشياء يسبح في الكليات بدلاً من الجزئيات التي ألفَ التاريخ قولها” .(15)

ولوعدنا إلى قصيدة (الغريب) لوجدنا ثمة تماثل وتطابق بين الشاعر و( سيزيف) في المعاناة حينما تتحول حقيبة السفر إلى صخرة سيزيف التي تثقل كاهله، وهو يحملها من بلد إلى بلد .

“وكلُّ شيءٍ يُشعل الضجرْ

نحملُ فوق القلبِ والرقابْ

حقائبَ السفرْ …” (16)

فهو ذات المشهد السيزيفيّ الذي يعيش معاناته الأبديّة شاعرنا، ولكن في رحلة البحث عن الأرض والأمان لتترك (الحقائب – الصخرة ) أثرها ليس فوق الكاهل فحسب بل في القلب لأنَّ التعب ليس جسديا ً فحسب وإنما هو تعب روحي وفكري وعاطفي يتجسد في غربة الروح الباحثة عن غبطتها المفقودة عبر الترحال .

وفي قصيدته (قال الحكيم بيدبا) يلبس الشاعر قميص سيزيف، ولكنَّه جاء به هنا عبر تناصّ آخر ألا وهو مقولة الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) المعروفة ” ذقت الطيبات كلّها فلم أجد أطيب من العافية، وذقت المرارات كلّها فلم أجد أمَرّ من الحاجة إلى الناس ،ولقد حملت الصخر والحديد فلم أجد أثقل من الدَين .” (17)

وهكذا ينحو الشاعر هذا المنحى في وصف مكابداته فيقول :

“إني حملتُ الصخرَ

والفولاذَ

والقِمَمْ

والحرفَ

والأنوارَ

والكلِمْ

فلم أجدْ أثقلَ منْ

كلام دجالٍ حَكَمْ ….”(18)

إنَّ مجرد إحساس الإنسان بأنَّ رقبته بيد الحاكم الذي يفعل به ما يشاء وكأنَّه مَدين له تمنحهُ شعوراً صادماً من الألم والغربة والخوف مِن أنْ يقطع سيف الحاكم رقبته لا لشيء إلا لأنَّه رفض منطقَهُ .

وتطلّ فكرة الصخرة السيزيفيّة برأسها مرة أخرى وبقوة في مقطع من قصيدة (شهادة) :

” قد حملتُ الصخرَ والفولاذَ في الوادي السحيقِ،

بين لوع الشجر الملتفِّ والأغصانِ والزهر الحريقِ،

صاعداً نحو المسلّاتِ ” (19)

تعكس هذه التكرارات المرجعيّة الثقافيّة لشاعرنا (عبد الستار نورعليّ) واهتمامه بالموروث البلاغيّ الإسلاميّ والذي تحول في لا وعيه إلى مهيمنات فكريّة تتجسد صوراً في شعره يعيد تشكيلها للتعبير عن غربته وألمه ومعاناته وحريقه الذي هوحريق البلاد (العراق) عراق الحضارات ومسلّات العلم والمعرفة البشريّة الأوّلى، وهنا يتوحد عنده الخاص بالعام والذاتيّ بالموضوعيّ في عزفٍ سمفونيّ حزين يكون شاهداً على الخراب الذي حلَّ بالوطن .

وفي نص ّ (الرحيل) لجأ الشاعر إلى التضمين من التراث الشعبيّ تعبيرأ عن حزنه من فقدان الأرض والأهل عبر دوامة التنقل في محطات غريبة لم تطأها قدمه سابقا ولا تمثل له طموحه ولا تمت لذكرياته ولروحه بشيء مما جعله أمام غربة لا متناهية حينما يقول :

“يا فشلة الملهوف ويدور هله بمحطات”

صرنا محطاتٍ

حقائبَ ….”(20)

* السندباد ومفارقة حلم العودة :

يعدُّ السندباد شخصية أسطوريّة من شخصيات ألف ليلة وليلة وهو بحّار من بغداد. عاش في فترة الخلافة العباسيّة، ويقال إن السندباد الحقيقي تاجر بغدادي مقيم في عُمان (21).

زار السندباد الكثير من الأماكن السحريّة وواجه الكثير من الصعوبات أثناء إبحاره في سواحل أفريقيا الشرقيّة وجنوب آسيا في رحلاته السبع، ومن هنا يأتي استحضار السندباد من قبل الشاعر لعقد مقارنة بينه وبين الصعوبات التي مرَّ بها الشاعر والسندباد على حدٍ سواء، وإظهار فقد الشاعر لحلم العودة إلى الوطن، والإندثار في غربته القاتلة منطلقاً من تقابل الفكرة وتشظي الرمز وإعادة تشكيله في ضوء ما يعكسه من معانٍ ودلالات:

” تحملُ الزادَ وتنأى عن سواقيكَ….

فترحلْ،

ترسمُ الشوقَ على الريحِ…

على الماءِ…

على النخلِ…

على الضلعِ… وتشهقْ

(…. …. )

سندبادٌ أنتَ؟

لا… فالسندبادْ

حلمهُ طيفُ المعادْ،”(22)

فقد رسم شاعرنا النصّ بثنائية واضحة حينما قرن نفسة بالسندباد، سوى بالحلم، فالسندباد متاح له تحقيق حلم العودة إلى وطنه وقد فعل لينعم بالدفءِ على عكس

الشاعر الذي تعذرت عودته وبهذا فقد فكَّ اقترانه بالسندباد، ليعود إلى غربته التي ألفها.

ويُظهرلنا الشاعر عبر هذا النصّ كيف فُرضت عليه الغربة والتي لم تكن حلمه، وخارج سقف توقعاته ولذا فهو يتوجه لنفسه بالسؤال فيقول:

” سندبادٌ أنتَ؟!

هذي رحلةٌ ليستْ على خارطةِ الحُلْمِ

على ما كانَ ينوي السندبادْ،

سندبادٌ أنتَ منْ أشتاتِ أرضٍ …” (23)

ويتأكد هذا المضمون ـ أي الهجرة القسريّة والترحال ـ في قصيدة (رشدي العامل) والتي يصرح فيها عن رفضه للهجرة والترحال :

” في كلِّ يومٍ هجرةٌ،

فشاعرٌ يحطُّ بينَ غابةٍ

تلتفّ بالأشباح والأضدادْ”

…… ……

“وشاعرٌ ماتَ مع المساءْ،

في كلِّ يوم هجرةٌ…

منفىً… رؤىً..صمتاً… واختفاء،” (24)

تُظهر لنا هذه القصيدة بكلِّ جلاء اندفاع الشاعر إلى غربته ورحلاته السندباديّة قسراً بفعل الأشباح والأضداد الذين يحاصرون الشعر والشعراء في غابة اسمها الوطن. ولذا فللشاعر كلّ يوم منفى واحتمال موتٍ وهذا ما حصل للشاعر العراقي رشدي العامل.

ويأتي استدعاء هذا الرمز الثقافي في المجموعة إلى جانب رمز ثقافي آخر هو المبدع (بلند الحيدري) الذي وصفه بأنّه شيّد جسراً بين وجهين وأقام صرحاً لرسوخ الحبّ ليطلَّ بعدها من خلال رمزفكري ثالث وهو (الحلاج) على موضوعة الثبات على قول الحقّ والمبدأ، حتى لوكلف ذلك الإنسان أن يهرب إلى منفاه، أو حياته بالصلب والذي اختاره الحلاج مزهواً:

“هو ذا الحلاجُ مصلوباً ،

ويزهو

دون أنْ يعرفَ للخوفِ طريقاً

أو رفيقا…” (25) .

* الملاذ الآمن … المرأة :

على مدى مجموعته على أثير الجليد تختفي المرأة في شعر(عبد الستار نورعلي) إلا من إشاراتٍ نادرة وكأنَّه أراد أن يخوض حربه مع الحياة ومواجهة الغربة لوحده متحلّياً بخلق الفرسان في أن يتصدى لهذا الموضوع بكلِّ شجاعة دون أن يقحم الحبيبة فيه، بل جعل الحبيبة ملاذهُ الآمن بعد أن ينتهي من معركته ويلقي بجسده تحت ظلال نخلتها متأملاً أعذاقها حالماً بتمرها، وليبث لها وجده وما عاناه في رحلته السندباديّة في مواسم الهجر والبعد والمنفى ومعاناته الأبديّة وهو يحمل صخرة الغربة والترحال على كتفه كما في قصيدة (ذريني):

” دعيني ألمسُ الأعذاقَ في نخلي،

لعلّي أحصدُ التمرا،

فأغرقُ ضفةَ الشطينِ بالأشعارِ والشهدِ

كلاماً عامراً بالحبِّ والوردِ

دعيني، فالمرايا تعكسُ الأصداءَ في وجهي

تجاعيداً طواها الدهرُ في الجلدِ

أقامَ مواسماً للهجرِ والبعدِ

دمي شريانُ أغنيةٍ..” (26)

ويعكس عدم اقحام الشاعر المرأة في رحلاته وأهواله التمسك بمنظومة القيم الشرقيّة والمرجعيات الثقافيّة والاجتماعيّة التي تسعى لصيانة المرأة وإبعادها عن المصاعب حيث يتكفل فارسها بالدفاع عنها وتحقيق ما يصبو إليه بشجاعته ومثابرته ليعود إلى دفئها وهي تضمّد له جراحاته وتُنسيه أهوال غربته.
وإذا اعتمدنا تأريخ كتابة القصائد كمرجعية لفهمنا لقصائد المجموعة سنجدها تشير إلى حقبة صعبة في حياة الشاعر، وهي حقبة تسعينيات القرن الماضي وما شهدته من تطورات سياسية ضاغطة على الإنسان العراقي بعد أن خرج من حرب شرسة مع ايران ليُزج مع بداية التسعينيات في حرب أخرى، أعقبها حصار دولي مما دفع الكثيرين إلى الهجرة وركوب أهوال الغربة والضياع والتشتت في المنافي إذْ نجم عنها شكل من أشكال الأدب الجديد الذي يعكس إحساس الأنسان العراقي بالغربة، وبالمقابل برز هذا الإحساس حتى لدى من بقيَ في الوطن بعدما حالت الظروف عن خروجهم من أتون الحياة ليعيشوا غربتهم في داخل الوطن ولينعكس ذلك في نتاجهم الأدبيّ .

ولو تناولنا النتاج الشعريّ والسرديّ خلال فترة التسعينيات للمبدعين العراقيين الذين لم يهاجروا لوجدنا الكثير من النتاجات التي تتشح بالغربة والمعاناة، غربة الوطن وغربة الروح لما حلَّ بهم، والذي يوازي الإحساس بالغربة الناجم عن ترك العراق.

* عتبات جانبية :

– لقد غلبت التفعيلة على قصائد المجموعة بشكل واضح جداً وكثيراً ما كان الشاعرُ يفخّم موسيقاها بالقافية مُعلياً صوت الإيقاع المتفجر في القصيدة ليوازي إيقاع روحه المتفجرة ألماً وثورة على واقعٍ مرير، فيما لم نلمس ذلك في منجزه المتأخر الذي مال إلى التروي والتكثيف والإبتعاد عن الإيقاعات العالية والتي تندرج ضمن توصيف قصيدة النثر وقصيدة (نصّ خارج النصوص) خير دليل على ذلك، وحسناً فعل الشاعر في ذلك لمواكبة تطور القصيدة العربية الحديثة التي أشتغل روادها، السياب، نازك، ومن ثم أدونيس، على النهوض بها لتواكب حركة الشعر العالميّة .

أما لغة القصائد فقد كانت سلسة ومنسابة تبتعد عن كل ماهو غريب وناتيء في اللغة، سعت بجِرسها إلى أنْ تمنح المتلقي حرارة ودفق إحساس الشاعر. ويتظافر الجِرس الموسيقي مع جمال الصورة الشعريّة لتقدم للمتلقي مشهداً شعرياً اشتغل عليه شاعرنا بمهارة الشاعر الستينيّ، إضافة إلى وجود مقاطع شعرية عالية التكثيف كما في قصيدته (معزوفات غير موسيقيّة للفرح) .

إن الشاعر عبد الستار نورعليّ من خلال مجموعته الأولى هذه استطاع أن يكون شاهد عصر، ومسلّة رفض لما لحق بشعبٍ بأكمله بعد أن وظف وعيه وقدراته الإبداعيّة ومنظوره الفلسفيّ في إطلاق نشيده “على أثير الجليد” وليذيب جليد حزنه منطلقاً إلى آفاقه الإبداعيّة الرحبة .

______________________

(1) مجموعة شعرية للشاعر عبد الستار نورعلي ، مركز أنشطة

الكومبيوتر في أسكلستونا / السويد 2000، ط1

(2) فاطمة محمد حميد الموسوي ، الاغتراب في الشعر الأموي ، مكتبة

مدبولي ط1، ص7.

(3) عمرو بن بحر الجاحظ ، الحنين إلى الأوطان ، ط2، دار الرائد

العربي 1982ص 38- ص39.

(4) غاستون باشلار، جماليات لمكان ، غالب هلسا ( مترجم ) ط2،

بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات ، 1984، ص6.

(5) عبد الله الغذامي ، ثقافة الأسئلة ( مقالات في النقد والنظرية ) دار

سعاد الصباح ، ط2 ،1992 ، ص 48.

(6) رشيد يحياوي ، الشعر العربي الحديث ، دراسة في المنجز

النصّي،أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1998، ص115

(7) عبد الستار نورعلي ّ ،على أثير الجليد ، المصدر السابق ص5

(8) على أثير الجليد المصدر السابق ص23

(9)المصدر نفسه ص26

(10) المصدر نفسه ، ص29

(11) أحسن مزدور. مقاربة سيميائيّة في قراءة الشعر والرواية. ط1،

مكتبة الآداب، القاهرة، 1425هـ – 2005م. ص65.

(12) على أثير الجليد المصدر السابق ص32

(13) المصدر نفسه ص37

(14) أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متّى بن يونس القنّائي،

حققه مع ترجمة حديثة، شكري محمد عياد، القاهرة، دار الكاتب

العربي للطباعة والنشر، 1967. ص64.

(15) ينظرالمصدر نفسه. ص ن.

(16) على أثير الجليد المصدر السابق ص26

(17) ينظر نهج البلاغة ،تحقيق محمد عبده ،دار البلاغة – بيروت،

ط5 ، 1412 هجرية .

(18) على أثير الجليد المصدر نفسه ص40

(19) المصدر نفسه ص71

(20) المصدر نفسه ص47

(21) د.عبد الرحمن عبد الكريم العاني، تاريخ عمان الإسلامي، مطبعة

العاني، بغداد، 1985، “أطروحة دكتوراه” ص 23

(22) على أثير الجليد المصدر السابق ص53 .

(23) المصدر نفسه ص51

(24) المصدر نفسه ص66

(25) المصدر نفسه ص77

(26) المصدر نفسه ص96-70

المصدر