يعتبر توفيق فياض الذي يعيش بتونس منذ 1982 والذي رفض العودة إلى فلسطين المحتلة بعد اتفاقية أوسلو، واحدا من أهم الأصوات القصصية الفلسطينية منذ الستينيات.
واشتهر فياض علاوة على إنتاجه الأدبي ونضاله السياسي بترجمة رواية “خربة خزعة” للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلانسكي والتي مثلت إحراجا كبيرا لإسرائيل، لأنها رواية إسرائيلية وبقلم إسرائيلي قدمت فظاعات الكيان الصهيوني وما يفعله بالشعب الفلسطيني الأعزل بالأراضي المحتلة عام 1949.
فلم تكن “خربة خزعة” إلا قرية رمزية تمثل كل القرى التي هجّر الاحتلال سكانها الأصليين، ومما زاد من حرج إسرائيل أن هذه الرواية تحولت إلى فيلم تلفزيوني.
كتب فياض العديد من الأعمال الأدبية للكبار واليافعين منها القصصي مثل “الشارع الأصفر” 1968، ومنها الروائي مثل “المشوهون” و”المجموعة 778″ و”حبيبتي مليشيا” وأيضا “الكلب سمّور” و”وادي الحوارث”، ومنها المسرحي مثل “بيت الجنون”.
لكن ظلت مجموعة “الشارع الأصفر” واحدة من روائعه القصصية التي يعاد نشرها كل مرة في بلد عربي جديد لتعيش بين قراء جدد وتطرح قضاياها التي ليست سوى قضية واحدة هي القضية الفلسطينية.
فبعد الطبعات البيروتية وطبعات القاهرة ودمشق وغزة ورام الله أتت الطبعة التونسية عن دار وشمة في 10 قصص بمقدمة للروائي إلياس خوري وتذييل لمحمد دكروب.
المقاومة كتابة ثانية
يكتب توفيق فياض، في 10 قصص قصيرة، الفلسطيني الآخر، ذلك الفلسطيني الذي بدوره ليس فلسطينيا واحدا بل متعددا اختار بعضه أن يلوذ بالصمت ليعيش بأمان أو يتجنب بطش المحتل بينما اختار آخر أن يقاوم بشتى الأشكال من أجل أن يحافظ على هويته وأرضه مدافعا عن الحق.
تتوزع القصص العشر على 130 صفحة تحت عناوين هي: الشارع الأصفر، والراعي حمدان، وأم الخير، وكذلك الفرس، والنبع، والحرس، وأيضا الديك الضائع، وليلة القدر، وقطتي الشقراء، وأخيرا الكلب سمور.
في قصة الشارع الأصفر يكتب فياض عن مناضلي الداخل الذين يتعرضون للاعتقال والتعذيب والتنكيل. فالمظاهرات التي يخرجون فيها، في تلك الفترة، لا تقابلها دولة الديمقراطية إلا بالعصي والضرب والاعتقال ليبدأ موسم التعذيب والتشفي.
ويمثل هذه الفئة المناضل أمين أسعد الذي اعتقل وعُذّب بسبب مشاركته في مظاهرة ضد المحتل وسلبت منه خطيبته وداد التي تحبه ويحبها وزُوّجت برجل آخر إمعانا في إذلاله.
يستجير فياض باللامعقول لكتابة فنون التعذيب التي تعرض لها أمين سعد ورفيقه سليم واكد ويوظف الكاتب أساليب شتى كالسوريالية كما انتبه إلى ذلك إلياس خوري في قراءة القصة.
يكتب فياض مستندا إلى الكتابة الكابوسية الكافكاوي (نسبة إلى فرانز كافكا) عملية التعذيب، “وقد شرع القصاب في تقطيع أوصاله وهو لا يزال حيا، دون أن يستطيع الكلام، كان ينظر إليه وهو يقطع يديه على الجذع، ويضع قطعها على الطاولة! ثم ما لبث أن قطع رأسه ووضعه إلى جانب يديه!! كانت عيناه لا تزالان مفتوحتان، وعقله يعي كل ما يفعل به، إلا أنه كان الدم يسيل من عنقه النافر بين كتفيه!! كان يراقب المارة بعينيه الجاحظتين، علّ أحدا يعترض على ذلك أو يدهش على الأقل، إلا أن أحدا لم يعر ما يحدث اهتماما! كما لو كان أحد الأشياء المألوفة في حوانيت القصابين في هذه المدينة!”.
ويتابع “كان يتألم تحت ضربات منشة القصاب على رأسه، وهو يطرد عنه الذباب المتراكم على أطراف فكيه وعينيه! ولكن لسانه المشلول كاد يتحرر من كماشة أسنانه المطبقة عليه ويتكلم، حين أخذ أحد الزبائن رأسه المقطوع بين يديه، وراح يقلبه متفحصا، ثم وضعه في شقة الميزان وهو يساوم القصاب على ثمنه، مما جعله يصرخ بأعلى صوته محتجا على ذلك”.
بهذا المشهد الكابوسي وصف فياض ما يُفعل بالفلسطيني على مرأى من العالم كله دون أن يكون هذا المشهد اللامعقول مثيرا لاستغرابه والكاتب بهذه السوريالية الرمزية لا يدين الكيان الصهيوني فقط بل يدين العالم كله بما في ذلك الفلسطيني الصامت نفسه.
يطرح توفيق فياض موضوعا أكثر تعقيدا من خلال قصة الشارع الأصفر وهي قضية الهجرة والتهجير وكلتاهما فعل قسري يتعرض له الفلسطيني إن كان بالترهيب أو بالترغيب عبر صوت ريتا التي تقول له، “إنك تعيش في قبر، شعبك كله يعيش في قبر، مظلم وقاتم وطنك هذا الذي لك، وليس لك، لماذا لا تهجره؟ لماذا؟”.
وفي مقابل هذا التحريض على الهجرة تفتح لهم كل السبل إلى الهجرة حيث تقول ريتا، “إنهم يفتحون لكم الطريق ويساعدونكم على ذلك، وإلى أي مكان تريد!!”.
ويصبح هذا الفلسطيني المتشبث بأرضه مناضلا من أجل استرجاعها بين فلسطينيَين آخرين، واحد في الداخل لم يعد يهمه إلا الرقص في الملاهي الإسرائيلية وآخر خيّر الهجرة والخروج من أرضه إلى أرض أكثر أمنا.
تعتبر هذه القصة من أكثر القصص طرحا لإشكال الهوية الفلسطينية التي يدين فيها الداخل الخارج بالهروب ويدين فيها الخارج الداخل بالإذعان.
الخارج الهارب الذي خير حياة الرفاه في المنافي والداخل الذي باع قضيته من أجل حياة الرفاه والأمان تحت ما سماه فياض الظهور بمظهر “الجينتلمان” الذي يرضى بأن يسحب رجل غريب زوجته ليراقصها “رقصة السلو”، دون أن يحرك ساكنا بل يقبل ذلك تحت يافطة التحضر.
لذلك يقدم أمين أسعد نفسه قربانا للمئات الذين تحولوا إلى عشرات بسبب الهجرة والاندماج ويظل في أعلى العمارة يقذف حشود المحتل بالقيء فلم يعد عنده من سلاح إلا ذلك القيء الذي يذكرهم أنهم يثيرون القرف.
في مناعة الأدب ونصرة القضية
عبر القصص العشر التي يستدعي فيها توفيق فياض الحكايات الشعبية والأساطير العالمية والخرافات المحلية والمحكية الفلسطينية والأغاني والأهازيج الشعبية يكتب صاحب رواية “المشوهون” الحق الفلسطيني ويختار تنزيل معظم الكتابة في الريف في ذكاء واضح للعودة بالقضايا إلى أصولها الأولى وإلى طبيعتها أي استنطاق الأرض والسكان الأصليين قبل التشويه والتهجين.
وكأن بتوفيق فياض وهو يجمع كل هذه الحكايات يهرّب الذاكرة الفلسطينية عبر الأدب إلى الخلود في حركة حذرة من حركة الجرافة المتوحشة التي تأكل القرى الفلسطينية ومعها الذاكرة والثقافة والإنسان.
غير أن كل هذه القصص على الرغم من قتامتها فإن فياض يترك فيها بصيصا من الضوء، ولو كان كلبا عليلا أو عاشقا مريضا أو أغنية عند الوادي أو شجرة ضخمة تكبر لـ”تحضن بأغصانها المخضرّة بيوت القرية كلها”.
وهكذا يطرح التناول الأدبي للقضية الفلسطينية عند فياض -عبر قصص رمزية ولغة استعارية- أسئلة الحق الجماعي للشعب الفلسطيني بالبقاء في أرضه ومقاومة المحتل قبل طرح اتفاقات التطبيع والحلول والبدائل الفردية.